إنَّ الحديث عن ثورة الإمام الحسين(عليه السلام) لن يسعه كتاب ولا حتى موسوعة متكاملة تتناول هذا الحدث التاريخي الهام الذي شكل منعطفاً هاماً في مسيرة البشرية أضفى الوجود على اللاوجود وكشف الحقيقة بعد الانطماس تاركاً أثره في الكون جُلّه وذلك من خلال التضحيات المنقطعة النظير التي قدَّمها سيد الشهداء وأبو الأحرار أبو عبد الله الحسين(عليه السلام) فما عساني أن أتحدث بهذه العجالة عن أمر لولاه لما ولد الدين من جديد بعد أن آل على نفسه خليفة الأمويين أن ذاك يزيد بن معاوية (عليه اللعنة) على إماتة وحي السماء بكل ما أوتي من قوة متحدياً بذلك إرادة السماء وبكل جرأة فقد ورد في الحديث عن الإمام الحسن(عليه السلام) في ما يخصّ واقعة الطّّف الخالدة أنّه قال مخاطباً أخاه الإمام الحسين(عليه السلام): (لا يوم كيومك يا أبا عبد الله) (مناقب ابن شهرآشوب 3/ 238) وتيمُّناً بهذا الحديث الشّريف لابدَّ لنا أنْ نتمعَّن جيداً بكلام المعصومين(عليهم السلام) لما يحمل من معان جمّة،وهي في الواقع من أحسن الكلم ذلك لأنهم(عليهم السلام) لن ينطقوا بشيء إلا تعبيراً عن إرادته سبحانه وتعالى كونهم القرآن الناطق والذي يبين بالفعل آيات القرآن الصامت المتمثل بكتاب الله عزَّ وجل ومن هنا نود أن نبين
لقارئنا الكريم شيئاً من مراد الحديث الوارد الذكر في صدر الكلام ولعلَّنا نستقرئ ذلك في عدة محاور:
1- دلالة الحديث على أنَّ هناك خصوصية ليوم عاشوراء لاختلافه عن باقي الأيام من حيث البعد الزمكاني في الكون، هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإنَّ هذا اليوم العظيم يمتاز بشمولية المعاني والمفاهيم السامية مما يضفي عليه الخلود وإلى الأبد ولعلَّ العلَّة في عدم وجود المثيل لهذا اليوم وهو المتبادر إلى ذهن القارئ وبلا تكلف هو ما ذكرناه من شموليته من حيث الزمان والمكان ومنذ خلق آدم عليه السلام وإلى يوم القيامة.
2- ولكي يتضح مرادنا بالحديث لابد لنا أن نبين قصدنا بالشمولية التي ذكرناها في المحور الأول إذ نقول : إنَّ يوم عاشوراء يحمل في طياّته دروساً ناطقة تشمل الحياة بكل جوانبها وأقطابها إذ أننا نعتقد أن ثورة الحسين(عليه السلام) لن تترك مفصلاً من مفاصل الحياة إلا وغذَّته بالمبادئ والقيم ليتعلّم منها المرء ما يرد عليه نفعه في الدارين (الدنيا والآخرة) وإليك عزيزي القارئ ما تيسّر منها لكي نبيّنه وإلا فكل ما نقول بحق هذه الثورة الكبرى ويومها الخالد هو غيض من فيض إذ مهما كتب عنها الكتاب ومهما قيل عنها لا يدرك مقامها السامي كما قدَّمنا في بداية الكلام،
وذلك لأنها فاقت تصوّر المعقول وهي بالذات من ركائز الدين المحمّدي الأصيل وأُسسه التي تكون مسؤولة عن ديمومته واستمراره فمن الدروس التي نتعلمها من يوم عاشوراء هو درس عقائدي له مساس بالإيمان بالله تعالى والأنبياء والرسل وهذا يتضح لنا حينما نقرأ حديثاً ورد عن الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) في حقّ الحسين(عليه السلام): (إنَّ الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة) إذ نحن في الواقع مدينون لهذا الحديث ولمن قيل في حقّه كونه(عليه السلام) أحد أقطاب رحى الإيجاد وخامس أصحاب الكساء والاعتقاد به(عليه السلام) أصل من أصول الدين الإسلامي والأصل مقدَّم على الفرع بلا شك ومن هنا يتجلى لنا مبحث الاعتقاد بالإمامة التي هي من مكمّلات النبوّة وكما في صريح قوله تعالى في حجة الوداع حينما أشار
الرسول(صلى الله عليه وآله) إلى وجوب اتباع الإمام علي(عليه السلام) خليفة من بعده كما ورد في حادثة الغدير تفسيراً لقوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)، فالحسين(عليه السلام) هو خليفة الرسول الأكرم فعلاً بعد شهادة أخيه الحسن(عليه السلام) والذي ما هدأت نفس معاوية – والد يزيد وواهبه الخلافة التي أصبحت كرة يلعب بها الصبيان لا كونها الإمامة المكمِّلة للنبوة بشهادة الكتاب والسنَّة وإقرار العامة وإيمان الخاصة بذلك – ولا أقر له قرار إلا بعد أن سمَّ الإمام الحسن(عليه السلام) خارقاً بذلك كل العهود والمواثيق التي وافق عليها في الصلح بينه وبين أبي محمد الحسن(عليه السلام)،
ومن هنا يتبادر إلى الذهن سؤال لابد من الإجابة عليه ألا وهو (إذا كان خليفة المسلمين معاوية قد خرق كل العهود بينه وبين الإمام الحسن(عليه السلام) أمام الملأ وبشهادة التاريخ، والإسلام بطبيعة الحال يعتبر هذا الفعل أمراً قبيحاً حرمَّه الشّارع المقدّس وتوعَّد فاعله بالعذاب الأليم وقد جاء ذلك على لسان الكتاب المبين فكيف حقّ لمعاوية حينئذ أن ينصب ولده يزيداً خليفة من بعده مع ادعائه أنه خليفة لرسول الله في الوقت الذي حلّل لنفسه ما حرم الله؟ وجواباً على ذلك أقول وبصيغة السؤال أيضاً) هل إن الإنسان المنصف يقبل هذا الأمر فيرضى بمن هو معاد لله ولرسوله أن يكون خليفة للمسلمين. وأترك الكلام للتاريخ نفسه ليجيب وبكل صراحة ذلك أنَّ واقعة الطّف قد مثَّلت مفصلاً حيوياً ميّز الحق عن الباطل فكانت بحق درساً أنموذجياً يتعلم منه الأجيال حياة العز والكرامة والوقوف بوجه الاستبداد والطغيان وسلاطين الجور أبد الدهر وهذا يدلنا على أن أحد الأهداف الأساسية لواقعة الطّف هو هدف سياسي فضلاً عن باقي الأهداف الأخرى، وما تحدي يزيد لشخصية الحسين(عليه السلام) وهو الوارث الشّرعي للإمامة إلا تعبيراً عن العصيان المطلق لشريعة السماء ولعلَّ الحرارة والغليان اللّذين أشار إليهما الرسول
محمد(صلى الله عليه وآله) في حق سيد الشهداء: (إن لقتل ولدي الحسين(عليه السلام) حرارة في نفوس المؤمنين لن تبرد أبداً) هو مصداق لعقيدتنا الدينية والسياسية في شخص الحسين(عليه السلام) وما تحمله عاشوراء الخالدة هو صورة لهذا المصداق .