يتشدَّد بعضُ اللغويين في قضية الخطأ والصواب في اللغة العربية، ويرفضون كثيرًا مما يمكن تصحيحه نحوًا وصرفًا وأسلوبًا، ما يربك الكتّابَ والدارسين ويوقعهم في متاهات ((قل ولا تقل)).
وثمَّةَ توجُّهٌ عند فريقٍ من فقهاءِ اللغة، للتوسُّع في التصحيح، وتصويبِ ما يمكنُ تخريجُه بوجهٍ من الوجوه تسهيلًا للكتّاب و((إبراءً لذِمَمِهم)).
وهذه محاولةٌ لإعداد سلسلةٍ من الحلقات تتبنَّى تلك المدرسة، منتقاةٍ بتصرُّفٍ يقتضيه السياق من مصادرَ متعددة ٍ، نشير إليها توخيًّا للأمانةِ العلمية، ولمن يرومُ التوسًّعَ في البحث.
ومصدرنا في هذا العدد، معجمُ الصوابِ اللغويّ، دليل المثقف العربيِّ، للدكتور أحمد مختار، بمساعدة فريق عمل، والصادر في القاهرة عام 2008م عن عالم الكتب.
إضافة المعدود المفرد الى عدد غير مفرد:
خَطَّأَ بعضُ اللغويين إضافةَ المعدودِ المفردِ إلى عددٍ غير مفردٍ كقولنا: ((في سَنَةِ أربعٍ وتسعين))، أو ((نموذج سبعةٍ وخمسين))، وذلك لمخالفتها الاستعمال الفصيح: ((في السنةِ الرابعةِ والتسعين))، و((النموذجُ السابعُ والخمسون))، وأجازه آخرون، واعتبروه صحيحًا رغم مخالفته الاستعمالَ الفصيحَ، مستأنسين في ذلك بما جرى عليه قُدامى المؤرخين، وما جاء في كتاباتِ المبرَّدِ، وأبي حيَّان التوحيدي.
النسب إلى جمع التكسير:
المراكبيُّ، الحصريُّ، الأباريقيُّ، الجنائنيُّ، السكاكينيُّ، الصُحُفِيُّ، الشؤونُ القرويةُ، درسٌ أخلاقيٌّ، اتحادٌ طلابيٌّ، القوانينُ الدُوليَّةُ، بحثٌ وثائقيٌّ، تدريبٌ مهنيٌّ، تشريعاتٌ أمميَّةٌ، تشريعاتٌ عماليَّةٌ، تصرفٌ مُلوكيٌّ، جماعةٌ أصوليّةٌ، جمعيةٌ نسائيَّةٌ، رسائلُ إخوانيَّةٌ، عملٌ كنائسيٌّ، مدنٌ سواحليَّةٌ، مطلبٌ جماهيريٌّ، الروابطُ الأُسريَّةُ:
هذا الاستعمال مرفوضٌ عند بعضهم لأنه ينسب إلى جمع التكسير مباشرة دون ردِّه إلى المفرد، ومقبولٌ عند آخرين لأنَّ الأدقَّ في الأمثلةِ المذكورة هو النسبُ إلى الجمع، لتحقُّقِ قصدِ معنى الاشتراكِ الجمعيِّ.
ومسألةُ النسب إلى الجمع على لفظه، أو بِردِّه إلى مُفرده مسألةٌ خِلافيةٌ، فمذهبُ البصريين في النَّسَب إلى جمع التكسير الباقي على جمعيته، أن يُرَدَّ إلى مفرده، ثم يُنسبَ إلى هذا المفرد: (المركبيُّ، الحصيريُّ، الإبريقيُّ، الجنَّتيُّ، السكِّينيُّ، الصحيفيُّ. العامليُّ، الطالبيُّ…إلخ)، بينما أجاز الكوفيون أن يُنسبَ إلى جمع التكسير مطلقًا، سواءٌ أكان اللَّبسُ مأمونًا عند النسب إلى مفرده، أم غيرَ مأمون.
وبرأي الكوفيين أخذ مجمعُ اللغة المصري؛ لأنَّ السَماعَ يؤيدهم ؛ ولأنَّ النسبة إلى الجمع قد تكون أبينَ وأدقَّ في التعبير عن المراد من النسبة إلى المفرد، فإنْ أُريدَ الاشتراكُ الجمعيُّ، كان النسبُ إلى الجمعِ أفضلَ كقولنا: ((معرضُ النَّجَفِ الدُّوَليّ))، لأنَّ النسَبَ فيه إلى عدة دول تشارك في معرضٍ في النَّجف، وإنْ أريدَ مجرَّدُ النسبة، كان النسبُ إلى المفرد أفضلَ. مثل: ((مطار النّجفِ الدَّوْليّ))، لأنَّ النسبة فيه إلى دولة واحدة، هي العراق.
تغليب الجمع على المثنى:
((قال لهما لاتهتموا بأمري))، ((محمدٌ وعليٌّ حضروا)).
يرفض لغويون هذا الاستعمال بسبب معاملةِ المثنى معاملةَ الجمع، ويوافقهم آخرون على أن الأصلَ هو المطابقة: ((قال لهما لا تهتما بأمري. محمدٌ وعليٌ حضرا)). سوى أنهم يذكِّرون بأن معاملة المثنى معاملة الجمع، قد وردت لها أمثلة كثيرة في كلام الفصحاء، وفي القرآن الكريم، كقولهِ تعالى: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ)(الحجّ:19)،
وقولِهِ تعالى: (وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ… وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ)(الأنبياء:78)،
وقولِهِ تعالى: (إن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا)(التحريم:4)
وقوله تعالى: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا..)(الحجرات:9).
وعليه يصِحُّ الوجهان، وكلاهما من فصيح القول.
***********
توفَّى فهو متوَفٍ:
يرفض بعض اللغويين قولَنا: ((تَّوَفَّى فلانٌ))، لاستعمال المبني للمعلوم بدلا من المبني للمجهول. وقولَنا: ((فلانٌ مُتَوَفٍّ))، لاستعمال اسم الفاعل بدلًا من اسم المفعول.
الأفصحُ أن يقالَ: تُوُفِّي فلانٌ (بالبناءِ للمجهول)،فهو مُتوَفًّى (اسم مفعول)؛ لأنَّ الذي يَتَوفَّى الأنفُسَ هو الّلهُ، ومنه قوله تعالى: (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّ)(الحج:5).
ولكن قُرِئَت الآيةُ بالبناءِ للمعلوم، على توجيهِ أَنَّ ((تَوَفَّى)) بمعنى استوفَى أَجَلَهُ.
ومجيءُ ((تَفَعَّلَ)) بمعنى ((استفعَلَ)) واردٌ عن العربِ، ومنصوصٌ عليه في كتبِ النُّحاةِ، وهو ما دعا مجمعَ اللغةِ المصريِّ إلى قبول هذا التعبير، فأجازَ صحةَ استعمال المبنيِّ للمعلوم (تَوَفَّى) بمعنى ((استوفى أَجَلَهُ))، واشتقاقَ اسمِ الفاعل منه (مُتَوَفٍّ)، بمعنى ((مستوفٍ أجله)).
صوغ ((أفعل التفضيل)) مما الوصف منه على ((أفعل فعلاء)):
اشترط جمهورُ النحويين عند صياغة أفعل التفضيل، ألا تكونَ الصفةُ المشبهةُ منه على وزن ((أَفْعَل)) الذي مؤنثه ((فَعْلاء))، كالألوان والعيوب، حتى لا يلتبسَ أفعلُ التفضيلِ بالصفةِ المشبهةِ. لذلك خطَّؤوا القولَ:
فلانٌ أحمقُ من أخيه،… فلانٌ أصمُّ من فلان،… فلانٌ أعرجُ من فلان،… هذا أسْوَدُ من ذاك،… هذا الثوبُ أحمرُ من ذاك،… هذه الشجرةُ أخضرُ من غيرها،… هو أرعنُ من أخيه.
لكنَّ الكوفيين أجازوا ذلك لوروده في السماع، ومنه قوله تعالى: (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا) الإسراء/ 72، (الأولى صفةٌ مُشَبَّهَةٌ، والثانية أفعلُ التفضيل).
ومنه قولُ النبيِّ(صلى الله عليه وآله)، في صفة نهر الكوثر: (ماؤُه أبيضُ من اللبن) بحار الأنوار، ج8/، ص23.
وقال المتنبي: لأَنتَ أسودُ في عيني من الظُّلَمِ.
لذا يصحُّ القولُ: فلانٌ أشدُّ حُمْقًا من أخيه، وفلانٌ أحمقُ من أخيه،
وكلا الوجهين من الفصيح.
************
استعمال ((فَعلَ) بمعنى ((أَفعلَ)):
القنابل المسيِّلة للدموع،… حلَّلَ اللهُ البيعَ،… رأى منظرًا بكَّاهُ،… ربَّحتُ فلانًا على بضاعته،… رسَّبَ الطالبَ، … رَسَّخَ قدميه في العلم،… طمَّعَ أخاه في المال،… فَلَّسَ التاجرُ،… وصَّلَهُ إلى البيت.
يرفض لغويون صحة هذه العبارات لاستعمال صيغة ((فَعَّل)) بمعنى ((أَفعَلَ)). ويردُّ آخرون بأنه استخدام صحيح، لأنه من الثابت في لغة العرب مجيء ((فَعَّل)) بمعنى ((أَفْعَل))
نحو: خَبَّر وأَخْبَر، وسَمَّى وأَسْمَى، وفَرَّح وأَفْرَح، وكقول ((اللسان)): ((أضعَفَه وضعَّفه: صيَّره ضعيفًا))،
وكقول التاج: ((طمَّعتُ الرجُلَ كأطمعتُه))، وقولِهِ: ((وصَّلَه إليه وأوصلَه: أنهاهُ إليه وأبلغهُ إيَّاهُ))،
وقد اتَّخذَ مجمعُ اللغةِ المصري قرارًا سمح فيه بنقل الفعل الثلاثيِّ المجرد إلى صيغة ((فَعَّل))، لإفادة التعدية أو التكثير، ووافقَ على صحةِ الألفاظ المستعملة مثل: خَدَّر، حَضَّر، وَرَّد، شَخَّص، جَسَّمَ، حَلَّل، شَرَّع؛
وبناءً على ذلك أمكن تصحيحُ الأفعال الآتية: رَبَّح، رَسَّب، رَسَّخ، فَلَّس، هَدَّأَ، صَلَّحَ، ومشتقاتها، أما الكلمات: سَيَّل، حَلَّلَ، بَكَّى، ضَعَّفَ، طَمَّعَ، مفرَّغة، وَصَّل، فقد ورد بها سماع.
فالفصاحةُ إذن تقتضي استخدامَ صيغة ((أفعل)): القنابل المُسيِلة للدموع، أَحَلَّ الله البيعَ، رأى منظرًا أبكاهُ، أربَحْتُ فلانًا على بضاعته، أرسَبَ الطالبَ، أرْسَخَ قدميه في العلم، أطمَعَ أخاه في المال، أفْلَسَ التاجرُ، أوصَلَهُ إلى البيت.
لكن عند الحديث عن الاستعمال من حيث الصحةُ لا الفصاحة،
جاز لنا تقريرُ
صحة الوجهين.
************
وصفُ جمعِ غيرِ العاقلِ بالمفردةِ المؤنثةِ:
يعترض بعضهم على القول:
احتفظتُ بالكتب القديمة، رأيت ذوي القمصان الزرقاء، عيونٌ سوداء، قصائدُ غَرَّاء، له علَيَّ أيادٍ بيضاء، مُروجٌ خضراء.
وسبب الاعتراض، عدمُ المطابقةِ بين الصفة والموصوف من حيث الجمعُ، وذلك بوصف الجمع بالمفرد.
ويخالفهم آخرون في الرأي، قائلين: حقًا إن الأصل في الصفة أن تطابقَ موصوفَها في الإفراد والجمع، ولكن وَرَدَ عن العرب عدمُ المطابقة، بوصفِ جمعِ غيرِ العاقلِ بالمفردِ المؤنَّث. وقد وافق الاستعمالُ القرآنيُّ عدمَ المطابقةِ في أكثرِ من آيةٍ، كقوله تعالى: (وجوهٌ يومئذٍ ناعمة)(الغاشية:8)، حيث وصف كلمة ((وجوه))، وهي جمعُ تكسير، بالمفرد المؤنَّث: ((ناعمة)). وكذلك قوله تعالى (مآربُ أخرى)(طه:18)، وقوله تعالى أيضًا (آياتُ ربِّهِ الكبرى)(النجم:18)، وقوله تعالى أيضًا (حدائقَ ذاتَ بهجة)(النمل:6).
لذلك أجازوا صحةَ الوجهين
: القُمصانُ الزُرْقُ، أو الزرقاءُ. عيونٌ سُودٌ، أو سوداءُ. قصائدُ غُرٌّ، أو غَرَّاءُ. أيادٍ بِيضٌ، أو بيضاءُ. مروجٌ خُضْرٌ، أو خضراءُ.
وكلاهما من الفصيح.
************