Take a fresh look at your lifestyle.

القصة القصيرة …. علمني درساً

0 768

بنت العراق 

     تلك أيام ما بعد الحرب أتذكر ذلك وكأنه البارحة.

        كان عمري تسعة أعوام أو يزيد بقليل…

           يومها كنا نحمل الدلاء والقدور أنا وأختي التي تكبرني بعامين ونسير مسافة طويلة بالنسبة لأقدامنا الصغيرة لنحمل الماء إلى المنزل…

           كان الماء شحيحاً…

              وقد احتفر أهل الحي بير بعيد حتى عثروا على الأنبوب الرئيسي فأحدثوا فيه نقباً..

     وهكذا تجتمع النساء في طابور طويل معهن القدور والدلاء وكل ما يصلح أن يحفظ الماء. وهن أثناء ذلك يتحدثن بكل تفاصيل حياتهن:

              الزوج… الأولاد… الطبخ… العمل..

                 وحتى السياسة التي يكون الحديث عنها همساً…

                   وكنا أنا وأختي نستمع إلى تلك القصص ونحفظها. نجلس القرفصاء غير بعيد عن طابور الأدعية. نتطلع إلى أدعيتنا الصغيرة بالنسبة إلى غيرها التي بسبب صغر حجمها نعود أكثر من مرة حتى نلبي حاجة البيت من الماء…

        وأثناء الانتظار الطويل نقتل الملل بالإصغاء إلى حكايات النساء وأسرارهن ونتهامس في ما بيننا ونعلق ونضحك. ننسى التعب والملل..

           فالطريق طويل وأقدامنا الصغيرة تعبد ونحن يدب أن نملأ كوز الماء وقدور الطبخ و…. و….

               كانت أمي تحرص على الماء شفقة بنا…

                  إلا أن ذلك لا ينفع فلابد لنا من قطع المسافة ثلاث مرات ذهاباً وإياباً صباحاً ومثلها عصراً…

      وعندما ننتهي كانت تعطينا شيئاً من الماء نغسل به أيدينا وأقدامنا ووجوهنا…

             ثم نسرع متلهفتين إلى ألعابنا التي أغلبها من الورق أو العلب الفارغة أو القماش الذي نصنع منه دمى صغيرة…

   وفي يوم ما سكن بجوارنا…

         جار جديد جئت لأمي بالخبز…

               فحرصت أن ترسل بأيدينا وقت الغداء شيئاً من الطعام كما اعتاد الناس.

      طرقت الباب بينما تحمل أختي أواني الطعام…

            فتحت الباب امرأة عجوز عرّفناها بأنفسنا وأشرنا إلى دارنا المقابلة لمنزلهم…

                ادخلتنا مبتهجة …

   وأطلت من الغرفة عجوز أخرى كانت ترتب الأغراض تطلعنا بفضول في نواحي المنزل…

         وعدنا إلى البيت ونحن نتهامس… ليس في المنزل إلا عجوزتان.

           وفي اليوم التالي وبعد انتهاء نوبة نقل الماء المتعبة مررت بجارتنا الجديدة لأخذ الأواني. سمعت صوت التنور وأنا داخلة…

         طلبت مني أن أنتظر حتى يخرج الخبز من التنور …

              وأثناء الانتظار راحت تبادلني أطراف الحديث. سألتها إن كانت لها ابنة فقالت إنها تسكن مع أختها العجوز فقط. ولهما أخ يمر بهما في الشهر مرة ثم سألتني من أين نأتي بالماء؟

                        فأشرت لها عن المكان وعدت بالخبز إلى أمي.

       وأنا أثرثر في تفاصيل حديثنا وأكرر على مسامع أمي بتعجب (لوحدهما فقط عجوزان لوحدهما يا أمي!) لا أطفال ولا أولاد…

            بيتهم هادئ يا أمي.

         بادرت أمي لإفراغ الأوعية من الماء..

           ناولتني إياها وقالت:

   اذهبي وأملئي الماء لجارتينا إنهما عجوزان والطريق بعيد…

 

         والجو حار..

           أخذت الأوعية وأنا أكتم تذمري وأشعر بالحزن لا أستطيع أن أخالف أمي بينما ألعابي التي رتبتها من مدة لا تفارق مخيلتي…

            ورحت أتخيل الرحلة المتعبة وأقدامي المتعثرة من ثقل الدلاء والماء المتناثر هنا وهناك وحرارة الجو. ناديت على أختي بصوت غاضب لا يخلو من التمرد (سآتيك ونكمل اللعب بعد أن أملأ الماء لجيراننا… انتظريني…)

         ورحت أضرب الأواني بعضها ببعض وأنا أبحث عما أنتعله وكادت الدموع تنفجر من شدة السخط. نادتني أمي. قرأت الغضب في ملامحي والتذمر والانزعاج في عيني …

         أبعدت الأواني وأجلستني قربها وقالت (السخي حبيب الله) فقلت لها وما السخي!؟

         قال: الذي يساعد الناس ويبذل نفسه لخدمتهم …

             ذلك الإنسان يحبه الله وييسر السبل أمامه ثم قالت:

                ستمر الأيام وتكبرين ولربما تيسر عليك يوم وأنت عجوز.. وحيدة… ولا تملكين الماء…

                       عندها يسخّر الله لك ابنة الجيران التي تكون مثلك طيبة فتنقل لك الماء وتساعدك.

    أعجبتني الفقرة الثانية من حديث أمي..

         أخذت الأوعية وأنا أركض ملأتها وعدت بها.

           طرقت بابهم.

               فتحت العجوز الباب…

                 قلت لها وأنا أبتسم هذا الماء لكم بدت مبتهجة وسعيدة وبينما هي تقوم بإفراغها نطق لساني دون أن أشعر قائلة:

       هل أملؤها مرة أخرى؟

               استبشرت العجوز جدًا وقالت:

      نعم ولكن أرجو لا تتعبي…

            ولم أكن أتعب في هذه الدروب بالذات لأنني كنت أتخيل وأنا في الطريق أنني أنا العجوز فأنا أنقل الماء لنفسي ولأول مرة لم أنتظر من السيدتين الجائزة بالرغم من امتنانهما الكبير وكرمهما معي..

                  لأنني كنت واثقة من أنني أخدم نفسي فلماذا أنتظر أجرًا لخدمة نفسي!

         كنت أعود مرات ومرات وأسد حاجتهما من الماء كل يوم…

             ولوحدي لان أختي تنشغل مع أمي في أعمال البيت..

                    كان درساً ثميناً تعلمته.

         … ربما سأكون مكانه يومًا ما…

                  ولا أنفك أتخيل نفسي مكانهم فأقدم المساعدة عن طيب خاطر.

     ومرت الأيام ثقيلة محملة بالهمّ…

             وعاد الماء إلى الأنابيب ولم أعد أمر على جارتنا إلا ما ندر.

         كنت عائدة من المدرسة.

              سمعت صوتاً مألوفاً يتحدث مع أمي..

                       كانت جارتنا تزورنا أول مرة.

           نادتني أمي.. فدخلت …

   قالت أمي:

               تريد أن تودعك…

                       سوف ينتقلان إلى حي آخر…

                               جاءت لتودعني!! أي أثر تركته فيها.

           قلت لها مع السلامة..

                       وأنا أقف غير بعيدة فقامت وضمتني إليها ثم غادرت المكان وفي عينيها دموع.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.