بنت العراق
تلك أيام ما بعد الحرب أتذكر ذلك وكأنه البارحة.
كان عمري تسعة أعوام أو يزيد بقليل…
يومها كنا نحمل الدلاء والقدور أنا وأختي التي تكبرني بعامين ونسير مسافة طويلة بالنسبة لأقدامنا الصغيرة لنحمل الماء إلى المنزل…
كان الماء شحيحاً…
وقد احتفر أهل الحي بير بعيد حتى عثروا على الأنبوب الرئيسي فأحدثوا فيه نقباً..
وهكذا تجتمع النساء في طابور طويل معهن القدور والدلاء وكل ما يصلح أن يحفظ الماء. وهن أثناء ذلك يتحدثن بكل تفاصيل حياتهن:
الزوج… الأولاد… الطبخ… العمل..
وحتى السياسة التي يكون الحديث عنها همساً…
وكنا أنا وأختي نستمع إلى تلك القصص ونحفظها. نجلس القرفصاء غير بعيد عن طابور الأدعية. نتطلع إلى أدعيتنا الصغيرة بالنسبة إلى غيرها التي بسبب صغر حجمها نعود أكثر من مرة حتى نلبي حاجة البيت من الماء…
وأثناء الانتظار الطويل نقتل الملل بالإصغاء إلى حكايات النساء وأسرارهن ونتهامس في ما بيننا ونعلق ونضحك. ننسى التعب والملل..
فالطريق طويل وأقدامنا الصغيرة تعبد ونحن يدب أن نملأ كوز الماء وقدور الطبخ و…. و….
كانت أمي تحرص على الماء شفقة بنا…
إلا أن ذلك لا ينفع فلابد لنا من قطع المسافة ثلاث مرات ذهاباً وإياباً صباحاً ومثلها عصراً…
وعندما ننتهي كانت تعطينا شيئاً من الماء نغسل به أيدينا وأقدامنا ووجوهنا…
ثم نسرع متلهفتين إلى ألعابنا التي أغلبها من الورق أو العلب الفارغة أو القماش الذي نصنع منه دمى صغيرة…
وفي يوم ما سكن بجوارنا…
جار جديد جئت لأمي بالخبز…
فحرصت أن ترسل بأيدينا وقت الغداء شيئاً من الطعام كما اعتاد الناس.
طرقت الباب بينما تحمل أختي أواني الطعام…
فتحت الباب امرأة عجوز عرّفناها بأنفسنا وأشرنا إلى دارنا المقابلة لمنزلهم…
ادخلتنا مبتهجة …
وأطلت من الغرفة عجوز أخرى كانت ترتب الأغراض تطلعنا بفضول في نواحي المنزل…
وعدنا إلى البيت ونحن نتهامس… ليس في المنزل إلا عجوزتان.
وفي اليوم التالي وبعد انتهاء نوبة نقل الماء المتعبة مررت بجارتنا الجديدة لأخذ الأواني. سمعت صوت التنور وأنا داخلة…
طلبت مني أن أنتظر حتى يخرج الخبز من التنور …
وأثناء الانتظار راحت تبادلني أطراف الحديث. سألتها إن كانت لها ابنة فقالت إنها تسكن مع أختها العجوز فقط. ولهما أخ يمر بهما في الشهر مرة ثم سألتني من أين نأتي بالماء؟
فأشرت لها عن المكان وعدت بالخبز إلى أمي.
وأنا أثرثر في تفاصيل حديثنا وأكرر على مسامع أمي بتعجب (لوحدهما فقط عجوزان لوحدهما يا أمي!) لا أطفال ولا أولاد…
بيتهم هادئ يا أمي.
بادرت أمي لإفراغ الأوعية من الماء..
ناولتني إياها وقالت:
اذهبي وأملئي الماء لجارتينا إنهما عجوزان والطريق بعيد…