Take a fresh look at your lifestyle.

القرآن والنبي محمد (صلى الله عليه وآله).. في الشعر الروسي الكلاسيكي

0 1٬219

 

            صدر مؤخراً في روسيا، عن مؤسسة دراسات الثقافة الإسلامية، وباللغتين العربية والروسية كتاب(القُرآن والنَّبيّ مُحمّد في الشّعر الرّوسي الكلاسيكي)(1) للباحث العراقي الدكتور ناظم الديراوي، رئيس تحرير حولية (روسيا والعالم العربي).

           ويضم الكتاب تصديراً ومقالات؛ (تاريخ ترجمة معاني القُرآن الكريم إلى اللغة الروسية. القُرآن الكريم في أشعار بوشكين ومعاصريه. القُرآن الكريم في أشعار العصر الفضي. مؤثرات عربية-إسلامية في الشعر الأوكراني الكلاسيكي)

          تفصح عن تأثيرات إسلامية جلية في قصائد نوابغ الشعر الروسي، نفذت إلى الرؤى الفلسفية للشعراء الروس، ولامست أبعادهم النفسية والروحانية والمعاني القيمية والإلهام الشعري والصياغات الفنية وجماليات التصوير، مهدنا بها لأربعين قصيدة روسية مبكرة قمنا بترجمتها إلى اللغة العربية، تنتسب إلى القرن التاسع عشر (بداية القرن العشرين)، نظمها عباقرة الشعر الروسي الكلاسيكي، في عصريه الذهبي والفضي؛ (ديرجافين، بوشكين، شيشكوف، فيلتمان، تيوتتشييف، ياكوبوفيتش، موروفيوف، ليرمونتوف، بولونسكي، بالمونت، بونين وغيرهم).

            واجتهدنا، بما هو متاح وممكن من كتب ودوريات روسية نادرة، في اختيار أشعارها والكشف عما تكنزه من آيات القُرآن الكريم المترجمة إلى اللغة الروسية نهاية القرن الثامن عشر- القرن التاسع عشر. ولعل أهم ميزة لهذه الأشعار الروسية الكلاسيكية، تنحصر في ثراء الاقتباسات المباشرة، من آيات القُرآن الكريم وسيرة النَّبيِّ مُحَمّد(صلى الله عليه وآله)،المستعارة من تراجم أنجزها دبلوماسيون ومستشرقون روس منهم: فيريوفكين، كولماكوف، نيكولاييف، بوغوسلافسكي، سابليكوف.

           لاشك أن هذه الاقتباسات أضفت فرادةً وبهاءً على موضوعات تلك القصائد وصيغها البلاغية وصورها الشعرية ومدها الروحاني والجغرافي. كما وهذبت تبليغ ما اهتدى إليه الشعراء الروس من الإيمان الورع وما فاهوا به من مناجاة وتأملات ومواعظ مستوحاة من كلام الله إلى جمهورهم، مفصحين وبجلاء عن ملامسة الوحي القُرآني لبابهم وأرواحهم التواقة إلى الإيمان والاطمئنان،

           وما انتابهم من ألفة حميمة وانشراح شريف بعقيدة القُرآن الكريم ورؤيته عن الإيمان والتقوى والحياة والفناء. لذا تراهم يستهلون قصائدهم الروحانية والوجدانية بآيات قُرآنية أو يُضمنون أبياتهم الشعرية نصوصاً من كلام الله، إما لأغراض الابتهال والتوسل إلى الغفور الرحيم كي (يجنبهم طريق الماكرين)،ويهديهم الصّراط المستقيم، و(يسلط عليهم نوره)،(ليمسحوا بالتوبة ذنوبهم)،بل تراهم يدعون إلى الصلاة:

     صَلِّ ما أن يمر اللّيل
     

     واذكر اسم الرَّبّ الله

 

  وأيضاً:

      صَلِّ، صَلِّ، صَلِّ بمثابرة
     

      كي تكون وضاحاً في الساعة الأخيرة

 

           أَليفوزوا (بجنات تحفها ورود زاهية)،وفي هذا إيمان وأمل ووعظ وتبشير. أو للارتقاء بعقيدتهم الإيمانية وتصوراتهم عن الخلق والوجود والحياة والفردوس والجحيم.

     الله، الله، الله

     هو رَّبُّ المشرق والمغرب

     أمامهُ تتوهج الظلمة

 

 وتعظيم دلالتها ومغزاها لإضفاء بهرة وفتنة ونغمة على أخيلة القصيدة

     وإذ قال، شعاري رهيبٌ

     هو سِر الأسرارِ : ألف، لام، ميم

   الشغوفة بالهام العقل واستفزاز العاطفة وإثارة الجسد.

           وآن محاكاة تلك الأشعار، الروحانية والوجدانية وشرحها حاولنا أن نؤلف، بنسق ما، نسيجاً من محاسن البيان الوصفي التعبيري وخطاب العرض والتحليل. ومن غير إصرار، انتهينا إلى قطعة نثرية-إيحائية، فيها من التحليل الاستقرائي ما فيها من أنيس الخطاب الصوفي التقي، المنشغل بابتهالات الحائر وهيام الدنيا وهمها الخالد، الرّاني من غير أجنحة إلى فضاء الفردوس وجِنانه المتوجة بالطهر المُتسامي على أفعال البشر!.

 

    آيات الله في أشعار بوشكن:

          تكشف روايات الكسندر بوشكين وقصائده، عن أنه استأنس وتأثر بقيم كتاب الله السميح وقصص الأنبياء والأقوام وعِبَرها، التي تعرف إليها من الترجمات الفرنسية والروسية لمعاني القرآن الكريم وتفاسيره التي مدت قريحة الشاعر بوشكين ومخيلته بزاد الشعر اللذيذ. ويبدو أن هذا الاستئناس، الروحي-التقي، لامس وأثرى خطاب بوشكين الفلسفي-العقائدي ونحا نحو الشعري. ما تجسد وبان في إيقاع سجع القرآن الفريد، الذي لم يألف له شاعر روسيا الأكبر كفوا لا في إبداعاته الشعرية والنثرية ولا في قراءاته الأدبية والدينية.

         الأمر الذي تجلى وسطع في قصائد؛(من وحي القُرآن)(3) و(النَّبيّ) و(أغنية تترية) ومقطوعته الشعرية (المغارة السِّرية) التي نظمها بوشكين بوحي من سورة الكهف التي قرأها في موسم الشَّتاء بمنفاه في قرية ميخائيلوفسكي (في مدينة بسكوف).هذه السُّورة الكريمة بعثت وبقوة في ذاكرة الشاعر بوشكين مغارة القرم، الباردة والمكفهرة والمظلمة، وذكرته بحالة النَّفي والعزلة التي عانى منها إبان حقبة الملاحقة.،

           وفي أبيات (المغارة السِّرية) تبقى كلمات بوشكين، عند الناقد نيكراسوف، في ضيق بينما الأفكار في مدى رحب، هذا ما تشيع به بلاغة الخطاب ورهافة الإيقاع وتدفقه وعمق المدلول وصفاء المغزى في قصائد بوشكين الهادية من قبس القُرآن، التي تظهر تقديره العالي لكلام الله، المجسَّد في القُرآن الكريم، وانسجام معتقداته الروحية التي تبشر بثقافة التسامح والرحمة وعدم التمييز بين بني آدم إلا بالتقوى (إنَّ أكرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتقَاكُمْ)، والانفتاح على المعارف والعلوم. وما برح سراج القُرآن المُنير منهل الإلهام الشعري والإيمان، ومحاكاة الماضي والافتتان البلاغي في قصيدته (المغارة السِّرية):

     في المغارة السِّرية

     في يوم العسف

     قرأت القرآن العذب.

 

          ولكي ندرك أهمية ملحمة بوشكين (من وحي القُرآن) وبهاءها يكفي أن نعود إلى نصها الروسي، الذي اجتهدنا في ترجمته إلى اللغة العربية، ومقارنة مقاطعه الشعرية، المتضمنة قبساً من كلام الله ومناقب من سيرة الرسول(صلى الله عليه وآله)، بخطاب القرآن.

        إن نابغة الشعر الروسي قرأ بإمعان ترجمتين لمعاني القُرآن الكريم باللغتين الروسية والفرنسية (ترجمة ميخائيل فيريوفكين) و(ترجمة أندريه دو روييه)، ولعله اطلع أيضاً على قصائد (الديوان الشرقي) للأديب الألماني يوهان جوته، الذي سبق الأدباء الروس في اقتباساته من القرآن الكريم والمعلقات العربية وقصائد الشعراء المسلمين عامة والشعر الصوفي بخاصة وحكايات (ألف ليلة وليلة

           وما نقل عن الألمانية من مؤلفات ذات صلة بسيرة النَّبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله) والعقيدة الإسلامية، وحصراً، من ترجمة فيريوفكين اقتبس الشاعر بوشكين آيات كريمة من سور (البقرة والكهف ومريم وطه والحج والنور والأحزاب ومحمد والفتح والحجرات والنجم والواقعة ونوح والمُزمّل والُمُدثّر والقيامة وعبس والتكوير والفجر والبلد والضُحى).

         واستعار قصصاً ومواعظً هاديةً وعِبراً حكيمةً وثقت تمسكهَ بفكر الايمان النَّير السَّمْح، مبدد الغشاوة وناقل الناس من الجهالة إلى النور. كما وتكشف ملحمة بوشكين أنه استأنس بالمحاجّات بين الأنبياء والمشركين (محاجات نمرود بن كنعان الجبار مع سيدنا إبراهيم(عليه السلام)، وانشرح برُشد القلوب التي لا تزوغ وعلم ذوي الألباب المُبين ومعجزة (لا إكراه في الدين) والصبر الشفيع على بلايا الضَّالين.

           وفي هذه الملحمة الشعرية (من وحي القُرآن)،الملأى بالوجد والإيمان والتقوى، وتمايز الإيقاع وتباين البناء الشعري، تتجسد بلاغة بوشكين التعبيرية وموهبته البارعة في النظم. وما برحت الظلال الوارفة لكتابنا الحكيم، القُرآن الكريم، تمد بصائر الهدى والإيمان على أبيات القصيدة، ما جعل معاصري الأديب بوشكين وأتباعه ينظرون إلى ميراث الحضارة العربية والإسلامية العمراني والثقافي والروحي المتداول كينبوع معرفي متدفق يصب في روافد الثقافات والعلوم الإنسانية الحديثة وأروقتها، رغم محاولات زمرة متزمتة من المستشرقين واللاهوتيين الغربيين تجاهل معالم تلك المعارف والإبداعات والآداب الخلاقة وتغييبها وطمسها في دهاليز الظلام بعيداً عن فكر وثقافة ومجالس العامة!.

الكسندر بوشكن
         

          وأينما نقرأ، في أبيات (من وحي القُرآن) نلتمس ظلال الوجد والإيمان القويم تَفئ من نَفحات روح القُرآن الكريم، وتسري في شعاب ملحمة بوشكين الجليلة الشأن التي ألفناها تأملية- روحانية. ولعل الشاعر قصد بها العبور من تيه الغشاوة والضّلالة إلى رحاب الوجد الإلهي والنور واليقين والطمأنينة. وفي هذا يُزجي إلى الفردوس روحاً هائمة حائرة ملتاعة، ساورها وسواس الغموض وأضناها، رغم طراوتها، عذاب المقام في حشر الدُنيا وشحيح زمانها.

             والتعرج بها إلى فضاء الغيب الرحيب لبلوغ مقام السَّكينة والخلود تحت ظلاله والتمتع ببهاء الفردوس وألقه. ولعمري لولا تشبع ذهن الشاعر بوشكين وقلبه بلباب وهداه القُرآن ومعارفه وأحكامه المُنزّلة لبات من العسير أن يُلْهم بهذا الضرب من الشعر الرفيع. ولنا في مقطوعته الشعرية البليغة، التي ضمنها روايته الشهيرة (يفغيني أونيغين) شاهد على ما ذكرناه أعلاه:

     في القُرآن كثير من الأفكار السَّديدة  

     وها هو، المثال؛

     قبل كُلِّ نوم صَلِّ

     وتجنب طريق الماكرين

     آمن بالله ولا تجادل الأحمق

             ويفتتح بوشكين ملحمته الشعرية (من وَحي القُرآنِ)،المؤلفة من تسعة مقاطع، تضم (174) بيتاً، ببيتٍ اقتبسه نصاً من الآية الثالثة من سورة الفجر التي ترجمها الأديب ميخائيل فيريوفكين عن اللغة الفرنسية مع باقي سور القُرآن الكريم وصدرت عام 1792، في عاصمة القياصرة الروس سانت- بطرسبورغ:

        أُقسمُ بالشفع والوتر

        أُقسمُ بالسيفِ وَوَقعةِ الحقِ

        أُقسمُ بنجمِ الصُبحِ
        أُقسمُ بصلاة ِالمساءِ.

        كلاّ، ما تخليتُ عنك.

        أَلَسْتُ أنا الذي اصطحبَ رأسَ

        مَنْ أَحَبَّ وآواهُ، في سكِينَة،

        بعيداً عن عسفٍ يطارده؟

        بمروءةٍ ازدرِ الباطلَ

        واسلك بثقةٍ صراطَ الحقِ

        وأَحِبَّ اليتامى، وبلِّغ قُرآني

        المخلوقاتِ المرتعشةَ.

 

             ونلتمس في رائعة بوشكين الشّعرية (النَّبيّ) قبساً من سورة المُدثر (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) وفيها حضور ساطع من سيرة الرسول الكريم(صلى الله عليه وآله) وإعجاب جلي بمكارمه. حتى لكأنّ نابغة الشعر الروسي رغب من اقتباس هذا المشهد المقدس الاقتراب من خصال النًّبيّ مُحمَّد (صلى الله عليه وآله) وطاعته أوامر الله تعالى ونواهيه وإشهار شغفه بمكارم رسالة الإسلام. في قصيدة (النَّبيّ) يقول بوشكين:

     كالجثة الهامدة، كنت مضطجعاً

     في الصحراء،

     حين ناداني صوت الرب:

     قُم، أَيها النَّبيّ، انظر واسمع

     ونفذ مشيئتي

     وجُب البحار واليابسة

     وبالكلمة أشعلْ قلوب الناس

 

            يتبين من هذه القراءة، أن خطاب القُرآن الكريم بان جلياً في التعبيرات الشعرية للأديب بوشكين ومعاصريه وتابعيه وتأملاتهم في الوجود والفناء، المفعمة بالهواجس والأخيلة المدهشة والقيم الروحانية والوجدانية ذات النزوع الإنساني المتسامح والمنفتح على ثقافات الأقوام والأديان. وغدا النص القُرآني مصدر إلهام – معرفي، فاعل وممتد في أبعاده العقائدية – الفلسفية والاجتماعية – الأخلاقية.

           اختاره الأديب بوشكين لإثراء موهبته وخطابه وموضوعاته الوجدانية والفكرية المملوءة بسمو الرؤى والفياضة بالسحر والجمال، وبث المزيد من الإيمان الواعي بين عباد الله المتطلعين إلى معرفة العالمَيْن، الفاني والخالد، والخشوع التقي لإرادة الخالق مالك السماوات والأرض وما بينهما،

              وأيضاً نعثر بين طيات روائع بوشكين الشعرية والسردية موائمة بين الشعر والتاريخ والرؤى الفلسفية، التي توصلنا بعلاقة حميمية مع عقيدة تبشرُ بمجتمعٍ لا ظلمَ فيه ولا كراهية.

————————————————————

الهوامش
ترجمة وتعليق د. ناظم مجيد الديراوي، صدر باللغتين العربية والروسية (176 صفحة).
(2) للدكتور ناظم مجيد التنكيل.الديراوي.
(3) جاء في النص الملاحقة لغرض
(4) نَظَّمها الشاعر عام (1824). وعنوانها باللغة الروسية هو: (Podrazhaniya Koranu). وتعني حرفياً باللغة العربية (تقليد القُرآن). وهذا عُرفٌ دأب عليه الشعراء الأوروبيون في (عنونة) قصائدهم المتأثرة بالقُرآن الكريم أو المتضمنة آيات من سوره. غير أننا ارتأينا أن نترجمها بعنوان (من وحي القُرآن) ويصح أيضاً (مُحاكاة القُرآن).
أولاً: لأن الشاعر بوشكين لم يسع إلى تقليد خطاب كلام الله وروحه، وهو الَّذي لا يعرف منه ومن كلام العرب إلا ما نُقِلَ إلى اللغتين الروسية والفرنسية. بل كان غرضه من ذلك إثراء معارفه الدينية والأدبية والفلسفية والبحث عما يضفي على نفسه السَّكِينة والطمأنينة، التي كانت تشكو من هواجس واضطرابات في منفاه، وإخصاب أشعاره الروحانية، التي لم تخل من تأملات وهيام في الوجود والإنسان، بالحِكم الإلهية مثلما فعل من قبله الشاعر الألماني الشهير يوهان جوته. ولأجل هذا اقتبس بوشكين واستوحى موضوعات إلهامه الشعري وصورها وأطيافها من سور القُرآن الكريم، واستفاد منها في نظم قصيدته الجياشة بتقوى القرآن والدالة على موقف إيجابي نزيه ومنصف حيال تعاليم كتاب الله وقيمه ومواعظه وإعجابه الشديد بخصال النَّبيّ
محمد(صلى الله عليه وآله) وإكباره لسيرته الشريفة.
ثانياً: ليس في عُرف الكتابات العربية والإسلامية مَنْ يقلد كلام الله تعالى وهو الإعجاز الذي تحدى به العلي القدير عباقرة الشعراء والحكماء العرب إبّان حقبة الدعوة الإسلامية. وفي تقليد القُرآن، عند فقهاء المسلمين، شرك وتضليل. (ن. الديراوي).
(5) انظر سورة الفجر (وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ﴾.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.