Take a fresh look at your lifestyle.

جوهر التسامح . . ديني أم علماني؟! الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) مثالاً

0 770

          يبدو الترابط بين التسامح والعلمانية أمراً بديهياً لا يحتاج إلى نقاش. في المقابل، فإن العلاقة بين الدين والتسامح أصبحت إشكالية ومحط نظر الباحثين والمفكرين.

            إن إشكالية العلاقة بين الدين والتسامح يمكن تلخيصها بالسؤال التالي: هل الدين يقود إلى التسامح أم إلى التعصب؟

         لقد أعيد طرح الجدل حول ماهية العلاقة بين الدين والتعصب، خصوصاً بعد الهجمات الإرهابية التي أصابت قلب الولايات المتحدة الأمريكية في 11 أيلول 2001، ومن ثم التفجيرات التي طالت بعض الدول الغربية. وتصاحب مع ذلك مد إعلامي وفكري واسع الاهتمام بالإسلام، متعدد الدوافع والأغراض، لكنه يؤشر بكل الأحوال إلى حقيقة الوجود الإسلامي في الغرب عموماً ومدى قابلية الإسلام على مواجهة تحدي سؤال الهوية فضلاً عن محتوى الدين/ الرسالة في مجتمع لا إسلامي، متعدد الديانات.

           بحسب الاستبيانات التي أجرتها صحيفة الغارديان البريطانية، حول أثر الدين في المجتمع البريطاني، فإن الأمر لا يحتاج إلى كثير من التأويل والجدل. فقد توصل الاستبيان إلى أن 82% من الذين تم استطلاع رأيهم قد وافقوا على أن الدين يسبب الانقسام في البلد ويؤدي إلى التوتر بين الناس، بينما جادلت أقلية صغيرة في أن الدين ربما يكون قوة للخير.

            هذه النظرة السلبية للدين هي التي قادت هذه الأغلبية (بما نسبته 63% منهم) إلى نفي صفة التدين عن أنفسهم والنأي بها عن أي ممارسات دينية منتظمة(1).

          إن هذه المقدمة، تأتي على النقيض، تماماً من هدف هذا البحث الذي يرمي إلى كشف ارتباط التسامح بالتدين من خلال تناول تجربة تاريخية معينة لواحد من أكبر علماء المسلمين وأئمتهم، ذلك هو الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) من خلال مقارنة تجربته الفكرية والعملية بالأفكار والمبادئ العملية للتسامح الغربي الحديث، باعتبارها آخر ما وصل إليه الفكر الإنساني في تجربته الطويلة.

          إن أول سؤال يتبادر إلى الأذهان هو: لماذا هذه المقارنة؟

           إن من المعلوم أن فكرة التسامح قد التصقت (نظرياً على الأقل) بما عرف بعصر الأنوار في أوروبا. لكن هذا المبدأ الإنساني، للاستدراك والتوضيح، لم يكن من صنع أوروبا، أو حكراً عليها، كما يتصور بعض الباحثين.

           صحيح أن فكر التسامح بشكله المعاصر هو أوروبي النشأة، خصوصاً لارتباطه بالثورة على الدين ونزعته العلمانية، لكن ذلك وحده لا ينفي قيام التسامح لدى الثقافات الأخرى، كما أنه دليل على اختلاف التجربة التاريخية التي نشأ في أحضانها التسامح، بما يقود للقول إن حاصل كل تجربة تاريخية، ربما يقود إلى شكل مختلف من العلاقة بين الدين والتسامح.

 

   الدين والتسامح بين الغرب والشرق

           على الرغم من ترسخ جذور التسامح في الفكر الديني المسيحي، خصوصاً ما يستشف من عبارات السيد المسيح (عليه السلام) الداعية إلى مسامحة الأعداء، وتحمل الأذى، فان احترامه كقيمة أساسية لم يصبح واقعاً ملموساً وشائعاً إلا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وذلك مع تحول هذا التسامح (المسيحي) إلى أحضان العلمانية.

            إن ظهور العلمانية الأوروبية كان مرتبطاً كلياً بظهور الفكر العقلاني في أوروبا. وعلى حد تعبير المؤرخ الإنكليزي المشهور هوبسباوم فإنه إذا كان هناك من دين قد ازدهر بين النخبة المثقفة في أواخر القرن الثامن عشر، فهي العقلانية، التي كان أبرز سماتها، نزعة معاداة رجال الدين. كما يشير هوبسباوم إلى أن هذه العقلانية قد ارتبطت بالطبقة الارستقراطية وبصفة اللا أخلاقية(2).

           لقد تعمقت الشقة مع الدين وبشكل أكبر مع حدوث الثورات السياسية الكبرى كالثورة الأمريكية والثورة الفرنسية اللتين، نادتا بأفكار إنسانية عامة، ولم يكن للمسيحية فيهما أي دور يذكر(3).

            في ظل تلك الظروف، تشكلت طبقة المثقفين الأوربيين العلمانيين الجدد، التي قامت أساساً على معاداة الدين. لذلك تبدو المبادئ العقلانية وفكرة التسامح الإنساني، التي حمل لواءها، ممثلو هذا التيار، على خصام تام مع الدين، الذي أصبحت معاداته موضة دارجة بين الأوربيين عامة(4).

           على ضوء ذلك، تبدو محاججة شاتوبريان، بأن المسيحية هي دين الحرية، وبأنه ليس من دين حقيقي بدون حرية ولا من حرية حقيقية بدون دين(5)، أشبه ما تكون بصيحة صارخ في البرية، متأخرة كثيراً. فالمسيحية قد أخلت الطريق للدين الجديد (العلمانية)، التي تواءمت مع العقلانية وكأنها دين الغرب الجديد. إن هذا يفسر جزئياً نزعة معاداة الأديان الأخرى، تلك النزعة التي تشيع بين الغربيين خصوصاً بعد تراجع المسيحية.

           لذلك فإن ما يجب التشديد عليه هنا أن نزعة التسامح الإنسانية الأوروبية التي نشأت إثر عصر التنوير، قد بنيت أساساً على معارضة الأديان باعتبارها أساس عدم التسامح والكراهية. كتب المفكر الفرنسي فولتير: كل رجل عاقل صالح يجب أن يرهب الفرقة المسيحية… والإنجيل الوحيد الذي يجب أن نقرأه هو كتاب الطبيعة الكبير الذي كتبته يد الله وختمته بخاتمها. والديانة الوحيدة التي يجب التبشير بها هي عبادة الله والسعي للخير. وإنه ليستحيل أن تنتج هذه الديانة الصافية الخالدة شراً قدر ما يستحيل على التعصب المسيحي ألا ينتجه(6).

          لقد حدث هذا التحول بعد مخاضات عديدة، تحول خلالها دعاة العقلانية من أحضان العقيدة الدينية المسيحية الخالصة إلى النزعة الربوبية ومن ثم إلى عقيدة الدين الطبيعي الذي كان حاضنة العلمانية. لقد نمت نزعة التسامح بشكل اطرادي مع ازدهار ما سمي بدين العقل. ودين العقل، في حقيقة الأمر، ما هو إلا نزعة علمانية خالصة.

          ويشير مفكر أوروبي صراحة إلى أن دين العقل هذا مثل خروجاً على روح البروتستانتية قدر ما كان خروجاً على روح الكاثوليكية. فإذا كان قد وجد مكاناً له في البروتستانتية أكثر من الكاثوليكية، فليس السبب أن المذهب الأول كان أكثر تسامحاً في اختلاف الرأي من الثاني، ولكن لأن الانقسامات بين البروتستانت جعلت التسامح أمراً ضرورياً(7).

         إن من الضروري هنا الإشارة إلى أن النظرة إلى أصحاب الأديان الأخرى (غير المسيحية) وكذلك الملحدين في صفوف المجتمع الأوروبي سوف تظل مقرونة بالشك وعدم الاحترام، ولفترات طويلة آتية، ولم يشذ عن ذلك إلا أقل القليل من المفكرين الأوروبيين. وربما كان أفضل مثال على ذلك ما جاء في رسالة جون لوك، المفكر الإنكليزي المشهور، حول التسامح، تلك الرسالة التي تمثل أحد الأسس النظرية الكبرى والأولى في عقيدة التسامح المعاصرة في الغرب، علماً أن لوك الذي كتب رسالة في التسامح، كان سبق وأن كتب رسالتين ضد التسامح بين عامي 1661-1662 مما يشكل مفارقة لافتة.

            لقد شكلت ( رسالة في التسامح) صياغة نظرية راقية المستوى، في عصرها، بل إنها مثلت فكراً جديداً على أوروبا المتعصبة في ذلك الوقت. كتب جون لوك، وهو يتحدث بلغة، تسبق لغة عصره، من عام 1689:

             ولكي نقول الحق، وكما ينبغي لكل إنسان مع آخر، لا يجوز استبعاد وثني أو مسلم أو يهودي من الدولة بسبب دينه. إن الإنجيل لا يأمر بشيء كهذا. والكنيسة، وهي لا تحكم على من هو خارجها، لا تريد هذا. والدولة، وهي تقبل الناس بوصفهم ناساً طالما كانوا أمناء مسالمين، مجتهدين لا تحتاج إلى هذا(8).

            لكن وعلى الرغم من هذا الرقي الأخلاقي لفكر لوك، بما يجعله من رواد حركة التسامح في الفكر الإنساني، فإن معنى التسامح لديه بقي مقيداً إلى حد بعيد بمعايير سياسية واجتماعية متعددة. فعلى الصعيد السياسي، لم يتسامح لوك مع الكاثوليك، بحجة أنهم كانوا يدينون بالولاء إلى غير انجلترا، أي إنهم يوالون البابا في الفاتيكان من جهة وهم يوالون ملك فرنسا من جهة أخرى. كذلك استثنى لوك كلاً من الملحدين، على اعتبار أنه لا أمان لمن لا يؤمن بالله، وأصحاب الآراء التي تتنافى مع المجتمع الإنساني، أو مع تلك القواعد الأخلاقية الضرورية للمحافظة على المجتمع المدني(9).

            كذلك فان لوك، المفكر المتسامح، سوف يستثير دهشتنا، كما يقول مؤرخ الفكر الغربي سترومبرج، حين نعلم أنه كان مدافعاً، ولو بشكل جزئي، عن الرق. أما دفاعه عن الحرية، فقد وصف، بأنه دفاع عن حرية أولئك الأثرياء من الإنكليز من أبناء طبقته(10).

            لقد ظل معيار التعامل الاجتماعي والسياسي والأخلاقي في أوروبا هو ما يمكن تسميته (النظرة المركزية الدينية المسيحية). فالأفراد الآخرون، غير المسيحيين، كانوا يبدون مجردين من الفضائل الأخلاقية، وذلك لأنهم ببساطة ليسوا مسيحيين. كما أنه ليس غريباً في مثل تلك البيئة المتعصبة، أن ينظر إلى الفكرة التي طرحها المفكر الفرنسي بيار بايل، والقائلة بأنه ليست ثمة علاقة بين الفضائل المدنية وبين الدين، وبأن الملحد قد يكون مواطناً طيباً، على أنها مجرد مفارقة فكرية محض، ستدعى في ما بعد (مفارقة بايل).

              لقد بقيت النظرة إلى الأديان السماوية الأخرى، أسيرة العادات والتقاليد المتوارثة. فالمسلمون، بحسب تلك العادات الفكرية المتوارثة، لا يملكون أخلاقاً وهم ليسوا نظيفين، بل إن الإسلام نفسه سيبقى مجرداً، حتى وقتنا الحاضر، من أي فضيلة أخلاقية. لهذا شكلت بعض أفكار روسو وفولتير، المتسامحة، وقتها، بخصوص الإسلام، خرقاً واضحاً في سياج المنظومة الفكرية الأوروبية المتوارثة، علماً أن هذه الأفكار تبدو في معاييرنا المعاصرة، أبعد ما تكون عن التسامح أو الموضوعية.

           إن هذه المقدمة التاريخية الفكرية تجرنا إلى الفكرة الأهم التي يعتنقها الأوروبيون عامة وكثير من مفكري العالم الإسلامي وهي تتمحور حول مدى إمكانية جعل الدين متلائماً مع مبدأ التسامح؟

           يضع أحد المفكرين الأوروبيين هذه المسألة على شكل معادلة، ملخصها أنه كلما ازداد إيمان المرء شدة… يصبح تسامحه أقل مع كل رأي مخالف لرأيه، فالمرء لا يتسامح مع الخطأ الفاضح(11). ويشير الباحث المذكور إلى مفارقة غريبة جد مهمة. فالتسامح، وفقاً له، يدين بالفضل الأكبر في نجاحه إلى تعصب المذهبيين، الذين لم يستطع الاضطهاد بكل أنواعه أن يرغمهم على الارتداد عن مذاهبهم، وهؤلاء كانوا أيضاً بدورهم متعصبين، لا بل شديدي التعصب.

             ولو قدر لأي مذهب من مذاهب البروتستانتية أن يستولي على السلطة، لما كان أتباعه يتورعون عن اقتراف كل ما هو بعيد عن التسامح. وهكذا عندما أمسى المجتمع يتألف من عدد من المذاهب الدينية المختلفة، أصبح من الضرورة المطلقة اختراع نظرية للدولة لتسمح لمختلف طوائفها بالتعايش معاً، وتحول دون اقتتال الطوائف مع بعضها(12).

           ويذهب باحث مسلم معاصر إلى النتيجة ذاتها. فمن خلال مقارنته بين المذاهب الفكرية المختلفة، يصل المفكر الإيراني المعروف عبد الكريم سروش، إلى استنتاج أن الليبرالية أكثر وفاء للنزعة الإنسانية من بقية المذاهب الأخرى. ثم يخلص سروش إلى نتيجة أخرى مفادها أن المجتمع الديني والملتزم بشريعة خاصة لا يتلاءم بحال من الأحوال مع أصول الليبرالية وفروعها. ويضيف: تأسيساً على ذلك، نقول بأنه لا يمكن للإنسان المتدين أن يكون ليبرالياً(13).

             على الضد من ذلك، لا يرى المفكر المصري الدكتور توفيق الطويل أي تلازم بين الإيمان والتعصب. يقول الطويل:

          فالإيمان لا يستلزم التعصب ولا يقتضي التزمت إلا عند من صدئت قلوبهم وأظلم الجهل عقولهم، وأكلت الإحن والأحقاد صدورهم؛ وإذا نزل الإيمان السمح بالقلب السليم ملأه صفاء وبدل غيابته نوراً.

         فالتعصب يلازم الإيمان في العصور التي يعتريها الركود العقلي، ويزايله حين يمحى الوجود باستنارة العقل، إذ تتسع جوانب النفس وتصفو القلوب، ويجتمع في المؤمن وحي القلب ومنطق العقل من غير أدنى تعارض.

            ومن هذا كله نرى خطأ الزعم القائل بان الإيمان لا يحتمل التسامح، ولعل الأصح أن يقال إن الإيمان والتسامح لا تربط بينهما علاقة تضاد أو تناقض تمنع اجتماعهما معا، إنما تقوم علاقة التضاد بين التعصب والتسامح، واجتماع الضدين عند المناطقة محال(14).

             لكن باحثاً آخر، يشترط لحصول التسامح في المجتمع الديني، أن يصار إلى نقد التراث الديني من خلال اجتهادات جديدة، فيصار عن هذا الطريق إلى استمرار حقوق الإنسان بمعناها المعاصر، واستيعابها داخل ثقافتنا الدينية، عندئذ يمكن لمجتمعنا الديني الانسجام مع التسامح، وقبوله كمبدأ سياسي- اجتماعي(15).

            ومن الواضح، فإن الذين يحاججون بكون المسيحية أكثر تسامحاً من الإسلام، إنما يقيسون، أوروبا القرن التاسع عشر بأوضاع العالم الإسلامي في القرن العشرين مثلاً. ومع أن المقارنة غير صحيحة أصلاً، فإن هؤلاء الباحثين، يجعلون فضيلة التسامح مسيحية، أي إنها مرتبطة بالدين، لكن تاريخ التسامح الأوروبي، كما بينا، يناقض ذلك تماماً.

             على كل حال، فإن هذه ليست هي المرة الأولى التي يطرح فيها مثل هذا التساؤل. ففي مطلع القرن العشرين، وفي معرض دفعه التهم ذاتها التي تطرح هذه الأيام، كتب الشيخ محمد عبده، ردّاً على الكاتب فرح أنطون، يفند فيه فكرة ترابط التسامح بالمسيحية، وارتباط الغلو والتطرف بالدين الإسلامي. ويورد الشيخ عبده أمثلة تاريخية وكلامية مقارنة بين أصول المسيحية والإسلام، كما يستعرض أمثلة من تسامح الإسلام.

               ثم يجيب الشيخ عبده عن السؤال التالي: متى ولع المسلمون بالتكفير والتفسيق، ورمي زيد بأنه مبتدع وعمرو بأنه زنديق؟ ويجيب: إن ذلك بدأ فيهم عندما بدأ الضعف في الدين يظهر بينهم، وأكلت الفتن أهل البصيرة من أهله ـ تلك الفتن التي كان يثيرها أعداء الدين في الشرق وفي الغرب لخفض سلطانه وتوهين أركانه ـ وتصدر القول في الدين برأيه من لم تمتزج روحه بروح الدين، وأخذ المسلمون يظنون أن من البدع في الدين ما يحسن إحداثه لتعظيم شأنه، تقليداً لمن كان بين أيديهم من الأمم المسيحية وغيرها… وتولى شؤون المسلمين جهالهم، وقام بإرشادهم في الأغلب ضلالهم، في أثناء ذلك حدث الغلو في الدين، واستعرت نيران العداوات بين النظار فيه، وسهل على كل منهم، لجهله بدينه، أن يرمي الآخر بالمروق من الدين لأدنى سبب، وكلما ازدادوا جهلاً بدينهم ازدادوا غلواً فيه بالباطل…(16).

              إن تحليل الشيخ محمد عبده يبدو على قدر كبير من الصواب. فالتعصب مقرون بالجهل وهو يرتبط ليس بالدين، وإنما بالجهل بالدين أو ضعف فهمه.

             إن مثال الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) الذي نتناوله هنا يدحض الزعم القائل بأن الدين مرتبط بالتعصب من جهة كما أنه يؤكد إمكان قيام تسامح ديني إلى أبعد الحدود. إن المثال الإسلامي الذي نقدمه هنا يشير لا إلى أسبقية واضحة على الفكر الغربي بخصوص التسامح فحسب، وإنما إلى فهم أرقى وأكمل كما سنتبين ذلك مما يلي.

   الإمام الصادق(ع) ومنهج الحوار مع الآخر

              ارتبط اسم الإمام الصادق(عليه السلام) بالتشيع على اعتباره واضع الأسس الأولى للفكر الشيعي، أكثر من ارتباطه بأي من أئمة الشيعة الآخرين. ويعود ذلك في حقيقة الأمر، إلى أن الصادق(عليه السلام) هو الذي وضع على يديه التنظيرات والقواعد الأولى للمذهب الشيعي فقهاً وكلاماً من خلال الدور الفكري الذي مارسه في وقته.

              لقد اغتنم جعفر بن محمد الملقب بالصادق والذي ولد في عام 80 هـ (ويقال 83 هـ) الفسحة الفكرية التي سادت في المجتمع الإسلامي، تلك الفسحة التي تولدت نتيجة احتدام الصراع بين الأمويين والعباسيين، حيث عمل الصادق(عليه السلام) خلال تلك الفترة على نشر أفكاره وآرائه وكان عدد طلابه كبيراً جداً.

             ففي رواية مشهورة ومنقولة عن الحسن بن علي الوشاء، قال: أدركت في هذا المسجد (مسجد الكوفة) تسعمائة شيخ، كل يقول حدثني جعفر بن محمد(عليهما السلام). ويمكننا بالطبع تخيل حجم التأثير الذي مارسه الصادق من خلال هذا العدد الضخم من الرواة والعلماء الذين تلقوا العلم على يديه.

          ولا ينحصر تأثير مدرسة الإمام الصادق(عليه السلام) في الفكر الشيعي فحسب، بل إن جلّ أصحاب المذاهب الإسلامية الفقهية والكلامية الأخرى، قد تتلمذوا أو استفادوا كثيراً من مدرسة الإمام الصادق(عليه السلام)(17).

            لقد عمل الإمام الصادق(عليه السلام) على إنشاء جامعة علمية كبرى، حيث درس على يديه الآلاف من الطلبة مختلف العلوم العقلية والنقلية، امتدت من الفقه والأصول صعوداً إلى الكيمياء وعلوم الأحياء. ويبدو أن الإمام الصادق(عليه السلام) قد حرص على تخريج جهابذة الأساتذة والمدرسين، لكي يقوم هؤلاء بدورهم بنشر العلم والفضيلة.

            وكان حرص الإمام الصادق(عليه السلام) على نشر العلم، هو بالقدر نفسه من العناية والاهتمام بنشر الأخلاق الرفيعة في نفوس طلابه ومريديه. يقول الصادق في وصية لأحد أصحابه: يا ابن جندب: صِلْ من قَطعَك، وأعط من حرمك، وأحسن إلى من أساء إليك، وسلم على من سبك، وأنصف من خاصمك، واعفُ عمن ظلمك، كما أنك تحب أن يعفى عنك، فاعتبر بعفو الله عنك، ألا ترى أن شمسه أشرقت على الأبرار والفجار، وان مطره ينزل على الصالحين والخاطئين(18).

           ومن دون شك، فإن كلمات السيد المسيح التي توصي بمحبة الأعداء والتسامح مع المخطئين، والتي كثيراً ما نظر إليها على اعتبارها أساس عقيدة التسامح المسيحية، تبدو إلى جانب عبارة الإمام الصادق(عليه السلام)، وكأنها قد خرجت من نبع واحد.

          وفي وصية أخرى، عميقة المغزى، يخاطب الإمام الصادق(عليه السلام) أبا بصير قائلاً: يا أبا محمد لا تفتش الناس على أديانهم فتبقى بلا صديق(19). إن كلمات الإمام الصادق هذه، تحمل أكثر من معنى، لكنها جميعاً تشير إلى المدى الواسع من التسامح الذي يؤمن به الإمام ويدعو إليه أصحابه عند تعاملهم مع الناس.

            ويمكن أن نجد تطبيق هذه الدعوة في حياة الإمام الصادق(عليه السلام) نفسه. فمن المعلوم أن أي حديث عن مدرسة الإمام الصادق(عليه السلام)، لابد وأن يتعرض بالتفصيل لعلاقة الإمام(عليه السلام) بظهور المذاهب المغالية والإلحادية، التي انتعشت وقتذاك، وبشكل لافت للنظر.

           ويمكننا من خلال الدراسة المتأنية لحياة الإمام الصادق(عليه السلام) أن نلاحظ أن موقف الإمام الصادق من المغالين والملحدين قد اتسم بالتمايز والاختلاف. فالإمام الصادق يتخذ من جهة موقف الشدة والصرامة والقطيعة مع الغلاة، الأمر الذي يعيد للأذهان موقف الإمام علي(عليه السلام) من المغالين الذين ذهبوا إلى تأليهه.

           يروي المفضل بن يزيد، قال لي أبو عبد الله الصادق(عليه السلام) وقد ذكر أصحاب أبي الخطاب والغلاة: يا مفضل لا تقاعدوهم ولا تواكلوهم ولا تصافحوهم ولا توارثوهم(20).

           من جهة أخرى، فإن موقف التشدد بل والحرب الصريحة من جانب الإمام الصادق(عليه السلام) تجاه المغالين لا يتكرر مع الملحدين والمشككين من الزنادقة والدهريين وأمثالهم. على العكس من ذلك نرى الإمام الصادق(عليه السلام) وهو يطلب من أصحابه دعوة هؤلاء الملحدين والزنادقة إلى المناظرة والمحاورة.

          كما بلغ من عناية الإمام(عليه السلام) بهذا الأسلوب أنه كان يدعو أصحابه من النابهين وأهل الفكر فيهم إلى عقد مجالس المناظرة في ما بينهم للتمرن والتدريب على مواجهة الخصوم.

            فقد روى الكشي أن جماعة من أصحاب الصادق(عليه السلام) منهم جميل بن دراج وعبد الرحمن بن الحجاج وجماعة غيرهما يبلغون نحواً من خمسة عشر رجلاً أو يزيدون اقترحوا على هشام بن الحكم أن يناظر هشام بن سالم في التوحيد وصفات الله سبحانه وكلاهما من البارزين بين أصحاب الإمام الصادق(عليه السلام) في الفقه والكلام والفلسفة وغيرها من العلوم، فعقدوا مجلساً لهذه الغاية ودار بينهما الجدل والحوار على جميع الافتراضات التي يمكن أن تكون موضع جدل وحوار بينهم وبين أخصامهم من الزنادقة والمنحرفين(21).

         وكثيراً ما دخل الإمام الصادق(عليه السلام) في حوارات مع الملحدين والدهريين حول مسائل إثبات الألوهية والاعتقادات والتصورات الدينية الأخرى، ليصل بالملحد إلى الإيمان أو ليتركه وشأنه.

              يروي الطبرسي في كتاب الاحتجاج عن هشام بن الحكم (من كبار أصحاب الصادق(عليه السلام)) أن زنديقاً أتى من مصر إلى الإمام الصادق وكان قد سمع عن علم الإمام فجاء إلى المدينة فلم يصادفه بها، فخرج إلى مكة فانتهى إليه- وهو في الطواف- فدنا منه وسلم فقال له أبو عبد الله (الصادق(عليه السلام)): ما اسمك؟ قال: عبد الملك. قال: فما كنيتك؟ قال: أبو عبد الله. قال أبو عبد الله (الصادق(عليه السلام)): فمن ذا الملك الذي أنت عبده، أمن ملوك الأرض أم من ملوك السماء؟ وأخبرني عن ابنك أعبد إله السماء، أم عبد إله الأرض؟ فسكت. فقال أبو عبد الله (الصادق(عليه السلام)): قل! فسكت. فقال: إذا فرغت من الطواف فائتنا،

             فلما فرغ أبو عبد الله من الطواف أتاه الزنديق، فقعد بين يديه ونحن مجتمعون عنده. فقال أبو عبد الله: أتعلم أن للأرض تحتاً وفوقاً. فقال: نعم. قال: فدخلت تحتها؟ قال: لا. قال: فهل تدري ما تحتها؟ قال: لا أدري إلا أني أظن أن ليس تحتها شيء. فقال أبو عبد الله: فالظن عجز ما لم تستيقن، ثم قال له: صعدت إلى السماء؟ قال: لا، قال: أفتدري ما فيها؟ قال: لا. قال: فأتيت المشرق والمغرب فنظرت ما خلفهما؟ قال: لا. قال: فالعجب لك! لم تبلغ المشرق، ولم تبلغ المغرب، ولم تنزل تحت الأرض، ولم تصعد إلى السماء، ولم تخبر ما هناك فتعرف ما خلفهن، وأنت جاحد بما فيهن، وهل يجحد العاقل ما لا يعرف؟!

              فقال الزنديق: ما كلمني بهذا غيرك. قال أبو عبد الله: فأنت من ذلك في شك، فلعل هو ولعل ليس هو. قال: ولعل ذلك. فقال أبو عبد الله: أيها الرجل ليس لمن لا يعلم حجة على من يعلم، ولا حجة للجاهل على العالم. يا أخا أهل مصر، تفهم عني، أما ترى الشمس والقمر والليل والنهار يلجان ولا يستبقان، يذهبان ويرجعان، قد اضطرا ليس لهما إلا مكانهما، فإن كانا يقدران على أن يذهبا فلِمَ يرجعان. وإن كانا غير مضطرين فلم لا يصير الليل نهاراً والنهار ليلاً؟ اضطرا والله يا أخا أهل مصر. إن الذي تذهبون إليه وتظنون من الدهر، فإن كان هو يذهبهم، فلم يردهم؟ وإن كان يردهم، فلم يذهب بهم؟ أما ترى السماء مرفوعة، والأرض موضوعة، لا تسقط السماء على الأرض، ولا تنحدر الأرض فوق ما تحتها، أمسكها والله خالقها ومدبرها. قال: فآمن الزنديق على يدي أبي عبد الله(عليه السلام)(22).

                ويؤكد باحث معاصر أن الإمام الصادق(عليه السلام) الذي شجع على الحوار مع هؤلاء الملحدين والزنادقة، دخل أيضاً بنفسه في حوارات مشتركة معهم. وحسب الباحث المذكور فإننا لا نجد في رواية من الروايات إشارة منه(عليه السلام) إلى ارتدادهم ووجوب قتلهم واستتابتهم رغم تصريحهم أمامه بالكفر البواح وتشكيكهم بالله ورسوله وسائر العقائد الدينية واستهزائهم بالشعائر الإسلامية.

               وان ما سطرته صفحات التاريخ عن المجالس الحوارية والحلقات النقاشية التي عقدها الصادق(عليه السلام) معهم حتى داخل بيت الله الحرام تعكس جو الحرية الفكرية السائد آنذاك ورحابة الإسلام في تقبل الآخر كما هو لا كما نريده، والإصغاء إلى أفكارهم مهما كانت، بعيداً عن كل أشكال القمع والإرهاب الفكري(23).

            إن التسامح ـ حسب الصادق ـ هو واجب ديني واجتماعي وأخلاقي ولا يمثل منة أو فضلاً. إن هذا الفهم يتجاوز التصور المسيحي للتسامح، الذي تقتضيه الظروف، كما يشير إلى ذلك المفكر عبد الرحمن بدوي، وهو بالتالي ليس عقيدة. فإن اقتضت الظروف ـ السياسية غالباً ـ ان يتسامح مع المذاهب والأديان الأخرى، لأن عدم التسامح سيؤدي إلى شرور أكبر، فإن من المندوب ـ ولا يقال من الواجب ـ التسامح(24).

             إن فكرة التسامح و- بالتالي النزعة الإنسانية- التي أراد أن يؤسس لها الإمام الصادق في الفكر الإسلامي بصورة عامة، إنما تمثل أصلا وعقيدة. أي أن التسامح عند الامام الصادق(عليه السلام) هو مسألة جوهرية، روحية، وأمر واجب، فهو ليس مرتبطا بالظروف كما أنه لا يخضع للتأويل المتبدل. كذلك، وكما هو واضح، فإن التسامح هنا مولود في حضن الدين، أي على عكس التسامح العلماني الأوروبي، الذي انتهى بتقاطع حقيقي مع الدين التقليدي.

             وكما رأينا، فإنه لا أوروبا المسيحية ولا مفكرو العلمانية في القرن التاسع عشر، قد تعاملوا مع الملحدين والزنادقة بمثل الطريقة الإنسانية التي تعامل بها الإمام الصادق(عليه السلام). لقد بقيت أوروبا حتى وقت قريب تعامل الملحدين على أنهم خارجون على المذهب الرسمي الذي تعتنقه الأغلبية، فكانت القطيعة الاجتماعية والدينية هي الأسلوب الأمثل والأوحد الذي تمارسه أوروبا.

              لكن الإمام الصادق(عليه السلام) انتهج أسلوباً آخر، يختلف تمام الاختلاف، متقدماً على أوروبا بما يقارب الألف عام. وكانت نتيجة المنهج الذي اتبعه الصادق(عليه السلام) أنجع وأكثر تأثيراً في الخصم من الأسلوب الذي اتبعته أوروبا سابقاً. اسمع لابن أبي العوجاء، وهو الزنديق المشهور، الذي لا يؤمن بالإسلام، والذي طالما تحاور مع الإمام الصادق(عليه السلام) هو وأصحابه، كيف يتحدث عن الإمام الصادق: لئن كان للإسلام حقيقة لما انتهى أمر وصية محمد إلا إلى جعفر بن محمد. والله ما رأيناه إلا هبناه واقشعرت جلودنا لهيبته.

             إذن يمكن القول وباطمئنان، إن الإمام الصادق(عليه السلام) قد سبق مارتن لوثر مفجر حركة الإصلاح الديني في أوروبا، والذي دعا إلى التغلب على الملحدين بواسطة الكتابة، لا بواسطة النار. لقد كان الإمام الصادق(عليه السلام) هو الواضع الحقيقي لمبدأ الحوار مع الملحدين والكافرين. وقد عمق الصادق(عليه السلام) هذا المبدأ من خلال التسامح الأخلاقي وعدم اللجوء إلى الأساليب المتطرفة في التعامل مع الآخر المختلف فكرياً وعقائدياً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الغارديان، السبت 23-12-2006، لاحظ الصفحة الأولى وكذلك الصفحتين 12-13 وأيضا تعليق الغارديان على صفحة 30.
(2) Eric Hobsbawm: The Age of Revolution 1789-1848 London, 2003, pp267-268.
(3) المصدر السابق، ص ص 269-270.
(4) للاستزادة أكثر حول المواجهة بين العقلانية والفكر الحر من جهة والدين من جهة أخرى، في أوروبا لاحظ، ل. دونوروا و البير بايه: من الفكر الحر إلى العلمنة. ت. د. عاطف علبي، دار الطليعة، بيروت، ط 1، 1986، ص 25 وما بعدها.
(5) شوفالييه، تاريخ الفكر السياسي من الدولة القومية إلى الدولة الأممية , ت. د. محمد عرب صاصيلا , بيروت , 1991 , ط1 , ص186-187.
(6) راندال , جورج: تكوين العقل الحديث، بيروت، ج 1، ص 446.
(7) راندال: تكوين العقل الحديث، ج 1، ص ص 434- 435.
(8) جون لوك , رسالة في التسامح , ت. د. عبد الرحمن بدوي، مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد، 2005 ص 120
(9) لاحظ بدوي، عبد الرحمن: مقدمة رسالة في التسامح، ص 58.
(10) سترومبرج، تاريخ الفكر الأوروبي الحديث 1600- 1977، ت. د. أحمد الشيباني, ص 132.
(11) سترومبرج، رونالد: مصدر سابق، ص 105
(12) سترومبرج، رونالد: مصدر سابق، ص 105
(13) الدين العلماني، ت. أحمد القبانجي، 2004، ص74، ص 85، ص 86.
(14) الطويل، توفيق: قصة الاضطهاد الديني في المسيحية والإسلام، الزهراء للإعلام العربي، القاهرة، ط1، 1991، ص28.
(15) شبستري، الشيخ محمد مجتهد: إشكالية التسامح، ص 90 في التسامح وجذور اللاتسامح (ص ص 81-113) مصدر سبق ذكره.
(16) محمد عبده , الأعمال الكاملة , تحقيق: محمد عماره , بيروت ,المؤسسة العربية للدراسات والنشر , 1972، ص 340.
(17) لاحظ على سبيل المثال أسد حيدر: الإمام الصادق والمذاهب الأربعة، مكتبة الصدر، قم، د. ت. كذلك انظر أبو زهرة، محمد: تأريخ المذاهب الإسلامية والفقهية (1-2)، دار الفكر العربي، 1987، ص ص 688- 722.
(18) الحراني، ابن شعبة: تحف العقول، قم، ط 1، 1425 ص 222.
(19) الحراني: ص 270.
(20) الحسني، هاشم، مصدر سبق ذكره، ج 2 ص 251.
(21) الحسني، م. ن، ص 258.
(22) الشيخ أبو منصور الطبرسي: الاحتجاج، بيروت، مؤسسة الأعلمي ومؤسسة أهل البيت، 1981، تعليقات وملاحظات السيد محمد باقر الخرسان، ص ص 234، 235.
(23) الشيخ حسين الخشن: صفحات من تاريخ الإلحاد في الإسلام، بينات، العدد 126، 5 آب 2005، ص7.
(24) لوك، مقدمة بدوي للرسالة ص 7.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.