الناظر إلى ثورة الإمام الحسين(عليه السلام) يلحظ أنها تتركز في ثلاثة أسباب كلّية دعت إلى الخروج، وهي:
أولاً:
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ثانياً:
فرض البيعة الإلزامية على الحسين(عليه السلام) وامتناع الإمام عن تلبية مثل هذا المطلب.
ثالثاً:
دعوة أهل الكوفة للحسين(عليه السلام) للقدوم عليهم(1)..
ونلحظ أن السبب الأخير هو من أضعف الأسباب في الميزان؛ حيث تبدّل وضع الكوفيين كان كفيلاً بأن يدفع الإمام الحسين(عليه السلام) للتخلي عن سائر أهدافه الأخرى ويتجه نحو المصالحة مع النظام والموافقة على البيعة بينما تطورت القضية لاحقاً أثبتت العكس، إذ أن أكثر خطب الحسين حماساً ولهيباً واشتعالاً هي خطبته التي جاءت بعد تراجع أهل الكوفة عن موقفهم الأول.
وأما العوامل الرئيسة للنهضة الحسينية يمكن أن نجملها في:
* تغيير الأوضاع السياسية واستبدال الجهاز الحاكم وأسلوب الإدارة والسياسة والتعامل مع الأمة وفق الموازين والمقاييس التي ثبتها الإسلام.
* إيقاظ الحس والوعي السياسي للأمة وجعلها جهاز مراقبة للسلطة متى ما انحرفت عن المبادئ أو تخلت عن تطبيق الأحكام والقوانين الإسلامية.
* تثبيت مبدأ شرعية المقاومة المسلحة للحاكم الظالم.
* إعادة تربية وبناء الأمة من جديد بناءً سليماً.
* تصحيح الانحراف وتطبيق أحكام الشريعة وقوانينها.
* كسر حاجز الخوف والإرهاب المفروض على الأمة وتحريك روح الثورة والفداء فيها.
وكان الإمام الحسين(عليه السلام) مع هذا؛ من رجال الفصاحة وفرسانها وحماة البلاغة، وشجعانها، عليه تهدّلت أغصانها ومنه تشعّبت أفنانها، يفوح ارج النبوة من كلامه ويعبق نشر الرسالة من نثره ونظمه.
وللذوق الأدبي بسيرته ملتقى، كملتقى الفكر والخيال والعاطفة، وسوف نجتزئ من خطبةٍ له(عليه السلام) بعض القبسات(2) مسلطين الضوء – بقدر مستطاع الباحث – على هذه الشذرات الكريمة في بيان المعالم الرسالية فيها(3)، خاتماً الكلام بالموقع الرسالي للإمام(عليه السلام).
أولاً: المعاني المهمة التي تضمنها استهلال الخطبة: تبدو الخطبة في مجملها شائعة يسيرة الفهم، إلا أننا ونحن نتلوها وهي في حلتها البلاغية، نشعر أننا أمام أثر فني متكامل، بالرغم من تصديه(عليه السلام) لجماعة قلّما صفت ذائقتها الفنية، وأن عناية الإمام بالأداء الأدبي لم تصرفه عن العناية بالواقع النفسي، كما أن نقمته عليهم لم تثنه عن التوسل بما يثير عواطفهم، ويصور ضلالهم وعنادهم وجبنهم.
وقد بدت أفكاره(عليه السلام) أفكار واعظة، تحدّث إليهم بأمور دينهم، وأن الشيطان استحوذ عليهم فأنساهم الحق وأنصار الحق، فتبّاً لهم ولما يريدون.
وهذا هو أسلوب الأنبياء والمصلحين الرساليين في تأكيد الدعوة الإصلاحية وأن عملهم هو قربة إلى الله تعالى وإن كانت هذه الدعوة لا تثمر في بعض العباد العاصين إلا أنهم يدعوهم لما هو خير على كل الأحوال وإن اعترض من اعترض، وهذا ما نلمسه في صريح القرآن الكريم، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)(4).
يقول السيد الطباطبائي: (إن المتعدين طغوا في تعديهم وتجاهروا في فسقهم فلم يكونوا لينتهوا بنهي ظاهراً غير أن الأمة التي كانت تعظهم لم ييأسوا من تأثير العظة فيهم، وكانوا يرجون منهم الانتهاء لو استمروا في عظتهم، ولا أقل من انتهاء بعضهم ولو بعض الانتهاء، وليكون ذلك معذرة منهم إلى الله سبحانه بإظهار أنهم غير موافقين لهم في فسقهم منزجرون عن طغيانهم بالتمرد)(5).
ونلحظ هنا أيضاً أن المصلحين أضافوا الرب إلى اللائمين لهم ـ وهم غير الفاسقين ممن يئس من الفاسقين ولم يعد ينصحهم ـ ولم يقولوا: إلى ربنا إشارة إلى أن التكليف بالعظة ليس مختصاً بنا بل انتم أيضاً مثلنا يجب عليكم أن تعظوهم لأن ربكم لمكان ربوبيته يجب أن يعتذر إليه، ويبذل الجهد في فراغ الذمة من تكاليفه والوظائف التي أحالها إلى عباده، وأنتم مربوبون له كما نحن مربوبون فعليكم من التكاليف ما هو علينا.
ثانياً: عمد الإمام الحسين(عليه السلام) إلى تذكير القوم بنسبه وشأنه ومنزلته لعلهم يرجعوا عن غيهم ويحاسبوا أنفسهم، فهو ابن نبيهم وابن وصيه وابن عمه وأول المؤمنين بالله، والمصدّق لرسوله بما جاء من عند ربه، وهو أخو الحسن. قال عنهما جدهما الرسول(صلى الله عليه وآله): (سيدا شباب أهل الجنة)(6).
ويرى الباحث أن الإمام الحسين(عليه السلام) أراد من ذكر هذا النسب الشريف والأسماء المقدسة هو تذكريهم بمنازل الوحي والألطاف الإلهية التي أفاضت على أهل هذا البيت، ويكتفي الباحث في هذا المورد بقوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا )(7).
يقول الآلوسي بعد أن يذكر حديث الكساء المتعارف(8) والذي جمع الإمام علي وفاطمة الزهراء والحسنان(عليهم السلام)، وبعد كلام طويل حول الآية:
(… هذا ما عندي في الكلام على الآية الكريمة المتضمنة لفضيلة لأهل البيت عظيمة، ويعلم منه وجه التعبير بـ(يريد) على صيغة المضارع ووجه تقديم إذهاب الرجس على التطهير ووجه دعائه(صلى الله عليه وآله) لأهل الكساء بإذهاب الرجس من غير حاجة إلى القول بأن ذلك طلب للدوام كما قيل في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا)(9) ونحوه ولا يورد عليه كثير مما يورد على غيره ومع هذا لمسلك الذهن اتساع ولا حجر على فضل الله عز وجل فلا مانع من أن يوفق أحداً لما هو أحسن من هذا وأجل فتدبر ذاك والله سبحانه يتولى هداك)(10).
ويرى الباحث أن الله سبحانه وفق كثيراً من المؤمنين إلى تلمس المقصد الإلهي في هذه الآية الكريمة، فهذا السيد الطباطبائي بعد كلام طويل في تفسيرها يقول: (والمعنى: أن الله سبحانه تستمر إرادته أن يخصكم بموهبة العصمة بإذهاب الاعتقاد الباطل واثر العمل السيئ عنكم أهل البيت وإيراد ما يزيل أثر ذلك عليكم وهي العصمة)(11).
ثالثاً: إصرار القوم على الانتقام: استخدام أسلوب التهديد والوعيد قبال مواعظ الإمام الحسين(عليه السلام) وإرشاده ونصحه إياهم؛ فقال الأجلاف الطغاة، المتحجرة قلوبهم: (نحن غير تاركيك حتى تذوق الموت عطشاً)،
وفي موضع آخر قال قيس بن الأشعث للإمام الحسين(عليه السلام): (تنزل على حكم بني عمك)،
وهذه اللغة هي ذاتها اللغة التي انبرى الطغاة ألظلمة يوجهونها إلى الدعاة الرساليين من الأنبياء والصالحين عندما تعييهم الحجج والبراهين، وهكذا في كل زمان ومكان؛ استكباراً وعدواناً عليهم. ونلتمس مثل هؤلاء القوم في القرآن الكريم وحالهم مع أولياء الله تعالى، قال سبحانه عن قوم نبي الله شعيب(عليه السلام): (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ)(12).