تعد الكتب المؤلفة في أدب الرحلات مفاتيح مهمة لكشف أسرار وإيضاح مبهمات، ونقل صور حية عن مجتمعات وأناس ومدن وغيرها.
وتختلف الكتب بتآليفها تبعاً لاختلاف أساليب كتّابها ومدونيها. وتختلف أيضاً باختلاف الظروف والزمن للرحالة في زياراتهم لبلد ما. ربما يكتب أحد الرحالة مذكراته ومشاهداته عن مدينة زارها أو مر بها أثناء رحلته فيدون ما عن له من صور فينقلها كما هي دون رتوش، بينما يكتب آخر عن المدينة نفسها في زمن آخر وإن كان مقارباً له مشاهدات أخرى تنسخ مشاهدات زميله الأول، وهكذا.
وربما في عصر واحد نجد التباين ظاهراً بين اثنين أو أكثر في نقل الصورة وترجمتها كتابةً، وهذا حاصل فعلاً وواضح في بعض ما كتبه الرحالة طيلة قرون مضت عند زيارتهم إلى العراق.
فالأهواء النفسية والمذاهب والأيدلوجية السياسية قد تلعب دوراً مغايراً في نقل الصورة إلى القارئ بعيداً عن الموضوعية والدقة والصدق. فالبعض من الرحالة ولأهداف ما، كرسوا مفاهيم بعيدة عن الواقع العراقي، ورسموا صوراً لا توجد إلا في مخيلاتهم متظاهرين بالموضوعية، على سبيل ما فعله الرحالة والمستشرقون عبر حقب تاريخية مختلفة بتقديم تفاصيل تحقق أهدافاً سياسية باعتبار أن العراق مركز حضاري مهم في التاريخ، لذا لجأ بعض الرحالة إلى البحث عن تاريخ ضائع لديانات ومذاهب وشعوب، أو لأجل تحقيق مآرب خاصة.
والكتاب الذي بين أيدينا لا يختلف من حيث المضمون في النقل الدقيق لما شاهده الآخرون في العراق من صور عديدة متنوعة للطبيعة والناس ومرافق الحياة الأخرى. فقد قام الباحث والمترجم الأستاذ الفاضل محمد الشيخ هادي الأسدي بإصدار ترجمة مهمة لثلاثة كتب في كتاب واحد، يجمعها المضمون وتقارب الأساليب، صدر الكتاب سنة 2011م بطبعته الأولى ضمن سلسلة منشورات مؤسسة آفاق للدراسات والأبحاث العراقية (22) بعنوان (العراق في مشاهدات ناصر الدين شاه).
تضمن الكتاب مذكرات ثلاثة أشخاص من شخصيات العهد القاجاري، وهم (عبد العلي خان) وهو الابن الأكبر للحاج علي خان مقدم المراغي صاحب الدولة، وكان شاعراً، منحه ناصر الدين شاه لقب (أديب الملك) وتقلد مناصب منها عدد من الوزارات، وتولى إدارة الحكومة في قم وسمنان ومراغة. توفي سنة 1302هـ عن عمر ناهز الستين عاماً.
ورحلته إلى العراق كانت انطلاقاً من طهران إلى كرمنشاه ثم خانقين. بدأت في الرابع عشر من محرم سنة 1273هـ/1856م، واستغرقت ستة أشهر. وضمت الصفحات (18ـ74) من الكتاب.
والرحلة الثانية، وصاحبها الحاج سلطان عبد المحمد ميرزا سيف الدولة، وهو حفيد الشاه فتح علي شاه القاجاري، تولى عدة مناصب في الدولة القاجارية منها سنة 1289هـ سدانة العتبة الرضوية في مشهد المقدسة.
وحصل على لقب (سيف الدولة) سنة 1299هـ. وأصبح سنة 1305هـ حاكماً على مدن ملاير وتويسركان ونهاوند في عهد ناصر الدين شاه، تعرض للعزل والاعتقال وأطلق سراحه بعد مدة قليلة بسبب ظلمه الذي مارسه ضد الفقراء في المناطق التي كان حاكماً عليها. ورحلته إلى العراق كانت سنة 1280هـ/1863م عن طريق الموصل قدوماً من ديار بكر. وضمت الصفحات (77ـ114) من الكتاب.
أما الرحلة الثالثة فهي لناصر الدين شاه القاجاري، الذي تمنيت لو عرّف له المترجم، كما عرّف بصاحبيه المتقدمين. وقد عنون الكتاب باسمه من باب (الإثارة والوضوح) كما أخبرني جنابه الكريم في اتصال هاتفي.
أقول: إن القاجاري هو ناصر الدين بن أحمد بن محمد شاه بن عباس ميرزا بن فتح علي شاه القاجاري، كان ذا منزلة رفيعة في عصره، مكرماً للعلماء والأدباء والأشراف، وألفت باسمه كتب كثيرة، وهو أديب وشاعر، له ديوان شعر باللغة الفارسية. أحدث نهضة إدارية وصحية وفنية في إيران وفي عصره أفتى السيد حسن الشيرازي بتحريم (تدخين التنباك). وله أعمال جليلة منها تذهيب قبة الإمامين العسكريين(عليهما السلام) وتذهيب إيوان المشهد الرضوي، وله في صحن النجف وكربلاء آثار باقية. قام برحلات عديدة إلى العراق وأوربا، قتل برصاصة مسدس أثناء زيارته لمشهد السيد عبد العظيم الحسني سنة 1313هـ/1896م.
ابتدأت رحلته إلى العراق بالدخول عن طريق خانقين انطلاقاً من طهران في 23 شعبان سنة 1287هـ/18/11/1870م، واستمرت قرابة الشهرين، وضمت الصفحات (117ـ221) من الكتاب. وقد نالت حصة الأسد، وحفلت بأحداث مثيرة وأسماء عديدة ومواقف شتى.
إن الرحلات الثلاث متقاربة في عمرها الزمني، فقد حدثت بين عامي (1856م) و(1870م) وبين رحلة وأخرى فاصل زمني مقداره (7) سنوات، وهذا التقارب سيعطي حتماً صوراً متقاربة، وقد تظهر فروق طفيفة من حيث التغيير من النواحي العمرانية أو العادات والتقاليد والأزياء وغيرها.
وبما أن الكتاب مثقل بالمواضع والمشاهد فقد فضلت الوقوف عند مدينة النجف الأشرف في هذه المشاهدات.
مدينة النجف الأشرف من داخل السور وتظهر فيها البوابة الرئيسية – آذار 1911
الطريق إلى النجف
يصف (أديب الملك) الطريق الواصل من الكوفة إلى النجف بقوله: (تبلغ المسافة فرسخاً ونصف الفرسخ، لكنه طريق نحيف بسبب غارات القبائل البدوية، وقد أقاموا أبراجاً يبعد الواحد عن الآخر مسافة خمسمائة قدم) ثم يعرج فيصف بوابة النجف من الخارج قائلاً:
(في خارج البوابة كان هناك مكان لسقاية الماء ومقهى واحد، وكان الجنود يقفون خارج البوابة وبأيديهم البنادق لاستلام الأسلحة من الناس الوافدين، وقمت أنا وطبقاً للقانون بتسليم أسلحتنا) ص55.
بينما (سيف الدولة) يصفها بالقول:
(المسافة بين الكوفة إلى النجف تبلغ ساعة واحدة، وبعد ربع ساعة من الحركة هناك خندق عميق يقولون: إنه خندق الكوفة وبعد عبوره تنبسط الأرض أمامك، وهي أراضٍ رملية، وتنتشر على جانب الطريق بعض الأبراج يقف فيها أفراد الجيش للمحافظة على أرواح المسافرين أيام القلاقل والاضطرابات، وفي الطريق بئران ومحل سقاية المسافرين… وعند مدخل باب النجف هناك اثنتان من المقاهي) ص105.
قبة وصحن الأمير(ع)
قدم الثلاثة وصفاً متنوعاً لجوانب مختلفة لصحن أمير المؤمنين(عليه السلام) خلال زياراتهم
فقال (أديب الملك):
(يبلغ طول صحن أمير المؤمنين(عليه السلام) اثنين وسبعين ذراعاً، وكذلك العرض أيضاً، وللصحن أربعة أبواب: باب الطوسي… الباب الشرقية… باب القبلة… الباب الشمالية…) ويضيف:
(عندما تدخل إلى الصحن المطهر من باب الطوسي يواجهك إيوان الذهب، ويقع أمام الإيوان حوض ماء مشهور باسم حوض الكوثر، وكان في السابق يتصل بقناة ماء، حيث كان على الدوام مملوءاً بالماء، ولكن هذه القناة أصبحت مطمورة، ويوجد وسط الحوض أربعون مصباحاً من النحاس، والإيوان والمنارتان والقبة المطهرة كلها مكسوة بالذهب)…
(وعندما تدخل من الباب الأول يقابلك الرواق وقد شاهدنا هناك شيئاً غريباً وهو أنه بعد انتهاء صلاة المغرب يجتمع حوالي الألف شخص أو أكثر من الطلبة من بينهم حوالي الثمانين مجتهداً، حيث يجلسون هناك كل ليلة للتباحث العلمي والدرس) ص62.
(وينفتح من الرواق إلى داخل الروضة المطهرة بابان يفضيان إلى القبر الشريف من جهة تحت القدمين، والقسم السفلي من الضريح مصنوع من الفضة. أما الضريح فهو مصنوع من الفولاذ، ويستقر داخل الضريح صندوق من الخشب، ومكان الإصبعين موجود على شكل محراب، وتوجد السيوف والخناجر المرصعة بالألماس معلقة هناك). ص63.
(وتوجد داخل الضريح القناديل الكبيرة المصنوعة من الذهب والفضة وعددها حوالي الثمانية عشر قنديلاً، ولكن القناديل الصغيرة كثيرة لا تحصى كما يوجد عدد من القناديل البرونزية التي تتدلى من سقف الرواق) (وعندما تدخل من باب القبلة يوجد على جهة اليسار حوض ماء وبئر حفره نجيب باشا والي بغداد) ص63.
ويتصل الرواق من جهة الرأس بجدار الصحن الشريف. يوجد هناك ممر ضيق مسقف (الساباط) يحتوي على حجرات، وبعد عبور غرفتين توجد هناك تكية البكتاشية التي يجتمع فيها عدد من الدراويش الذين تنفق عليهم الدولة العثمانية، وهناك يجلس المرشد الذي يدعى (دده) ص64.
أما (سيف الدولة) فيصف القبة والصحن المطهر بقوله:
(أصل البقعة المباركة مربع الشكل، أما القبة المطهرة فهي أكثر ارتفاعاً من كل الأماكن المشرفة، ويحيط الصحن بالرواق من ثلاث جهات، أما الجهة الغربية فيفصل الرواق عن جدار الصحن ممر، وللصحن حجرات في الطابق العلوي والسفلي، وفي الطرف الغربي من الصحن تقع التكية البكتاشية، ويقابل الحرم إيوان ترتفع مئذنتان من جهتيه) ص107.
و(يوجد داخل الحرم اثنان من القناديل الذهبية الكبيرة، واثنان من القناديل الأصغر ولكنها أغلى ثمناً، وهناك الكثير من الثريات والمعلقات والقناديل وهي من الذهب والفضة، كما توجد المجوهرات وهي كلها من هدايا الملوك والسلاطين) ص108.
بينما يصف (ناصر الدين شاه) الصحن بالآتي:
(الصحن مفتوح وعريض، جدرانه مكسوة بالكاشي المعرق من العهد الصفوي، القبة ومرقد الإمام يتوسطان الإيوان الذهبي، والمنائر مكسوة بالذهب… والجهات الثلاثة من الصحن مفتوحة. أما الجهة المقابلة للشرق فهي مغلقة…)
(وقد استعمل الكاشي المعرق الغريب داخل القبة، حيث لا يوجد في مكان في العالم مثل ذلك الكاشي، وهو مثل المينا التي ترصع بها رؤوس الأراكيل الفاخرة، بل هو أحسن منها، وهناك عدد كبير من قناديل الذهب والشمعدانات، كما تتدلى الستائر بكثرة في الأطراف، والشباك الذي فوق المرقد مصنوع من الفضة، وفرشت الأرضية بالسجاد النفيس المصنوع من الحرير… يبدو كأنه خرج اليوم من المعمل… ورواق الضريح مكسو بالمرايا…) ص168.
(ورأيت بجانب فتحة الأصبعين في المرقد الشريف صفحة من الجواهر الثمينة) ص180.
مقبرة وادي السلام
يصف (أديب الملك) القبور الموجودة في الصحن الشريف وخارجه، وداخل الرواق مع ذكر أسماء من قبر من النساء والرجال، ويصف مقبرة دار السلام التي قدر مسافتها عن (الباب الكبير) بـ(خمسمائة قدم) وبأنها جنة خالدة تسكنها أرواح المؤمنين وليس هناك مقبرة في الربع المسكون من الأرض بمثل جلالها وعظمتها وفيها تقع مقبرة هود وصالح، حيث يقعان تحت قبة واحدة ويرقدان في قبرين متجاورين) ص60ـ64.
فيما يصفها (ناصر الدين شاه) بـ(مدينة من الموتى، حيث تنتصب فيها بكثرة شواهد القبور العالية، وشاهدنا في وسط القبور قبة عالية مكسوة بالكاشي وهي قبة مرقد هود وصالح) ص169.
سور النجف
وعن سور النجف يحدثنا (أديب الملك) قائلاً:
(قام المرحوم الحاج محمد حسين خان الصدر الأصفهاني ببناء سور النجف، ويبلغ ارتفاع الجدار المقابل لمسجد الكوفة اثني عشر ذراعاً والذي يقع في جهتي وادي السلام والبحر يبلغ أحد عشر ذراعاً، أما محيط السور حول المدينة فيبلغ أربعة آلاف قدم) ص61.
بينما يقول (سيف الدولة):
(للنجف قلعة بناها المرحوم الحاج محمد حسين خان… ومع أنها ليست واسعة جداً، إلا أنها حسنة وجيدة) ص107.
يظهر في هذه الصورة مدينة النجف والسور المحيط بها
المساجد
في وصف لمساجد النجف يذكر (أديب الملك)
أن (عدد المساجد أربعمائة مسجد وسبب كثرة المساجد في المدينة هو أن الناس في الأزمنة الماضية لم يكن يجرأوا على استخدام التربة في المساجد الكبيرة للسجود عليها في الصلاة، ولذلك لجؤوا إلى إقامة مساجد صغيرة في منازلهم يصلي فيها الثلاثة أو الأربعة أشخاص، وقد كان العثمانيون عندما يرون أحداً يسجد على التربة يسحقون رأسه بأقدامهم حتى يبقى أثر التربة على جبهته) ص62.
سكان النجف
في إحصائية يوردها (أديب الملك) عن سكان النجف آنذاك
(يبلغ عدد البيوت في النجف حوالي ألفين وسبعمائة منزل صغير وكبير)
أما (سيف الدولة) فيقول:
(سكان النجف هم من العرب والعجم والهنود، وعدد نفوسها ثلاثون ألف نسمة تقريباً، وجوه أهلها جميلة حسنة، وهم يحبون اللهو وعاطفيون، ومظهرهم الصلاح) ص108.
المراجع وطلاب العلم
ذكر الثلاثة في مشاهداتهم جانباً مهماً مما امتازت به هذه الحاضرة النفيسة مراجع الدين العظام والأعلام الأفذاذ، وكل منهم كان يمني النفس بلقاء فلان وفلان من العلماء ليحظى بشرف اللقاء وتقبيل أياديهم…
ومنهم الجهبذ الشيخ مرتضى الأنصاري (ت1281هـ) والشيخ مهدي كاشف الغطاء والشيخ محمد حسن كاشف الغطاء والسيد محمد تقي بحر العلوم والسيد علي بحر العلوم والشيخ جعفر بن الميرزا أغا الطهراني والسيد محمد بن محمد بحر العلوم والسيد باقر بن علي بحر العلوم والسيد أبو القاسم الكاشاني النجفي وأضرابهم من علماء الدين والمراجع.
أما طلاب العلم فيقول (أديب الملك) في حوار مع الشيخ مهدي كاشف الغطاء(قد) وتوجيه سؤال له حول عدد طلاب العلم في النجف وكم عدد المجتهدين من بينهم؟
قال الشيخ: إنهم بحسب السجل سبعمائة طالب من العرب وألف وثلاثمائة من العجم، وإن مئتين منهم بمستوى الاجتهاد ليس لهم نظير في بلاد العجم.
صناعة العباءة
يتحدث (سيف الدولة) عن المهن والحرف في النجف فيقول إن (صناعتهم الغالبة هن نسج العباءات ولديهم مصانع كثيرة لصنع العباءات) ص108. بينما أحصى (أديب الملك) عدد المصانع في النجف فذكر أن فيها (ألف مصنع لصناعة العباءة).