قبل البِدء في بيان اللمحات العلمية في النصوص القرآنية لابد لنا أولاً من التعريف بالمنهج العلمي في التفسير؛
لأنه الوسيلة التي سنتخذها لبيان تلك اللمحات؛ وتلبية لهذه الرغبة نقول: إن المنهج العلمي يعد من المناهج التفسيرية التي تعمل على استكشاف الدلالة القرآنية وبيان كيفية الاعجاز في الكتاب المجيد؛ اذ يستعان به لبيان الدلالات العلمية في الآيات القرآنية الكريمة، واذا كان الجزاء من جنس العمل -كما يقال حقا- فان منطق الاعجاز في التعبير القرآني لابد من ان يكون مؤسسا على جملة مرتكزات اقناعية بحيث يكون لكل مرتكز منها صلة وثيقة في بناء صيرورة معجزة هذا الكتاب وترسيخها في الأذهان البشرية كافة، واذا كان من حق هذا الكتاب –بناءً على مقوماته- ان يحتوي على صفة التفوق المطلق والإفاقة المقطوع دونها؛ فإن جزاءه –قطعا- هو الاعجاز؛ اذ من الواجب ان يكون هذا الاعجاز (الجزاء) متقنا (جنس العمل) الى الحد الذي تقصر معه هامات العقول وذروات التفكير البشري على ان تناله بمجاراة او تماشٍ او مسايرة؛ ولن تكون هذه المجاراة البتة ولن تتحقق هذه المسايرة قطعا مازال الجزاء من جنس العمل.
ولما كانت السمة العلمية في الايات القرآنية تمثل شأنا خارقا وصفة لا تقبل المجاراة كان النظر اليها على انها مرتكز اعجازي في التعبير المقدس امرا حتميا ومسألة واجبة؛ لانها تدخل في التكوين البنيوي لتحقق المعجزة في النص القرآني؛ من هنا وقعت الرغبة في ابانة هذا المرتكز القرآني بلمحات مقتضبة تُظهِر في مجموعها إبداع الخالق العظيم في تضمين تعبيره السماوي المعجز سمات علمية غاية في الروعة والتفوق.
اما التفسير العلمي من حيث المفهوم فهو عملية توظيف العلوم المقطوع بصحتها كافة لفهم النص ومعرفة دلالاته العلمية(1)، ويمكن ان يدخل في نطاق المفهوم كل العلوم التي استخرجها العقل الانساني من النص القرآني؛ اذ ينظر اليها على انها من باب التفسير العلمي للنص ايضاً ما زال المتأمِّل استطاع استنطاق النص علمياً؛ ذلك بان بعض النصوص القر آنية قد انطوت على مضامين علمية وبقي هذا النمط من المخزون المعرفي مكنونا في طياتها حتّى خطى العقل البشري خطوات واسعة نحو التقدم المعرفي والتطور العقلي الامر الذي دعا الى انفتاح الافق العلمي على مستوى الخطاب القرآني فاستقت المنجزات العقلية ما خفي من النص المقدس من نظرات علمية وابداعات معرفية اودعها سبحانه في هذه النصوص اثباتا لسمة الاعجاز فيه من جهة واقرارا للمتلقي بان هذا المعجِز هو من عنده سبحانه من جهة اخرى، فهو مبدعه واصل وجوده وهو قرينة على اصله واصل واجده.
بيد ان من العلماء من كانت له رؤيا اخرى في تحديد مفهوم المنهج العلمي؛ إذ يرى أن (المنهج العلمي هو المنهج الذي يذهب الى استخراج جملة العلوم القديمة والحديثة من القرآن)(2) وقد اعتقد بهذا المفهوم – قديما- جملة من العلماء كالغزالي(3)، والزركشي(4)، والسيوطي(5)، حيث يرون أن النص القرآني قد ضمَّ كلَّ اصناف العلوم الانسانية والطبيعية التي توصل اليها العقل الانساني والتي لم يتوصل اليها بعد وعلى المرء ان يديم التأمل ويطيل النظر لاستخراج هذه العلوم.
ان هذا النمط من الاعتقاد في فهم المنهج العلمي له نصيب من الصحة وفي الوقت ذاته يبتعد عن حدود المنهج العلمي من حيث المفهوم، اما صحته فتكمن في ان القرآن الكريم ينطوي على بعض العلوم وللمتأمل ان يعي هذه العلوم ويتلقَّفها من النص ويستثمرها، اما ابتعاد هذا المعتقد عن حدود مفهوم المنهج العلمي فيتحقق في ان المنهج العلمي لا يدعو الى استخراج اصناف العلوم من النص القرآني بقدر ما يدعو الى بيان ما انطوت عليه الايات من حقائق علمية؛ اذ ان تطور العقل البشري دفعه الى اكتشاف العديد من الحقائق العلمية التي وجد لها اشارات في النص، فتجلَّى التفسيرُ العلميُ بين صحة الحقيقة العلمية في الواقع واشارات النص القرآني لها قبل اكثر من اربعة عشر قرنا مضت، وقد يحدث ان ينعم المتأمل النظر في النص فيكتشف معلومة في طيات النسيج اللغوي للاية فيستخرج حقيقة علمية معينة، وكلا الامرين لايدعوان الى القول بان المنهج العلمي هو ما يستخرج به جملة العلوم من القرآن الكريم؛ ذلك بان هذا الكتاب المقدس لم يحوِ كل اصناف العلوم القديمة والحديثة؛ لانه – في حقيقة أمره- نص اعجازي تشريعي يعمل على مَنْهَجَةِ سلوكيات الانسان ويدعوه الى الايمان بجملة من الثوابت كتوحيد الله تعالى وصدق النبوة واليقين بالمعاد والاقرار بإرسال الرسل والوفاء بالعهد وغير ذلك.
اما اذا حَمَلَ النصُّ سراً علمياً او حقيقةً تطبيقيةً واقعةً فإن هذا لا يدفع بنا الى الاقرار بان النص يحوي جميع العلوم منذ نزوله وحتى انتهاء الحياة البشرية وإلا لصح لنا القول بان معجزة الرسول محمد(صلى الله عليه وآله) هي عبارة عن نظريات علمية مُنَظَّمَة قد ادركها ووعاها قبل الناس جميعا وهذا محال ومنتفٍ بانتفاء الموضوع.
وعلى الرغم من اهمية هذا المنهج في بيان الاعجاز القرآني فان مواقف العلماء قد تباينت تجاهه رفضاً وقبولاً تضييقاً وسعة كلٌّ بحسب منظاره ومنطلقه، فمنهم من عدَّه من جنس التفسير بالرأي وبهذا منع من استعمال هذا المنهج لبيان دلالات القرآن؛ على حين توسع فيه آخرون الى الحدِّ الذي حمََّلوا فيه النصَّّ ما لا يحتمله في الوقت الذي اعتمد فيه بعضهم الاخر جملة من الضوابط والشروط التي اذا ما طبَّقها المفسِّر العلمي يمنح تفسيره سمة الجواز والقبول وهذا الاخير يمثل الاتجاه الارجح والاوفق لقبول الدلالات القرآنية التي تستخرج بفعل هذا المنهج.
واذا ما سلمنا بصحة هذا المنهج في تفسير التعبير القرآني على وفق الشروط التي وضعها العلماء فانه يمكن – والحال هذه – القول بان هناك الكثير من الايات القرآنية التي ضمت بين نسيجها اللغوي مضامين علمية غاية في الروعة والابداع وما هذه اللمحات إلا دليل قاطع على ان هذه المعجزة العظيمة لايمكن ان تكون من صنع البشر البتة؛ ذلك بان المضمون فوق الاحتمال والمقدرة المُضَّمَّنة فيه تتجاوز حدود القدرة البشرية وتتعدى خطوط الامكان الانساني فلا سبيل لنا إلا ان نقول بانها من صنع الخالق العظيم فهو وحده القادر على ان يفعل هذا فحسب؛ وللبرهنة على ان النص القرآني يضم بين دفتيه لمحات علمية واشارت معرفية كثيرة ومتنوعة ننظر الى ذلك قوله تعالى (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً)(6) قال المبرد إن (العنكبوت أنثى ويُذكَّر)(7)، فنفهم من كلامه بان لفظة (العنكبوت) تطلق على الذكور من جنس العناكب ايضا فضلا عن الاناث؛ فاذا كان الحال هذه فلماذا عبَّر سبحانه عن نسج بيت العنكبوت بالصيغة المؤنثة التي تعرف من تاء التأنيث في الفعل (اتخذت)، ولم يعبر عن معنى التذكير في الاية.
إن هذا التساؤل قد حسمته ابحاث العلماء المحدثين فقد اثبتوا بالدليل القاطع ان ما ينسج بيت العنكبوت هي الاثنى وليس الذكر؛ ولهذا عبر النص القرآني عن بناء بيت العنكبوت بالتأنيث لا بالتذكير بناء على الحقيقة العلمية التي تقر بذلك(8).
ومنه أيضاً قوله تعالى: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ)(9)، فالنص الكريم يتحدث عن نمطين من الانماط البشرية؛ النمط الاول هو الذي يسعى وراء الهداية ويبتغيها من الله تعالى، ومن يفعل ذلك فان الله سبحانه يسانده في مسعاه ويجعل صدره شرحا ومعنى الشرح في النص هو البسط والانفتاح، على حين ان من يُرِد الضلالة (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) وفي هذه العبارة اعجاز علمي يمكن للمتأمل ان يكتشفه ويفسره على وفق المنظور العلمي الذي توصل اليه العلماء في الوقت الحاضر وهو ان الشخص كلما ارتفع عن مستوى سطح الارض يبدأ نفسه بالضيق ويعتريه الاختناق؛ اذ ينحبس صدره ويصبح حرجا لقلة ورود الاوكسجين اليه؛ ذلك بان نسبة الاوكسجين تقل كلما ارتفعنا عن مستوى سطح الارض وهذه حقيقة علمية متفق عليها لا تقبل الشك او التردد، (فقد ثبت أن التصعد المستمر إلى طبقات أعلى في السماء يؤدي إلى حدوث اضطرابات عديدة في أجهزة مختلفة منها الجهاز التنفسي؛
فالصعود المستمر إلى طبقات الجو العليا يؤدي إلى ضيق حسي نتيجة تورم الشعب والرئتين الناتج عن تبخر الماء في أنسجــة الجسم كلها بما في ذلك الجهاز التنفسي؛ ويسبب ذلك ضيقاً شديداً في حجم الرئتين فينقص حجم الهواء الذي يمكن تحويله إلى أن ينعدم تماماً)(10)؛ ومن الجميل ان الله تعالى قد عبر عن الصعود بالصيغة المضعفة (فعَّل) فقال (يصعَّد) ولم يقل (يصعد) وذلك بان تضعيف العين في الفعل يفيد التكثير والتدرج في اداء الحدث فكأن صعود صاحب الضلالة في السماء يكون متدرجا من جهة ومتكررا من جهة اخرى مما يؤدي الى معاناة شديدة وصعوبة بالغة في عملية التنفس؛ اذ عذاب الاختناق سيكون تدريجا ومكررا غير مرة يزاد على هذا انه سبحانه قال (في السماء) ولم يقل (الى السماء) ليوحي لنا بان هذا الضال انما هو في وسط السماء فهو مختنق وضيق الصدر اساسا ثم يبدأ سبحانه برفعه تدريجيا ليزداد الما وضيقا على ضيقه، فيكون هذا التصعيد عذابا فوق العذاب الذي هو كائن فيه اصالة، وفي هذا قساوة وشدة ومعاناة عالية، فكأن الله تعالى يريد ان يخبرنا بان حال هؤلاء القوم كحال مَن يعذِّب نفسه عذابا متأنيا بطيئا، فهو يغرق في الضلالة ويختنق بها شيئا فشيئا وصولا الى الموت ومن ثمة سيبدأ عذابه الحقيقي هناك، ومن البديهي ان العرب الذين عاصرو النص القرآني لم يكونوا يعرفون معنى هذه الاية بالحيثية التي نعلمها الآن وانما كانوا يفهمون ان الذي لا يبتغي الهداية يكون صدره حرجا نتيجة لضلالته.
ومنه أيضاً قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ)(11).
ذهب الطوسي إلى أن (المعنى: إن كل شيء صار حيا، فهو مجعول من الماء؛ ويدخل فيه الشجر والنبات على التبع، وقال بعضهم: اراد بالماء النطف التى خلق الله منها الحيوان، والاول أصح)(12) فنلحظ ان الطوسي بمقولته هذه قد فسر النص تفسيرا علميا؛ لان كل حي لابد من ان يتكون من خلايا وان كل خلية يدخل الماء عنصرا اساسيا في تركيبها حيث يشكل الماء من حجم الخلية الحية من 65% الى 75% بحسب نوع الخلية*، ومن الجميل ان الطوسي قد التفت الى القول الثاني الذي يرى ان المراد بالماء هو النطفة وان الشيء الحي هو الانسان، فعقب عنه بالقول (والاول اصح)، لان الماء لايدخل في خلق الانسان الحي فحسب؛ بل يدخل في تركيبة كل خلية حية سواء أكانت في الانسان أم في غيره من الاحياء، فالركون الى القول الثاني يعد تخصيص من غير مخصص،
لذا آثر الطوسي القول الاول،ثم ان القول الثاني مردود بقوله تعالى(وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(13)، فلفظة (كل) في الاية تشمل جميع الدواب بلا استثناء بهذا لايمكن حصر دلالة الإحياء بالماء في الانسان فقط، ويبدو من (ظاهر السياق أن الجعل بمعنى الخلق و{ كل شئ حي } مفعوله والمراد أن للماء دخلا تاما في وجود ذوي الحياة)(14) فـ(من) في النص يراد بها الدلالة على الجنس؛ لان صفة الحياة في المخلوق لاتتحق اذا لم يكن تركيب المخلوق من جنس الماء، ذلك بان الماء من اساسيات الحياة لكل مخلوق.
وقد لايراد من لفظة (من) قوله تعالى (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيّ) الدلالة عن الجنس بمعنى ان الاحياء مخلوقة من جنس الماء لانه الاصل في احيائها، وانما يحتمل ان يكون المراد من حرف المعنى (من) الدلالة على السببية(15)؛ والذي سوغ هذا القول هو قابيلة الفعل (جعلنا) من حيث تعديه الى مفعول واحد او اكثر؛ ذلك بان الفعل (جعلنا لا يخلو أن يتعدى إلى واحد أو اثنين، فإن تعدى إلى واحد؛ فالمعنى: خلقنا من الماء كل حيوان، كقوله: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ)(16)، أو كأنما خلقناه من الماء لفرط احتياجه إليه وحبه له وقلة صبره عنه، كقوله تعالى: (خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ
عَجَل)(17)، وإن تعدى إلى اثنين فالمعنى : صيرنا كلَّ شيءٍ حي بسبب من الماء لا بد له منه)(18) اي خلقنا الاحياء بسبب الماء فكانت هذه الاحياء مستمرة في الحياة؛ لان الماء هو الذي يحييها فهو داخل في تكوينها اذ يمنحها الديمومة والمواصلة في البقاء ولولا الماء لهلكت الاحياء جميعا، وسواء كان المراد من (من) الاشارة الى الجنس أم الاشارة الى السبب فان هذا لا يبتعد عن ان الماء هو اصل الحياة ابتداءً أم دواماً.
بهذا نجد ان النص القرآني قد اشار الى حقيقة علمية منذ اكثر من اربعة عشر قرنا، وان هذه الحقيقة لم يكن العلم قد وصل اليها وقتذاك وانما اكتشفها العقل البشري بفعل تقدم مستوى التفكير وتطور الحقل التجريبي والبرهاني للاشياء، فعُلِمَ بان الخالق هو الوحيد الذي يعلم بماهية خلقه وممَ يتكونون، وما السر في بقائهم احياء، فسبحانه وتعالى عما يصفون >
——————————————————————————————————