عندما قرر الإمام الحسين(عليه السلام) القيام بالثورة كان قد أعدّ لكل شيء عدته، فضلاً عن كونه قد حدد الوجهة التي هو متوجه إليها، إذ أنه منذ اللحظات الأولى لخروجه وقبل أن تصله رسائل أهل الكوفة صرح في أكثر من موضع أن وجهته ستكون العراق وأن محله الكوفة حيث شيعته وشيعة أبيه(عليه السلام)، وكأي قائد عسكري محنك فانه لم يغادر صغيرة أو كبيرة إلا وأخذ العدة لها، فكان ابتداء أمره وصيته لأخيه محمد بن الحنفية: (وأما أنت يا أخي فلا عليك أن تقيم بالمدينة فتكون لي عيناً عليهم ولا تخفِ عني شيئاً من أمورهم)(1)، في خطوة منه للتعرف على تفاصيل ما يجري في الحجاز بغيابه.
ثم كتب وصيته إلى أخيه محمد بن الحنفية قبل خروجه إلى مكة موضحاً فيها غايته وأهداف اعتراضه والتي يمكن أن تعدّ البيان الأول للثورة الحسينية ومنها: إني لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بقبول الحق(2).
تحرك الركب الحسيني إلى مكة، سالكاً الطريق الأعظم من دون أن يتنكب عن الطريق، أو يسلك الطرق الفرعية في تحدٍ واضح للسلطة الأموية(3)، وقد تضمن ذلك الخروج العلني وإشهار المسير إلى مكة نوعاً من التعبئة للرأي العام الإسلامي(4)، إذ حرص أبو عبد الله(عليه السلام) على أن تكون ثورته جماهيرية التأثير والاستمرار برغم أنه كان عارفاً بالظروف الموضوعية التي يعيشها المجتمع الإسلامي آنذاك، ويعلم أن الأمة لن تستجيب لصوته استجابة سريعة إلاّ أنه أصرّ إلاّ أن يوصل أنباء نهضته إلى سائر البلاد الإسلامية لإيجاد جمهور لثورته سواء أكان ذلك على مستوى الاستجابة العاجلة المتمثلة في النخبة التي ضحت معه أم على مستوى من ينضم إلى جمهور الثورة فيما بعد الواقعة،
وهذا الحرص من الإمام يمكن ملاحظته من إعلانه عن عزمه على الثورة في البيت الحرام وفي موسم الحج حيث التجمع السنوي للمسلمين من مختلف البلدان الإسلامية وتصريحه بالدعوة إلى الشهادة والتضحية(5)، إذ لم يكن خروج الإمام الحسين(عليه السلام) مع جماعته من المدينة إلى مكة فراراً من مطالبة الوالي إياه بالبيعة ليزيد كما يذكر ذلك بعض الكتّاب(6)، إذ لو كان ذلك الخروج فراراً لسلك مسلك عبد الله بن الزبير في الذهاب إلى مكة من خلال اتباعه الطرق الفرعية ليفوت على السلطة الأموية فرصة اللحاق به(7).
ولم يكن الذهاب الى مكة والتجاءه إليها احتماءً بالبيت الحرام من الذل والإرغام(8)، ودليلنا إلى ذلك النصوص الواردة عن الإمام الحسين(عليه السلام) لناصحيه بالبقاء في مكة وعدم الخروج منها إلى العراق إذ كان يذكر استهداف بني أمية لشخصه، وأنهم يتعقبونه في كل مكان، وأينما يكون، وأنه ميت على أي حال سواء بقي في مكة أم خرج منها، وأن بني أمية قد صمموا على تصفيته ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة وأنه كان حريصاً ألا تنتهك حرمة الحرم الشريف بسفك الدماء فيها(9) وهذا ليس كلام شخص خرج ليلوذ بالحرم الذي اقتنع بأن بني أمية لا يتورعون عن انتهاك قدسيته.
فلم يأتِ خروج الإمام الحسين(عليه السلام) رضوخاً لحالة من الخوف وإنما أراد أن يلفت النظر المسلمين من مكة إلى قيامه ودوافعه وأهدافه، وأن يستعرض المواقف العامة للناس، ويشدّ اهتمامهم(10)؛ فلاشك أن الحسين(عليه السلام) قد أصبح محطة للمعتمرين وأهل الأمصار الذين وفدوا لأداء مناسك الحج طيلة الأربعة أشهر التي أمضاها قبل مغادرة مكة ولم يُخفِ نيته بالخروج على يزيد وحكمه بدليل أنه تلقى نصائح عدد من وجهاء الأمة المشفقين عليه من الخروج على يزيد مخافة قتله وفشل ثورته(11).
ومن ناحية أخرى مثّل خروج الحسين(عليه السلام) إلى مكة وإباءه البيعة بارقة أمل لمن يرغبون في التخلص من بني أمية والسير خلف راية أهل البيت(عليهم السلام)(12) إذ كان العراق في هذا الوقت ملتهباً بعد أن علم أهله بهلاك معاوية وبيعة يزيد، وخروج الحسين(عليه السلام) إلى مكة رافضاً البيعة فعقدت في الكوفة الاجتماعات المناهضة للسلطة الأموية فاجتمع الكوفيون في بيت سليمان بن صرد الخزاعي(13).
وقد شاركت البصرة الكوفة في عملية التحرك فالتئم اجتماع عدد من أهلها في بيت امرأة من عبد القيس يقال لها مارية بنت سعد(14)، وتم انتقاد سياسة معاوية في ذلك الاجتماع، ورفضت فيه ولاية يزيد، واستقرت كلمة الحاضرين على دعوة الحسين(عليه السلام) للقدوم عليهم فكتبوا إليه(15): (من أجل قيادة الثورة التي قطعت شوطاً من النضج جاء في النتيجة محصلاً للمرحلة السرية وجهودها المكثفة كإطار وحيد للنضال السياسي في العهد السابق)(16).
وكان أول كتاب ورد للإمام الحسين(عليه السلام) في مكة لعشر ليال خلون من شهر رمضان(17)، ثم توالت الرسائل والكتب ووفود الكوفة والبصرة إلى الإمام الحسين(عليه السلام) في مكة، فكتب الإمام الحسين(عليه السلام) إلى أهل البصرة كتاباً جاء فيه: (أما بعد، فإن الله اصطفى محمداً صلّى الله عليه وآله على خلقه، وأكرمه بنبوته، واختاره لرسالته، ثم قبضه الله إليه وقد نصح لعباده، وبلغ ما أُرسل به صلّى الله عليه وآله، وكنا أهله وأولياءه وأوصياءه وورثته وأحقّ الناس بمقامه في الناس، فاستأثر علينا قومنا بذلك، فرضينا وكرهنا الفرقة، وأحببنا العافية، ونحن نعلم أنا أحقّ بذلك الحقّ المستحق علينا ممن تولاه)(18).
ولو نظرنا في نص الكتاب سنجد إشارة إلى ذلك الخلاف الذي حصل حول الخلافة بعد وفاة الرسول الكريم(صلى الله عليه وآله) بين بني هاشم وسواهم، وتواترت كتب التاريخ على اختلاف مذاهب أصحابها على نقله، وفي الكتاب قول بحق أهل البيت بخلافة النبي(صلى الله عليه وآله) ووصايته ووراثته، وهذا ما لم يتخلَّ عن التصريح به الإمام علي(عليه السلام) قبل خلافته وبعدها، وصرح به الحسن(عليه السلام) بعده، وذكر الحسين(عليه السلام) ترك بني هاشم للخلاف حباً للجماعة والائتلاف.
ولعل المتمعن في الحوادث التاريخية سيجد ان الإرادة الشعبية قد أبدت مطالبتها – ولو ظاهرياً – للإمام الحسين(عليه السلام) للقيام بالثورة على الحكومة القائمة، وقد ظهر ذلك جلياً من إجماع أهل الحجاز على تفضيل الحسين(عليه السلام) وخاصة بعد إعلانه عدم البيعة وقدومه إلى مكة(19)،
ومن اجتماع أهل العراق – كوفة وبصرة – على مكاتبته ودعوته للقدوم، وقد حدد الإمام الحسين(عليه السلام) نظرته للحكم ورؤيته للسلطة، ومفهومه لإرادة الناس، وبيعة الجمهور من خلال رسالته التي بعثها إلى أهل الكوفة جواباً على كتبهم:
(قد فهمت كل الذي اقتصصتم وذكرتم، ومقالة جلّكم انه ليس علينا إمام فأقبل لعل الله أن يجمعنا بك على الهدى والحق… فلعمري ما الإمام إلاّ العامل بالكتاب والآخذ بالقسط، والدائن بالحق، والحابس نفسه على ذات الله)(20).
وهو يوضح أن الحسين(عليه السلام) يستجيب لإرادة عامة (مقالة جُلّكم) ويفضح بطلان بيعة الحاكم يزيد وعدم أهليته لولاية المسلمين ببيان بعض الشروط الموضوعية للإمام على الناس. وهو ما أكده الحسين(عليه السلام) في المدينة عندما طلب منه مروان بن الحكم مبايعة يزيد فقال له:
(إنا لله وإنا إليه راجعون؛ وعلى الإسلام السلام إذا بليت الأمة براعٍ مثل يزيد.. يا مروان! أترشدني لبيعة يزيد، ويزيد رجل فاسق)(21).
ولذلك يعتقد الباحث بأن دوافع الثورة كانت قائمة، وان الحسين(عليه السلام) كان سيقوم بها حتى إذا لم تأته رسائل الكوفيين التي قد تكون عجلت بقيام الثورة لأنها تعبير عن إلقاء المسؤولية الشرعية على عاتق الحسين(عليه السلام) في الخروج على الحاكم الظالم. فضلاً عن أن السلطة الأموية لم تكن لتترك الحسين(عليه السلام) دون انتزاع البيعة منه أو قتله، وقد صرح الإمام بهذه الحقيقة في كلامه مع الذين حاولوا أن يثنوه عن مسيره أو الخروج من مكة فقال: (والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي فإذا فعلوا سلط الله عليهم من يذلهم..)(22) وفي نص آخر: (وأيم الله لو كنت في جحر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا بي حاجتهم)(23)..
وإذا كانت الثورة قد أصبحت القرار النهائي للإمام الحسين(عليه السلام)، والشخوص إلى العراق لتكون الموضع الذي ستنطلق منه الثورة، فقد حرص(عليه السلام) على تهيئة الموقف السياسي في العراق قبل الوصول إليه، إذ انه أمام إلحاح أهل العراق وتوالي كتبهم ورسلهم إليه في مكة كتب إليهم يقول:
(... وقد بعثت إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي، وأمرته أن يكتب إليّ بحالكم وأمركم ورأيكم، فإن كتب إليّ بأنه قد أجمع رأي ملئكم وذوي الفضل والحجى منكم على مثل ما قدمت عليّ به رسلكم وقرأت في كتبكم، أقدم عليكم وشيكاً إن شاء الله)(24).
ويتبين من هذا الكتاب أن الحسين(عليه السلام) قد أرسل من يتعرف على ما أجمع أهل الكوفة عليه، وأكد لهم أنه سوف يلبي مطالبهم بالقدوم إليهم إذا كتب إليه رسوله بما يشاهده منهم، وهذا غاية ما يستطيعه للاحتراز قبل الإقبال إلى العراق(25) فأرسل ابن عمه مسلم بن عقيل إلى الكوفة(26) وأرسل مولاه سليمان إلى البصرة(27).