كانت ولازالت قضية استشهاد الإمام الحسين(عليه السلام) في كربلاء تحظى باهتمامات وكتاب ودراسات تنوعت بين الجوانب التاريخية والفكرية والإعلامية والاجتماعية وغيرها من الجوانب المثيرة لاهتمام الباحثين ولا نبالغ إذا قلنا إن قضية الحسين(عليه السلام) حازت الاهتمام الأوسع وتناولتها أقلام الباحثين من كل أنحاء العالم ومن مختلف الأعراق والأديان فكانت أكبر الدراسات وأوسعها هي ما كانت القضية الحسينية محورها ومرتكزها
وليس هذا فحسب بل إنها كانت موضع اهتمام من أرباب الفنون رسامين وتشكيليين ومسرحيين وسينمائيين فعلى سبيل المثال فقد جسدت لوحات الفنان العراقي الكبير كاظم حيدر الملحمة الحسينية وقصة استشهاد أبو الأحرار وإبراز الجوانب القيمة والبطولية في هذه الملحمة وكذلك الأمر في مسرحيات عبد الرحمن الشرقاوي عن الإمام العظيم الحسين بن علي بن أبي طالب(عليهما السلام) فضلاً عن آلاف القصائد التي فاضت بها قرائح شعراء كبار ومن مختلف الأديان
فإمامنا الحسين(عليه السلام) غدا رمزاً للإنسانية وللمظلومين في العالم ونبراساً للأحرار في كل مكان، ولذلك زادت الدراسات وتوسعت عن النهضة الحسينية ولم يبقى مجال إلا ودخله الباحثون والكتاب لتناول الرموز والقيم والمعاني المتعلقة بالواقعة العظيمة أو بالإمام(عليه السلام) نفسه أو بأصحابه الذين افتدوا الإسلام وإمامهم بأرواحهم.
ولما كانت البحوث والدراسات لم تقتصر على منحى واحد بل سارت في اتجاهات متعددة فإن أنصار الإمام(عليه السلام) الذين استشهدوا معه في كربلاء انصب عليهم الاهتمام الفكري والعلمي وكانوا محوراً لدراسات متنوعة تناولت سيرهم وقصص صمودهم وبطولاتهم واستشهادهم لأنهم شكلوا بأرواحهم وأجسادهم لوحة الشهادة الخالدة وقصة الفداء العظيم وقضية طاعة الإمام(عليه السلام) المعصوم والدفاع عنه وبالتالي الدفاع عن دينهم والحفاظ على عقيدتهم من عبث الطلقاء والخارجين عن الدين والمارقين الذين انقضوا على زعامة الأمة انقضاضاً بلا حق أو شرعية ففسدوا وتجبروا وانتهكوا الحرمات وحينها لم يبق إلا التصدي لهم والوقوف أمام محاولات طمس الإسلام والعودة إلى الجاهلية لإثبات حقيقة الروح الحية المدافعة القوية التي لا تحتمل المس بالمقدسات.
ولتكن وقفة إمامنا(عليه السلام) وأصحابه صرخة حق وقدرة على مواجهة المتربصين بالدين، وفي هذا السياق وبحثاً لموضوعة جديدة وجديرة بالبحث والمناقشة فقد جاء كتاب محمد علي عابدين الموسوم (الدوافع الذاتية لأنصار الحسين(عليه السلام) بحث يبين الدوافع الذاتية والدوافع الرسالية) إذ تناول المؤلف التفريق بين الدوافع المختلفة لأصحاب الحسين(عليه السلام) منذ انطلاق مسيرتهم من المدينة المنورة حتى مرابطتهم على أرض الطف كربلاء المقدسة والكتاب صادر عن مركز دراسات نهضة الإمام الحسين(عليه السلام).
قسم الباحث دراسته (الكتاب) إلى ثلاث أبواب
تناول الأول منه المرحلة الأولى من الملحمة الحسينية المحصورة بالمدة الزمنية لتحرك الإمام الحسين(عليه السلام) من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة ومن ثم مغادرته مكة وبحث المؤلف في هذه المرحلة الموقف في مكة قبل المغادرة والعوامل الاجتماعية الفاعلة فيها بما فيها حركة المعارضين للحكم الأموي الذين تخلفوا عن الالتحاق بمسيرة الإمام الحسين(عليه السلام) دون مبرر شرعي أو اجتهاد وهو ما يتلاءم مع موقف أشخاص ضعفاء الإرادة الذين أيدوا الثورة في البداية ثم تخلوا عنها فيما بدت على وشك الحصول.
ودرس المؤلف في الباب الثاني الفترة الزمنية المحصورة بالرحيل من مكة المكرمة إلى العراق حتى وصوله مدينة كربلاء وفي هذه المرحلة انضم عدد من المجاهدين الحقيقيين بالثورة الحسينية وانفض عن هذه الثورة جموع غفيرة تقهقرت لعوامل يدرسها المؤلف في هذا الباب وبالفعل فإن هذه المرحلة اتسمت بخطورة الموقف وصعوبته بما يتطلب إرادة ذاتية قوية تجعل من الأنصار الثبات والمقاومة والصبر على ما سيؤول إليه مصيرهم وقت التقاء جيش الحق وجيش الباطل.
أما الباب الثالث فقد بحث فيه المؤلف المدة الزمنية المحصورة بين وصول الإمام الحسين(عليه السلام) إلى مدينة كربلاء إلى حين يوم العاشر من محرم إذ تجمع رجال الثورة الحسينية في ساحة كربلاء عدة أيام قبل وقوع المعركة وتميزت هذه الفترة بانضمام والتحاق أنصاراً جدد للركب الحسيني الثائر من مدينة الكوفة وفي هذا الوقت خيّر الإمام(عليه السلام) العظيم أنصاره بين البقاء معه أو الرحيل تاركاً الأمر لهم في حق الاختيار بين الحق والباطل.
والحقيقة إن المؤلف قد نجح في وضع خطة محكمة لبحثه ودراسته عندما قسمها إلى أبواب حسب المدد الزمنية مراعياً طبيعة التحولات الجارية على مشهد النهضة الحسينية منذ بداياتها الأولى وانطلاق المعارضة للحكم الأموي في المدينة المنورة والتغيرات الحاصلة في المواقف عند الكثيرين من حالة الرفض والمعارضة إلى الخضوع بالواقع الفاسد
والمؤلف بذلك يحاول تشخيص الحالات السلوكية الذاتية الطارئة مع كل حركة تتقدم باتجاه الفعل الاستشهادي والمتمثل بالمعركة العظمى معركة كربلاء إذ يأخذنا الباحث معه في سرد تاريخي تقويمي وفي مرات أخرى تفكيكي لعناصر الحدث الرئيسية الممثلة بالشخصيات التي تظهر على طول الفترات المتتابعة إذ نرى في كل مدة زمنية ينسحب البعض ممن خارت قواه ويلتحق آخرون بالمسيرة لحسينية دفاعاً عن الإسلام العظيم وطاعة للإمام المعصوم
في الوقت نفسه تظهر الدوافع الذاتية المؤثرة وفي هذه الحالة فإن المؤلف يفرق بين الدوافع السلبية والدوافع الإيجابية إذ يشير إلى ذلك من خلال التأكيد على إن الإسلام العظيم يدعو إلى الوعي بالعمل والتصرف بالشعور وهذا ما يشير إليه في مقدمة كتابه: (إن مفاهيم الإسلام لا تسمح بممارسة عمل دونما وعي له واستحضار الشعور معه ولا تؤيد العفوية واللامبالاة والانجراف بإيحاء اللاشعور والانحدار في تيار السلوك الجمعي ذلك إن الإسلام يدعو إلى الوعي والقصد في كل نشاط).
وهنا يؤكد المؤلف على ضرورة اتخاذ العقل كحاكم للتصرف وهو يرفض بوضوح الانجراف وراء سلوك الجمعي وهي التفاتة ذكية من المؤلف يحاول من خلال إثبات حقيقة إن الشهداء من أنصار الإمام الحسين(عليه السلام) كانوا مدركين بوعي وشعور كامل الدور التاريخي الثوري الذي يؤدوه ويقوم برسم صورته الخالدة أي أنهم لم يتصرفوا بدافع الصلات القرابية والعائلية بل إن اندفاعهم كان واعياً وهذا ما تؤكده حقيقة التوزيع المميز لأنصار الإمام(عليه السلام) على الأصول القبائلية والعرقية المتنوعة إذ كانوا من مختلف القبائل والأعراق كان جامعهم الأكبر الإسلام والوعي بخطورة المرحلة وضرورة إحداث التغيير بالقيادة الشرعية التي مثلها الإمام الحسين(عليه السلام)،
وكما يؤكد المؤلف فالسائرون بالركب الحسيني كانوا مدركين وواعين لمعنى الجهاد الإسلامي بمعناه وجوهره ومبدئه ولم يكن هدفهم من ذلك الوصول للحكم والسلطة فهم بوعيهم اندفعوا فادين أرواحهم بلا جبر أو إغراء كانوا يشكلون مسيرة الأحرار العارفين والواعين بالخطر المحدق بلا مشجعات وإغراءات إلا الجنة بينما كان المعسكر المقابل دافعه إما الإكراه من الحاكم المتجبر عبيد الله بن زياد أو الإغراءات المتنوعة التي قدمتها حكومة بني أمية لمن يشارك في قمع الثورة الحسينية.
وفي دور التعبئة والعمل على تحريك الدوافع الذاتية فإن الإمام الحسين(عليه السلام) قام بتصفية ما سار معه من أنصار حرصاً منه على إظهار جبهة الثوار بمظهرها الرائع واللائق عبر التاريخ فأبعد العناصر الانتهازية والنفعية وأرهب العناصر الضعيفة الجبانة عندما أنذر بما ينتظرهم من مصير محتوم وجهاد عظيم فانسحب ذوي الأغراض والأطماع عشاق الغنائم لتبقى القلة النوعية الأصيلة المدفوعة بدوافع الغيرة الإسلامية والعنفوان التاريخي بوصفها صانعة لتاريخ جديد يعيد للإسلام مكانته وهيبته.
والحقيقة إن الموقف الحسيني في تخليص أنصاره من العناصر الضعيفة الخائفة كان له بعده المستقبلي عندما ظهرت هذه الثورة كأعظم الثورات في تاريخ البشرية بلا نفعيين أو ضعفاء، فالملحمة الحسينية لا تضم إلا المجاهدين الأبطال وهم الجوهر الحقيقي للإسلام الأصيل والروح الفدائية التضحوية فكانوا التاريخ الأشرف والأبهى للبشرية وهذا ما جعل هذه الثورة تمتد بتأثيراتها الروحية والفكرية والتنويرية إلى خارج النطاق الإسلامي شاملة النطاق الإنساني ككل عندما نلاحظ هذا التأثر بالطهرانية الكربلائية يتجسد في مقولات وأفكار الثوار العالميين في مختلف أرجاء الأرض متخذين من الإمام الحسين(عليه السلام) وأنصاره كأمثلة رائعة لقوة العقيدة والطهر الثوري.
فالإمام العظيم(عليه السلام) يؤكد ويثبت تفرد هذه الثورة حتى في مسيرته إلى كربلاء كما يذكر ذلك المؤلف فكان مسيره على الطريق الرئيسي العام المعتاد سلوكه من قبل الناس ذهاباً وعودةً ولم يتركه إلى طريق معزول خفي بدعوى تجنب الصدام أو الخوف من معارضته السلطة وأجهزتها القمعية وهي مغادرة ورحلة تحدي للسلطة علنية وقد رفض الإمام الحسين(عليه السلام) رأي من أشار عليه بضرورة تجنب السير العلني قائلاً: (لا والله لا فارقت هذا الطريق أبداً حتى أنظر إلى أبيات مكة أو يقضي الله في ذلك ما يحب ويرضى).
يشير المؤلف إلى واحدة من الانعطافات المهمة في المسيرة الحسينية وتتمثل بالتحاق زهير بن القين البجلي بأنصار الإمام الحسين(عليه السلام) والدوافع الذاتية الواعية التي جعلت من هذا الرجل أحد شهداء كربلاء مخلداً في سجلات التاريخ بعد أن وعى وتبصر وأدرك الحق وسار معه بلا خوف أو خشية ومن دون إكراه وإغراء بل هي الهداية والعقل الواعي الذي عرف أصل الحق وأين موقعه فكان انضمامه لمعسكر الإمام(عليه السلام) دليلاً على تلك الدوافع الإيجابية القاصدة إلى الدفاع عن الإسلام والوقوف بوجه أعدائه
رغم معرفة زهير بن القين بحقيقة الوضع العام السياسي والعسكري وما يحدق بأنصار الحسين(عليه السلام) من مخاطر عندما تجمعت عليهم كل السيوف والنبال وأصحاب المطامع لكنه كان قد آمن إن هذا هو طريق الحق ولابد من السير فيه تحت قيادة الإمام الحسين(عليه السلام) وبالمقابل فإن هذه الدوافع النبيلة السامية الإيجابية تقابلها دوافع سلبية دنيوية أساسها الإكراه والإغراء وليس أمراً آخر فكانت دوافع الجيش الأموي الذي تجمع لقتال الإمام الحسين(عليه السلام) وأنصاره هي دوافع الشر والتحرك بلا وعي وإدراك لما يحدث ويجري عندما سادت عند البعض روحية التحرك الجمعي غير المدرك
فما كان الخوف من القتل والسجن دافعاً لآخرين وهكذا اجتمعت الدوافع السلبية غير النزيهة عند جيش العدو المتنافر الغريب الأطوار حتى وصف المؤرخ والجغرافي البلاذري حالة الخوار والضعف والتردد التي انتشرت في أوساطه لتكشف عن حالة الدوافع الحقيقية وراء تجمع وتحرك هذا الجيش فهو يقول: (إن القائد الأموي يبعث على ألف مقاتل لا يصل إلى كربلاء إلا ومعه: ثلاث مائة أو أربع مائة أو أقل من ذلك فهم يفرون كراهة منهم لهذا الوجه).
وبذلك تظهر الفوارق بين الدوافع الذاتية، الدافع لجيش الحق ممثلاً بأنصار الإمام الحسين(عليه السلام)، وجيش الباطل ممثلاً بالجيش الأموي، فأنصار الإمام الحسين(عليه السلام) وكما يشير إلى ذلك المؤلف في كتابه (الدوافع الذاتية لأنصار الحسين(عليه السلام)) كانوا من الثبات والقوة والصلابة ما يؤكد قوة الدافع ونزاهته
كما هو حال بشير الحضرمي الذي رفض مغادرة أرض المعركة على الرغم من الأسباب التي تعذره بالانصراف وطلب الحسين(عليه السلام) منه ذلك لكنه أجاب الإمام العظيم(عليه السلام) بقوله: (أكلتني إذن السباع حياً إن فارقتك وأسأل عنك الركبان وأخذلك مع قلة الأعوان لا يكون هذا أبداً يا أبا عبد الله).
حتــماً إن القارئ لهذا الكتاب سيجد تفسيرات لأمور شهدتها ملحمة الطف ولمواقف بطولية نادرة لا تأتي من دوافع مادية بل هي دوافع ذاتية إيمانية ولعل المنفعة الأكبر تمتد إلى خطباء المنبر الحسيني في تطوير هذا الخطاب وتقديم رؤى وطروحات جديدة تجعل المتلقي أكثر التصاقاً بهذا الخطاب إذ يمكن للخطيب أن يجد في هذا الكتاب ما يسد فراغاً فكرياً غاية في الأهمية بل إن في هذا الكتاب من اللمحات والمواقف التي تدلل على فلسفة الشهادة الكربلائية وقيمة البطولة في صنع التاريخ والفكر الحيوي البعيد لهذه الملحمة الخالدة.