Take a fresh look at your lifestyle.

الهجمات المتتالية على كربلاء

0 1٬138
           أحدث مصرع الإمام الحسين بن علي(عليهما السلام) أكبر تصدع في صدر الإسلام، فذرفت عليه العيون دماً بدل الدموع، وكانت إقامة الشعائر الحسينية خطراً يهز أركان البغي، وناراً تحرق الظالمين المستبدين، ولذلك فإن الحكومات الظالمة لم تجد وسيلة للانتقام سوى تهديم قبر الحسين(عليه السلام) وقتل الناس الأبرياء الذين يزورونه ومنع الشعائر المقدسة التي يمارسونها لإحياء ذكرى عاشوراء والمناسبات الدينية الأخرى.
              فقد تعرضت مدينة كربلاء منذ واقعة الطف للأطماع السياسية والإبادة والتدمير والتنكيل والتشريد على مر التاريخ، وعانت الآلام والمحن، وقدمت عوائلها قوافل من الشهداء على مر التاريخ، وقد ظلت المدينة تردد صرخات الاحتجاج على تلك المظالم في كل عصر لردع طغاة الأجيال من ارتكاب جريمة مثل جريمة يزيد وأمثاله من المجرمين حتى يومنا هذا، وهي لا تزال ترفع صوتها في مضمار التحدي والسير قدماً نحو عالم يضع الحق نصب عينيه ولا يدع للباطل صولة.

 

   هدم الحائر على عهد المنصور

              يعتبر أبو جعفر الدوانيقي الملقب بالمنصور أول المعتدين على الحائر والقبر المطهر في العهد العباسي، وذلك حين اعتلى عرش الخلافة العباسية، فهو لم يكتف بإبادة آل الحسن المثنى بالقتل فحسب، بل تجاوز في اعتداءاته على القبر الحسيني المطهر، وقد أصبح عمله سنة لمن جاء من بعده، فتبعه في ذلك الرشيد والمتوكل(1). ولا يخفى على القارئ ما لعب أبو جعفر من دور واضح في التنكيل بأهل بيت النبوة وجرعهم آلام السجن والتعذيب، والتاريخ شاهد على ذلك.

 

   الحائر وهدمه على عهد هارون الرشيد

             يروى عن يحيى بن المغيرة أنه عندما كان جرير بن عبد الحميد في دمشق جاءه رجل من أهل العراق فسأله عن خير الناس في العراق فأفاد أنه ترك الرشيد وقد كرب قبر الحسين(عليه السلام) وأمر بقطع السدرة فقطعت، فرفع يده قائلاً :
            (الله أكبر جاءنا حديث الرسول(صلى الله عليه وآله) أنه قال : لعن الله قاطع السدرة)(2).
            وقد دعاه البغض إلى هدم كربلاء من أساسها فأمر بهدم القبة السامية والدور المجاورة واقتلاع السدرة وحرث الأرض(3).
           وذكر العلامة السيد محسن الأمين العاملي بسنده عن محمد بن أبي طالب صاحب كتاب زينة المجالس أنّ أمر الحديث السابق كان مخيفاً عند الصحابة ولم يفهم معناه حتى كان أمر الرشيد وقطعه السدرة لأن القصد من الحديث بقطعه السدرة هو تغيير معالم قبر الحسين(عليه السلام) حتى لا يقف الناس أثناء الزيارة(4).
             وللشاعر الشيخ محمد السماوي أبيات من ارجوزته في هذا الصدد قوله:
     والحادث الثاني الذي أتى به               هارون في المخر على أترابه
     وحرث قبره وقطع السدرة                وقتله لمن يزور قبره(5)
              وشجرة السدرة هي الدليل الذي يستدل بها الزوار لمعرفة موضع القبر.

 

   المتوكل وحرثه قبر الحسين(عليه السلام)

              استنكر مأساة أبي عبد الله الحسين(عليه السلام) العالم الإسلامي بأسره، واحتج الناس على فضاعة الجرائم البشعة التي ارتكبها الأمويون والعباسيون على أقدس بقعة يقدسها المسلمون في مشارق ومغاربها، وتناولت أقلام المؤرخين ما قام به المجرمون من تنكيل المسلمين بالحسين (عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه بسبب الحقد الدفين والكراهية والسخط وبخاصة المتوكل الذي حرث قبره وأسال الماء عليه.
             فهذا ابن خلكان وغيره يحدثنا أن جعفر المتوكل العباسي كان كثير التحامل على علي وذريته(عليهم السلام)، فقد ضيق الخناق على الشيعة وطاردهم في الآفاق مطاردة عنيفة.
        جاء في كتاب (وفيات الأعيان): وقد أقام المتوكل المسالح طيلة فترة حكمه على أطراف كربلاء يترصدون لكل من يأتي لزيارة قبر الحسين(عليه السلام) ويهتدي إلى موضع قبره الشريف فيطاردونهم ويعاقبونهم بأشد العقوبات ومنها القتل والصلب والتمثيل، وقد وضع المتوكل يده على أوقاف الحائر وصادر أموال خزينة الحسين(عليه السلام) ووزعها على جنوده قائلاً أن القبر ليس بحاجة إلى الأموال والخزائن(6).
     وذكر أبو الفرج في (مقاتل الطالبيين):
              أن السبب في كرب قبر الحسين أن بعض المغنيات كانت تبعث بجواريها إلى المتوكل قبل الخلافة يغنين له إذا شرب، فلما تولاها ـ أي الخلافة ـ بعث إلى تلك المغنية فعرف أنها غائبة وكانت قد زارت قبر الحسين(عليه السلام) وبلغها خبره فأسرعت الرجوع، وبعثت إليه جارية من جواريها كان المتوكل يألفها، فقال لها أين كنتم، قالت خرجت مولاتي إلى الحج وأخرجتنا معها، وكان ذلك في شعبان، فقال إلى أين حججتم في شعبان قالت إلى قبر الحسين(عليه السلام) فاستثار غضباً وأتى بمولاتها فحبسها واستعفى أملاكها وبعث الديزج إلى قبر الحسين(عليه السلام) وأمر بكرب قبره ومحوه وتخريب كل ما حوله فمضى لذلك وخرب ما حوله وهدم البناء وكرب ما حوله نحو مائتي جريب فلما بلغ إلى قبره لم يتقدم إليه أحد فأحضر قوماً من اليهود فكربوه وأجرى حوله الماء ووكل به مسالح بين كل مسلحتين ميل ولا يزوره زائر إلا أخذوه ووجهوا به إليه(7).
             وقد أصبحت الشيعة على عهد المتوكل في كرب عظيم، ولم تنل شيئاً من الحرية إلا على عهد ابنه المنتصر الذي اشترك مع الأتراك في شوال 247هـ في قتل أبيه المتوكل كما وصفه المؤرخون، ولم يقدم الولد على قتل أبيه إلا غيرة وتعصباً لأهل البيت الطاهر، لأن المتوكل كما يحدثنا ابن خلكان كان كثير العداء لهم. قال السماوي:
     والحادث الثالث فعل جعفر                بالهدم والحرث لتلك الأقبر
     والمخر بالماء على ما قد حرث          وقتله المجاورين للحـدث
     وقد سمعت من حديث الديزج            وغيره كل مريع مزعج(8)

 

   غارة ضبة الأسدي

             ضبة الأسدي وهو من مدينة عين التمر، كان قطاعاً للطرق لصاً شرساً، طمع بالاستيلاء على كربلاء، فسولت له نفسه أن يغير عليها ليسلب مالها وأهلها فأغار عليها في مستهل عام 322هـ، ونهبها وحمل أهلها أسارى إلى قلعة عين التمر فملكها زهاء 32 سنة(9). وقد هجاه أبو الطيب المتنبي بقصيدته المعروفة ومطلعها :
         ما أنصف القوم ضبة            وأمـــــه الطــرطبّــــة
              ولما بلغ ضبة مقالة أبي الطيب أقام له في الطريق رجالاً من بني أسد فقتلوه وقتلوا ولده وأخذوا ما معه وكان ذلك سنة 354هـ(10).
             وجاء في (تجارب الأمم) : وفي هذه السنة نفذ عسكر إلى عين التمر في طلب ضبة بن محمد الأسدي وأنه ممن يسلك سبيل الدعار ويسفك الدماء ويخيف السبل وينهب القرى ويبيح الأموال والفروج، وانتهك حرمة المشهد بالحائر فلما أظل عليه العسكر المجرد هرب بحشاشته إلى البادية وأسلم أهله وحرمه فجعل أكثرهم في الأسر وملكت عين التمر(11).
              وقد تحدثت المصادر عن هذه الحادثة في أكثر من موضع، لأنها وجدت الصدى الأكبر في تاريخ المدينة.
             قال السماوي:
     والحادث الرابع نهب الأسدي               ضبة ذو العين لأهل البلد
     وسلبه في الدور والأسواق                  وقتله كل فتىً يلاقي
     ونهبه من روضة الحسين                   مصوغة النضار واللجين
     وعوده للعين من غير بصر                 في قومه المبتهجين بالظفر(12)

 

   غارة خفاجة على كربلاء

              ومن الحوادث المؤلمة التي أثارت سخط المسلمين أن غارت قبيلة خفاجة على كربلاء واستباحتها. قال أرباب السير: غارت خفاجة على كربلاء فسلبوا أهلها ووضعوا السيف في رقابهم وعاثوا فيها فساداً، فبلغ الخبر سيف الدولة فجهز جيشاً عرمرماً قاده بنفسه وحاصر خفاجة داخل الروضة الحسينية وغلق عليهم أبواب الروضة وقتل منهم خلقاً كثيراً وقاتلهم عند الضريح المقدس، فلم يسلم من خفاجة إلا شخص واحد ألقى بنفسه وفرسه من أعلى سور الحائر فنجا بنفسه… الخ(13). وهو الذي تولى إمارة الحلة سنة 479هـ وقتل سنة 501هـ
         قال السماوي:
     والحادث الخامس ما أهاجه              بنهب كربلا بنو خفاجة
     وذاك أنهم أتوا من غزو                 واستطرق الطف بفرط زهو
 
     فنهبوا سكانه وفتكوا                     واخفروا ذمامه وانتهكوا(14)\

 

   الحائر وتطاول المسترشد عليه

             سار المسترشد بالله بن المستظهر بالله على نفس النهج الذي سار عليه الخلفاء السابقون تجاه الحائر الشريف في الربع الأول من القرن السادس الهجري. وقد كان المسترشد في هذا الوقت يستعد لتجهيز الجيوش وجمع العساكر لأنه كان قد اشتبك في أواخر عهده بحروب داخلية أثرت عليه مدة يسيرة بعد وفاة السلطان محمود سنة 525هـ فكان بحاجة شديدة إلى المال، فتطاول على الحائر المقدس وصادر أمواله(15).
                ومما رواه المجلسي في البحار قال : أخذ المسترشد من مال الحائر وكربلاء وقال : إن القبر لا يحتاج إلى خزانة وأنفق على العسكر فلما خرج قتل هو وابنه الراشد(16).
   قال السماوي:
     والحادث السادس للمسترشد             إذ فعل الفعل الذي لم يعهد
     مد إلى خزانة الحسين كف               وباع ما قد كان فيها من تحف
     فقيل لم تمد للخزانة                       كفاً بلا رهن ولا ضمانة
     قال ما الحسين بالمحتاج                  لكل إكليل وكل تاج(17)

 

   الحائر ونهبه على يد المشعشعيين

             مرت فترة من الزمن لم يمس الحائر بسوء ولم يتعرض الحرم الحسيني للانتهاك والاعتداء من قبل السلطات الحاكمة إلى أن ظهر في أوائل سنة 844هـ دولة المشعشعين بقيادة فلاح بن محمد المشعشعي فأغار ذووه على الحائر الشريف.
           جاء في كتاب (مجالس المؤمنين) ما هذا نصه: وقد استولى علي بن محمد بن فلاح على أزمّة الأمور في حيـاة أبيـه وترأس القـوم بنفسه ودعـاهم إلى مقالته بأنه قد حلّت فيه روح أمير المؤمنين(18)، وأن علياً حي، فأغار بجيشه على العراق ونهب المشاهد المشرفة وأساء الأدب إلى الأعتاب المقدسة(19).
             توجه مولى علي إلى كربلاء فدخل الروضة الحسينية بفرسه وأمر بكسر الصندوق الموضوع على قبر الحسين(عليه السلام) وجعل الروضة المطهرة مطبخاً لطهي طعام جنوده وأعمل في أهلها السيف ونهب أموالها. كما سلب كل ما كان في الروضة المطهرة من التحف الثمينة النادرة وأسر الكثير من سكان كربلاء إلى دار ملكه في البصرة(20).
    قال السماوي :
      والحادث الثامن ما قد صنعا               علي أعني الفاتك المشعشعا
      ابن فلاح إذ أتى بالمين                     لمرقدي حيدر والحسين
      وقال إن القبر للحي حلل                   ونهب الأعيان في تلك الملل(21)

 

  الغزو الوهابي للحائر الحسيني

               تعرض الحائر للغزو الوهابي سنة 1216هـ، وأغار الوهابيون على كربلاء وفتكوا بأهل هذا البلد فتكاً ذريعاً، فقد ذكر لونكريك في كتابه (أربعة قرون من تاريخ العرق) قائلاً: انتشر خبر اقتراب الوهابيين من كربلاء عشية اليوم الثاني من نيسان 1801م عندما كان معظم سكان البلدة في النجف يقومون بالزيارة فسارع من بقي في المدينة لإغلاق الأبواب، غير أن الوهابيين وقد قدروا بستمائة هجان وأربعمائة فارس نزلوا فنصبوا خيامهم وقسموا قوتهم إلى ثلاثة أقسام، ومن ظل أحد الخانات ـ من ناحية محلة باب المخيم ـ هاجموا أقرب باب من أبواب البلد فتمكنوا من فتحه عسفاً ودخلوا فدهش السكان وأصبحوا يفرون على غير هدى بل كيفما شاء خوفهم.
             أما الوهابيون الخشّن فقد شقوا طريقهم إلى الأضرحة المقدسة وأخذوا يخربونها، فاقتلعت القضب المعدنية والسياج ثم المرايا الجسيمة ونهب النفائس والحاجات الثمينة من هدايا الباشوات والأمراء وملوك الفرس)(22).
               وقال في موضع آخر (وقتل زيادة على هذه الأفاعيل خمسين شخصاً بالقرب من الضريح وخمسمائة أيضاً خارج الضريح في الصحن. أما البلدة نفسها فقد عاث الغزاة المتوحشون فيها فساداً وتخريباً وقتلوا من دون رحمة جميع من صادفوه كما سرقوا كل دار ولم يرحموا الشيخ ولا الطفل ولم يحترموا النساء ولا الرجال فلم يسلم الكل من وحشيتهم ولا من أسرهم، وقد قدر بعضهم عدد القتلى بألف نسمة وقدر الآخرون خمسة أضعاف ذلك)(23).
             وذكر لنا الدكتور عبد الجواد الكليدار في كتابه (تاريخ كربلاء وحائر الحسين) قائلاً: إن أعظم فاجعة من بعد وقعة الطف مرت على كربلاء في التاريخ هي غزوة الوهابيين عام 1216 من الهجرة، تلك الفاجعة التي لا يزال صداها يرن في البلاد الإسلامية والأوربية معاً، فأسهب في فضاعتها المؤرخون من مسلمين وغير مسلمين(24).
            وقد قتل في هذه الحادثة الكثير من أعلام المدينة، ولم تسلم أسرة من الأسر من قتلهم وتشريدهم، ومن بين الأعلام الذين قتلوا فيها العلامة الشيخ عبد الصمد الهمداني الحائري، والسيد موسى بن محمد علي آل سيد يوسف سادن الروضة الحسينية الذي عرف عقبه بآل الوهاب نسبة لتلك الحادثة التي استشهد فيها رجالهم، وغيرهم من الأعلام.

 

    محاصرة كربلاء في واقعة المناخور

              رفعت كربلاء راية العصيان ضد الوالي داوود باشا، فجهز الأخير جيشاً وأخضع الحلة واستباح حماها وتوجه إلى كربلاء وحاصرها ثمانية أشهر، ولم يقدر على افتتاحها، وكر عليها ثانية وثالثة فلم يستطع فتحها إلا بعد حصار طالت مدته قرابة أربع سنوات من 1241هـ ـ 1244هـ.
               قال الشيخ حمود الساعدي: في سنة 1244 هجرية حوصر أهل بلد الحسين، حاصرهم سليمان بعسكره وقطع نخيلهم، وأغار مياههم تسعة أشهر، وقتل منهم مقتلة عظيمة من الجانبين حتّى آل أمرهم إلى أن أكلوا حبّ القطب، ولم يسلموا.
              وكانوا يخرجون إلى العسكر فيقاتلون إلى أن ضايقهم (صفوق) شيخ شمر، وتوجهوا عليه بعدما أعطى الأمان والقرآن لنقيب الأشراف، فخرج هو وأصحابه الـ 25 فأمروا بقتلهم عن أخرهم دفعة(25).
                وجاء في كتاب (تاريخ العراق الحديث) ما نحن بصدده: ولقد حاصرت قوات داود باشا كربلاء في السنوات الأخيرة من حكمه زهاء أحد عشر شهراً دون أن ينال من وراء ذلك سوى وعد بدفع الضرائب السنوية المربوطة عليها.
                وكذلك أراد علي باشا أن يؤكّد سيادته على كربلاء، ولجأ إلى الحيلة دون القوّة، وتظاهر بأنّه يودّ أن يؤدّي الزيارة لقبر الحسين(عليه السلام) ولكن أهل المدينة رفضوا أن يسمحوا له بذلك.
                 وفضّل علي رضا أن يكتفي بإسناد حكم المدينة إلى سيد وهّاب، وهو من إحدى الأسرات الكبيرة في المدينة التي ظلّت مدّة حكم علي رضا في العراق شبه مستقلة، ولكن تحت سيطرة جماعة مسلّحة أطلق عليها اسم يارمز.
                وكانت هذه الجماعة تحتوي على عدد من الخارجين على القانون واللصوص والفارّين من وجه باشوات العراق، وكانت إحدى فرق هذه الجماعة تدعى (الغارتية) من (غارة) تفرض الأتاوات على الحجاج، وكان أشهر زعيم لهم في 1248هـ هو السيد إبراهيم الزعفراني، وهو من أصل مختلط إيراني عربي، وكان يليه في النفوذ إيرانيان لهما عدد كبير من الأتباع الفرس.
               ونظراً لانقسام (اليارمز) إلى فرق كان ينشب فيما بينها صراع دموي شديد، كان يعاني منه شعب كربلاء المسالم أشدّ أنواع الخسائر المادية والإرهاق العصبي.
                وفي خضمّ هذه الفوضى تفوّق زعماء اليارمز على هيبة كبار علماء الشيعة في المدينة، وكان لهم النفوذ الأكبر من قبل، ولكن وجد العلماء في انقسام اليارمز إلى طوائف فرصة لكسب أعوان لهم من بينهم، فكان أن انشطر اليارمز إلى شطرين، أحدهما مع الزعيم الديني الشهير كاظم الرشتي، والآخر مع زعيم ديني آخر يُدعى سيد إبراهيم القزويني(26).

 

     استباحة كربلاء من قبل نجيب باشا

             كان أهل كربلاء يأبون الخضوع لحكم نجيب باشا، وأراد أن يخضع سكان المدينة لمشيئته، فنشبت الثورة التي عرفت بـ(غدير دم) يوم الثلاثاء في السابع عشر من شهر ذي القعدة سنة 1258هـ ضد الطاغية الوالي المشير محمد نجيب باشا الذي أنذرهم بوجوب الخضوع فلم يخضعوا للأمر.
             قال الشيخ الأميني في (شهداء الفضيلة): اتفق في أواخر سنة 1258هـ بقتل فضيع كاد أن يبلغ قتلاه عشرة آلاف من الرجال والولدان غير النهب والغارة الشديدتين، وكان هذا القتل بيد نجيب باشا الذي ولي على بغداد وأمر بالشيء السيئ والسلوك بالشر مع أهل ذلك المشهد المقدس، فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولا، وقد قتل في هذه الكرّة أيضاً جمع كثير من العلماء والسادات وغير أولي التقصير من المجاورين والزوار،
             وحكي عمن شهد الواقعة من الثقات أنه لما أقفل العسكر أحصينا القتل وسألنا الحفارين وتحققنا من ذلك فكان ما يزيد على عشرين ألفاً من رجل وامرأة وصبي، وكان يوضع في القبر الأربعة والخمسة إلى العشرة فيهال عليهم التراب بلا غسل ولا كفن، وتفقدنا القتلى منهم كثيراً والدور والآبار ووجدنا بالسرداب الذي تحت رواق العباس من القتلى أكثر من ثلاثمائة(27).
               يقول كاشف الغطاء: كانت مدينة كربلاء المقدسة قد تعرضت إلى أعنف كارثة دموية راح ضحيتها ليلة عرفة من شهر ذي الحجة سنة 1258هـ الموافق للعاشر من كانون الثاني يناير سنة 1842م نحو ثلاثين ألف مسلم كان يسكن المدينة يومها اثر غزو نجيب باشا العثماني (ت1850هـ) للمدينة، وهي الغزوة التي عرفت بـ(غدير دم)(28).
              وجاء في موسوعة العتبات المقدسة ـ قسم كربلاء ـ ما نصه:
            إن نجيب باشا نفسه انتهك حرمة المكان المقدس فدخل إليه وهو يمتطي صهوة جواده، وتقدر الروايات المعتدلة إن عدد القتلى بلغ أربعة آلاف نسمة من الأهالي، وخمسمائة من الجيش المهاجم، وعلى أثر ذلك قبض على السيد إبراهيم الزعفراني رئيس العصاة وجيء به مكبلاً إلى بغداد فقضى نحبه فيها بعد قليل،
            ثم طورد السيد عبد الوهاب آل طعمة سادن الروضتين حتى عفي عنه بشفاعة نقيب بغداد السيد علي الكيلاني فسلم نفسه، وقبض كذلك على أشراف كربلاء الآخرين بتهمة التحريض على هذه الحركة والمقاومة مثل السيد صالح الداماد وعلي كشمش وطعمة العيد وبعض السادة من آل نصر الله والنقيب(29).
             لقد هزت هذه الحادثة الأرض الإسلامية من أقصاها إلى أقصاها، ودوت صرختها الهائلة في الأقطار ضد الاستبداد العثماني وقد ناضل الكربلائيون دافعين أثماناً باهضة من دماء أبنائهم الأشاوس.
               وهناك مصادر أخرى تؤيد ارتكاب فضائع العثمانيين وانتقامهم الموجع وقتل المئات من اللائذين بضريح العباس(عليه السلام).

 

  الانتفاضة الشعبانية

              إثر الممارسات العدوانية الصدامية المتتالية على مدينة كربلاء، انتفضت المدينة سنة 1991م/1411هـ بشبابها وكهولها طيلة خمسة عشر يوماً، وضحوا بأنفسهم وأنزلوا الخسائر الفادحة في صفوف أنصار النظام السابق وزعزعة كيانهم، بينما شحذت عزائم الثوار وأوقدت نيران الحماس في صدور المقاتلين، على أن هناك خطة مدروسة ومقصودة للنيل من هذا الشعب الأبي والقضاء على أتباع مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، والتواطؤ مع الولايات المتحدة الأمريكية من أجل ذلك الغرض السيئ، فتعرضت المدينة بكاملها للقصف الشديد وغارات طائرات النظام الصدامي المروحية،
              وقد شمل القصف المرقدين المطهرين، وغدت المدينة في حالة يرثى لها، فتهدمت مدارسها وحسينياتها وأهملت مساجدها وأصاب الخراب معظم محلاتها واختفت معالمها. و قدم أهالي المدينة الكثير من الضحايا، لكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يعيد لكربلاء بهجتها وبهاءها إكراماً لمثوى أبي الشهداء الإمام الحسين بن علي(عليهما السلام). قال تعالى : (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون)(30).
              ويبقى الموقف يهز الضمائر ويحرك الوجدان ويثير في النفس عوامل القوة والثبات، وسيبقى اسم الحسين(عليه السلام) عالياً يتحدى الدنيا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ كربلاء وحائر الحسين، د. عبد الجواد الكليدار آل طعمة، ص184، ط1.
(2) الأمالي، الشيخ الطبرسي، ج1ص327.
(3) تاريخ كربلاء وحائر الحسين، ص187.
(4) أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين العاملي، ج4 ق1، ص304.
(5) مجالي اللطف بأرض الطف، الشيخ محمد السماوي، ص55.
(6) وفيات الأعيان، ابن خلكان 1/455.
(7) مقاتل الطالبيين، أبو الفرج الأصفهاني، ص598.
(8) مجالي اللطف بأرض الطف، الشيخ محمد السماوي، ص55.
(9) الكامل في التاريخ، ابن ألأثير، ج7 حوادث سنة 369هـ.
(10) المنتظم، ابن الجوزي، ج3
(11) تجارب الأمم، مسكويه، ج6 ص464.
(12) مجالي اللطف بأرض الطف، ص56.
(13) المنتظم، ابن الجوزي، ج7 ص173.
(14) مجالي اللطف، ص56.
(15) تاريخ كربلا المعلى – عبد الحسين الكليدار آل طعمة، ص12.
(16) بحاء الأنوار، العلامة المجلسي، ج1 ص297.
(17) مجالي اللطف بأرض الطف، الشيخ السماوي، ص56.
(18) مجالس المؤمنين، القاضي نور الله التستري، ج
(19) تاريخ كربلاء وحائر الحسين، د. عبد الجواد الكليدار آل طعمة، ص227.
(20) دراسات حول كربلاء ودورها الحضاري، مجموعة من الباحثين، ص176.
(21) مجالي اللطف بأرض الطف، الشيخ السماوي، ص57.
(22) أربعة قرون من تاريخ العراق، لونكرك، ترجمة: جعفر الخياط، ص260، 261.
(23) المصدر السابق، ص261.
(24) تاريخ كربلاء وحائر الحسين، د. عبد الجواد الكليدار آل طعمة، ص233.
(25) عن مجموعة خطّية للشيخ حمود الساعدي، وقد نقلها من كتاب للأدعية مدوّن فيه فوائد تاريخيّة تعود إلى أسرة آل العذاري الحلّيين، 14/ 4/1952.
(26) تاريخ العراق الحديث، الدكتور عبد العزيز سليمان نوّار، 88ـ89 , دار الكاتب العربي للطباعة والنشر بالقاهرة 1388هـ/ 1968م.
(27) شهداء الفضيلة، الشيخ عبد الحسين الأميني، ص501.
(28) العبقات العنبرية في الطبقات الجعفرية، الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، ص306.
(29) موسوعة العتبات المقدسة، قسم كربلاء، ج1، ص280.
(30) سورة التوبة، آية 9.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.