ليس من الصعب على المتابع لأدبيات المدرسة الوهابية أن يرصد الانتقائية واعوجاج الموازيين في نقد الأحاديث والآثار وتمحيص الأسانيد والمتون، وتبرز أحاديث الفضائل – لا سيما فضائل أهل البيت عليهم السلام – في جملة المواقف التي تعكس اضمحلال البحث الموضوعي عند أقطاب الفكر السلفي الذين وجدوا في كثير من تلك الأحاديث تهديداً لنظريات عقائدية يقترن وجودها بوجود الفكر السلفي وتتقوم بها مقومات استمراره في منظومته التنظيرية وقواعده الشعبية.
إن نظرة فاحصة لما كتبه العلماء والمحققون في المدرسة السلفية من تتبعات وتعقيبات على ما يعرف بحديث الدار أو حديث الإنذار يكشف جانباً واضحاً من التخبط السلفي الذي سقط في وحل التعصب وأعماه النصب لأهل بيت رسول الله صلوات الله عليهم أجمعين.
أصح الأسانيد لحديث الدار
ورد هذا الحديث بألفاظ عدة متقاربة، وقد روته أمهات الكتب من المسانيد والجوامع الحديثية، واتفق لكثير من الرواة والمؤرخين أن صححوا أسانيده وأرسلوه في النقل إرسال المسلمات، وسنترك النصوص التي اختلف علماء السنة حول نقد أسانيدها جرحاً وتعديلاً ونذكر من طرق هذا الحديث الشريف ما أجمع المنصفون على صحته وروته ثقات النقل:
اللفظ الأول: أخرجه أحمد في مسنده 1\111 قال: حدثنا أسود بن عامر ثنا شريك عن الأعمش عن المنهال عن عباد بن عبد الله الأسدي عن علي رضي الله عنه قال: (لما نزلت هذه الآية “وانذر عشيرتك الأقربين” قال: جمع النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته فاجتمع ثلاثون فأكلوا وشربوا، قال: فقال لهم من يضمن عني ديني ومواعيدي ويكون معي في الجنة ويكون خليفتي في أهلي؟ فعرض ذلك على أهل بيته، فقال علي رضي الله عنه: أنا)،
وسنده صحيح رجاله ثقات وهم:أسود بن عامر، شريك (ثقة). الأعمش. المنهال. عباد. وإنما أوقع البعض الكلام في (عباد بن عبد الله الأسدي) لتضعيف البخاري وابن المديني له، وأغلب الظن إن هذا التضعيف ناشئ من النظرة المذهبية الضيقة التي وسمت عقلية هذين الرجلين باعتبار أن عباداً كان من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام ومن رواة فضائله، وإلا فالحق إن عباد بن عبد الله الأسدي من الثقات الذين شهد لهم أرباب الجرح والتعديل وأخرج لهم أصحاب السنن والمسانيد،
فقد أخرج له ابن ماجة وابن حنبل والنسائي واعتمد البيهقي على روايته، وصحح أحاديثه الحاكم في مستدركه على شرط الشيخين، وقال عنه العجلي (ت261) – وهو معاصر للبخاري – في معرفة الثقات 2\17: (كوفي تابعي ثقة)، و قد أورده ابن حبان في الثقات 5\141، و ذكره الرازي (ت327) في الجرح و التعديل 6\82 ولم يطعن فيه كعادته مع الضعفاء،
وصحح حديثه الإمام محمد بن جرير الطبري (ت310) في كتابه (تهذيب الآثار) ص 544 “مكتبة المشكاة الالكترونية”، كما ذكره بن سعد (ت230) في الطبقات 6\179 ولم يطعن فيه (وابن سعد متقدم على البخاري)، كما أخرج له الضياء المقدسي في (الأحاديث المختارة): “وابن تيمية يصرح بأن أحاديث المختارة أصح وأقوى من أحاديث المستدرك” فتح الباري 7\211.
اللفظ الثاني: أخرجه أحمد في مسنده1\159: عن عفان [بن مسلم] (ثقة ثبت كما التقريب 1\679 ) ثنا أبو عوانة (مجمع على ثقته، وكتابه متقن بالمرة ، ميزان الاعتدال 4\334) عن عثمان بن المغيرة (من رجال البخاري صدوق موثق، ميزان الاعتدال 3\56) عن أبي صادق ( مستقيم الحديث كما في الجرح و التعديل للرازي، ذكره ابن حبان في الثقات، قال بن حجر: صدوق، وثقه يعقوب بن سيبة كما في ميزان الذهبي) عن ربيعة بن ناجذ ( التابعي الكوفي الثقة، ذكره ابن حبان والعجلي في الثقات)
عن علي رضي الله عنه: جمع رسول الله صلى الله عليه وآله أو: دعا رسول الله صلى الله عليه وآله: بني عبد المطلب فيهم رهط كلهم يأكل الجذع ويشرب الفرق قال: فصنع لهم مدا من طعام فأكلوا حتى شبعوا قال: وبقي الطعام كما هو كأنه لم يمس، ثم دعا بغمر فشربوا حتى رووا وبقي الشراب كأنه لم يمس. أو: لم يشرب. ثم قال: يا بني عبد المطلب… إني بعثت إليكم خاصة وإلى الناس عامة وقد رأيتم من هذا الأمر ما رأيتم، فأيكم يبايعني على أن يكون أخي و صاحبي ؟ ! فلم يقم إليه أحد فقمت إليه وكنت أصغر القوم قال: فقال: اجلس. قال: ثم قال ثلاث مرات، كل ذلك أقوم إليه فيقول لي: اجلس. حتى كان في الثالثة فضرب بيده على يدي.
يقول الحافظ الهيثمي في كتابه مجمع الزوائد بعد أن يرويه عن أحمد بن حنبل يقول: رواه أحمد ورجاله ثقات (مجمع الزوائد 8 / 302 – باب معجزاته صلى الله عليه [وآله] وسلم في الطعام) ويقول بعد أن يرويه بسند آخر عن بعض كبار علمائهم من أحمد وغير أحمد يقول: رجال أحمد وأحد إسنادي البزار رجال الصحيح غير شريك وهو ثقة (مجمع الزوائد 8 / 302).
وبهذا السند ورد في السنن الكبرى للنسائي 5\126 وكذلك في ” الخصائص ” ص 18 وفيه: (فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي ووارثي فلم يقم إليه أحد فقمت إليه وكنت أصغر القوم فقال اجلس ثم قال ثلاث مرات كل ذلك أقوم إليه فيقول اجلس حتى كان في الثالثة ضرب بيده على يدي ثم قال: أنت أخي وصاحبي ووارثي ووزيري..).
وقد حاول بعض السلفيين المعاصرين الطعن في التابعي الجليل (ربيعة بن ناجذ) ورميه بالجهالة، والحق أن هذا الطاعن هو الأولى بوصم الجهل والجهالة، وإلا فإن ربيعة بن ناجذ الأزدي الكوفي تابعي من كبار التابعين من أصحاب علي أمير المؤمنين عليه السلام وهذه حاله:
* وثقه ابن حبان والعجلي في كتابيهما الثقات، والحافظ بن حجر في التقريب، والحاكم النيسابوري في المستدرك، والضياء المقدسي في المختارة، توثيقاً صريحاً بلفظ (ثقة) وهو أعلى مراتب التوثيق.
* وثقه الهيثمي في (مجمع زوائده) 8 / 302 ، عندما قال: (رواه أحمد ورجاله ثقات).
* وثقه أيضاً الحافظ زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي المنذري الشامي (ت 656 ه ) كما ذكر ذلك المناوي في شرح الجامع الصغير 2\59.
* قال فيه الخطيب في تاريخ بغداد 8\419: (سمع علي بن أبي طالب، وورد الأنبار في صحبته..).
* ذكره المزي في تهذيب الكمال (9\146) وأثنى عليه و لم يطعن فيه.
* لم يرد فيه أي مطعن و لا مغمز من أي من علماء الجرح المتقدمين.
* روى عنه الثقة (أبو صادق الأزدي الكوفي) وقيل هو أخوه.
* شذ الذهبي فقال (لا يكاد يعرف) و ذلك بسبب روايته حديث (يا علي أنت أخي ووارثي) !
* اضطرب و تناقض فيه إمام الحديث عند السلفيين (محمد ناصر الألباني) فقد وثقه في غير موضع وروى له في سلسلته الصحيحة (راجع سلسلة الأحاديث الصحيحة 4 / 582)، وأورد الألباني في إرواء الغليل 2\300 حديث (الأئمة من قريش…). و هذا سنده:
(فيض بن الفضل البجلي ثنا مسعر بن كدام عن سلمة بن كهيل عن أبي صادق عن ربيعة بن ناجذ عن علي بن أبي طالب عليه السلام… ) فعلق الألباني على سند الحديث قائلاً: (فيض بن الفضل البجلي مجهول الحال، وبقية رجال الإسناد ثقات، فهو حسن في الشواهد).
وفي بقية الإسناد يوجد (ربيعة بن ناجذ) كما ترى وهو ثقة بتصريح الألباني…. و لكنه – مع الأسف – عندما جاء إلى حديث الدار الذي يثبت خلافة ووزارة ووراثة أمير المؤمنين عليه السلام رماه بالجهالة و ضعّف حديثه ! وربيعة هنا هو ربيعة هناك، إلا أن الموازين تختلف عند أهل الأهواء والتعصب !
ويمكن أن نستفيد من متن الحديث ما يأتي:
أولاً: قوله صلى الله عليه و آله (خليفتي في أهلي): هذه الخلافة هي خلافة النبوة لأنه صلى الله عليه وآله قال لهم (إنه بُعث إلى أهل بيته خاصة)، وأي تكييف آخر لموقعية خلافة علي عليه السلام في أهل البيت يستلزم الإفراط في التكلف، وقد جاء في تاريخ الطبري 2\63: (أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم).
ثانياً: قوله صلى الله عليه و آله (فأيكم يبايعني): كانت أول بيعة في الإسلام، وأن المبايع الوحيد هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.
ثالثاً: قوله صلى الله عليه و آله (أنت أخي): رد صريح على من زعم أن علياً عليه السلام ليس أخاً لرسول الله صلى الله عليه و آله، وهم أقطاب المدرسة السلفية من المتقدمين كابن تيمية ومن المعاصرين كعثمان الخميس..
رابعاً: قوله صلى الله عليه و آله (ووارثي): الوراثة اصطلاح قرآني ارتبط بانتقال عهد الإمامة ومقتضياتها من الصفوة إلى الصفوة، فقد روى عمار الساباطي عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا)، قال عليه السلام: “هم آل محمد والسابق بالخيرات هو الإمام” (بصائر الدرجات ص66) وفي رواية أخرى عن أبي الحسن الكاظم عليه السلام (نحن الذين اصطفانا الله عز وجل وأورثنا هذا الذي فيه تبيان كل شئ” (الكافي 1\277)،
وفي كتب القوم وطرقهم الثابتة الصحيحة يتكرر اسم علي بن أبي طالب عليه السلام وارثاً لرسول الله صلى الله عليه وآله، ففي مصنف ابن أبي شيبة الكوفي (ت235) 8\348 قال: حدثنا أحمد بن عبد الملك بن واقد (من رجال الصحيح) حدثنا زهير [بن معاوية] (ثقة ثبت) حدثنا أبو إسحاق (ثقة) قال: قيل لقثم [بن العباس]: كيف ورث علي النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم دونكم ؟ قال: “إنه والله كان أولنا به لحوقاً وأشدنا به لزوقاً”
خامساً: قوله صلى الله عليه و آله (ووزيري): الوزارة أيضاً اصطلاح قرآني أثبته الله تعالى لنبيه هارون بن عمران عليه السلام، فقد قال تعالى على لسان موسى عليه السلام: (وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي) طه29، (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً) الفرقان35، وحديث الدار نص صريح في استيزار النبيُّ علياً من دون الصحابة وبحسب تتبعي فإنه لم ترد كلمة وزيري في جميع كتب المسلمين لأحد من الصحابة ما خلا علي بن أبي طالب عليه السلام.