Take a fresh look at your lifestyle.

دور الإمام الصادق (عليه السلام) في تهيئة قيادات متميزة لمواجهة الغلاة

0 927
            كان للإمام الصادق(عليه السلام) جملة أهداف ومرتكزات منذ حياة أبيه الإمام الباقر(عليه السلام) سعى إلى تحقيقها وأهمها بالدرجة الأساس التصدي للأفكار الغريبة الطارئة على جسم الأمة الإسلامية والتي نفذت وتوغلت في مفاصل المجتمع.
            فقد عاصر الإمام(عليه السلام) ظاهرة الغلو في أعلى وأعنف مراحلها العقيدية، التي ظهرت زمن والده الإمام الباقر(عليه السلام) وأخذت تنمو بسرعة، وأعلن حرباً فكرية ودينية لا هوادة فيها ضد الغلاة، وعقائدهم(1)، وزعمائهم مذكرا بوضوح مواقفهم وتفسيراتهم نافيا أي علاقة بهذه الظاهرة المتنامية من الغلو. فقد شجب في مناسبات عدة الغلاة وقادتهم، منكراً أية روايات حول علاقته بالشخصيات البارزة في فرق الغلاة.
ومن هذه الأهداف المهمة التي أخذت حيزا واسعا من دائرة فكر الإمام(عليه السلام) وشدد عليها سواء كان من خلال مقابلاته مع شيعته أم من خلال رسائله التي يبعثها إليهم، على مبدأ التقية(2) فقد روي عن الإمام الصادق(عليه السلام) قوله: (التقية ديني ودين آبائي، ولا دين لمن لا تقية له)(3).
             ويرى الإمام(عليه السلام) الحكمة منها دفع الضرر عنه وعن أتباعه، وحقنا لدمائهم(4).
         إذ أن الإنسان إذا أحس بالخطر على نفسه أو ماله بسبب نشر معتقده أو التظاهر به فلا بد من أن يتكتم ويتقي مواضع الخطر، وعبر الإمام(عليه السلام) عن شيعته في الناس كالنحل في الطير، لو أن الطير تعلم ما في أجواف النحل ما بقي منها شيء إلا أكلته، ولو أن الناس علموا ما في أجوافهم أنهم يحبون أهل البيت(عليهم السلام) لأكلوهم بألسنتهم، ولنحلوهم في السر والعلانية(5)، لاسيما وأن أئمة أهل البيت قد لاقوا من ضروب المحن وصنوف الضيق ما لم يلاقه غيرهم، وكذلك استصلاحا لحال المسلمين وجمع كلمتهم وحسن المعاشرة فيما بينهم(6).
           كانت التقية سارية خلال عصر الأئمة السابقين لعصر الإمام الصادق(عليه السلام) وهناك كثير من الروايات الواردة عنهم التي تؤكد على ضرورة الالتزام بها، و كان العمل بها على وفق ضوابطها التي أعلنها أئمة أهل البيت أسهمت إلى حد بعيد في حفظ شيعتهم من الملاحقة والقتل.
          لكن خلال عصر الإمام الصادق(عليه السلام) اتسع نطاق العمل بها لأسباب عدة وعوامل يأتي في مقدمتها المحافظة على الكيان الفكري للشيعة من الاختراق بعد الانشقاقات المتتالية، لذا كان تأكيد الإمام(عليه السلام) المستمر على أصحابه والمقربين لديه على مبدأ الكتمان والمداراة لاتساع قاعدة المخالفين لهم عقيدياً أو سياسياً،
             ومن أجل الوقوف أمام هذا التيار المتنامي ضدهم سواء داخليا من المندسين من الغلاة وغيرهم، أم خارجيا من التيارات الفكرية والسياسية، التي تعملان معا على وفق آليات مختلفة لكنهما يصبان في هدف واحد مشترك هو استهداف التشيع فكرا أو أفرادا، لذا كان يؤكد على ضرورة الكتمان وعدم الإذاعة(7).
             هذين المفهومين ـ الكتمان والمداراة ـ بناءً على توصيات الإمام الصادق(عليه السلام) هي حماية ذاتية كان يهدف من خلالها الإمام(عليه السلام) العمل المضاد على وفق تحرز استثنائي يحمي المنظومة الشيعية من أي اختراق أو أي ارتباك داخلي قد يؤدي في نهاية المطاف إلى انحلال هذا الفكر وذوبانه في مذاهب عقيدية جديدة تختلف اختلافاً جذرياً مع مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) كما حصل مسبقا.
            فأخذت أحاديث وتوصيات الإمام(عليه السلام) حيزاً واسعاً مع شيعته وفي مناسبات متعددة، فالتشيع كما يصوره الإمام(عليه السلام) ليس فقط التصديق والقبول، وإنما هناك جانب مهم لا بد من الالتفات له وعدم التهاون فيه هو عدم إظهار كل شيء أمام المخالفين، لأنه سبب رئيسي في بقاء التشيع أو نهايته، وذلك في ظل الأجواء المشحونة ضدهم، فلابد من احتمال الأمر وستره عن غير أهله، حتى عد الإمام(عليه السلام) من لا يلتزم بهذا هو أشد نصبا وعداوة من المخالفين لهم(8).
            إن الإمام(عليه السلام) يرى أن الدعوة لأئمة أهل البيت ليس فقط بالتصريح والإعلان على الملأ، بل قد يكون لهذا الأمر نتائج عكسية في غير صالحهم ويزيد من مخاوف السلطة تجاههم، لذا أوصى بعض شيعته أن يكونوا دعاة صامتين. وذلك بالعمل بأوامرهم وأقوالهم والاجتناب عن نواهيهم، هذا الالتزام يكون حافزا كبيرا من الناس للاقتداء بهم والميل إليهم(9)، ونجد الإمام(عليه السلام) في بعض أحاديثه مع أصحابه كان أكثر شدة وتصميما على ضرورة الالتزام والمضي في هذا المنهج الذي رسمه لهم حتى صرح بالبراءة منهم(10).
            ونرى كذلك الإمام(عليه السلام) يؤكد على ضرورة على عدم نشر جميع الأحاديث التي يسمعونها عنه ويذيعونها بين الناس، وذلك نتيجة اختلاف البنية الفكرية والعقلية، وخشية أن تلتبس عليهم الأمور، مما قد يولد تصورا خاطئا لفهم كلامهم، لذا كان يشدد على أهمية مداراة ظروف السائل في كونه ملحدا، أو حديث عهد بالإسلام، أو حديث عهد بالتشيع، أو كونه من الغلاة، أو من المدارس الفكرية الأخرى فلا يلقى له الحكم الصريح حفاظا على شعوره وهدايته(11).
             فيحذر الإمام(عليه السلام) أن يلقي له الحكم الواقعي فيكون مؤيدا لخطه المنحرف الذي يدعو له، أو كونه يعيش في بيئة منحرفة لا تتحمل هذا الحكم فيراعي الإمام عليه السلام بيئته ومحيطه.
             هذين المبدأين ـ الكتمان والمدارة ـ يرتبطان أساسا بمبدأ التقية، وتحدد على وفق آليات استخدامها سواء كان من السلطة الحاكمة، أو من المذاهب التي تدعمها السلطة، أم من التيارات الفكرية المناوئة، واستعمال الإمام(عليه السلام) للتقية تارة بإلقاء الاختلاف بين الشيعة حتى لا يطمع فيهم أعداؤهم نتيجة لاختلافهم كما ورد في الروايات، وتارة بإخفاء الحكم الواقعي(12).
            هذه التوصيات المتتالية من قبل الإمام(عليه السلام) والتأكيد على هذا الجانب بالذات لاشك في أنها أقلقت الخصوم وكشفت كثير من المندسين من الغلاة وغيرهم في صفوف التشيع الذين لعبوا دورا بارزا في تسجيل نظريات ومواقف تنزع إلى الغلو حتى أفسدوا على كثير من المسلمين عقائدهم وعملوا على تشويه سمعة أهل البيت وشيعتهم،
              ونستقرئ ذلك من بعض النصوص الواردة عن الإمام(عليه السلام) إذ قال لأحد أصحابه اتق السفلة واحذر السفلة فإني نهيت أبا الخطاب فلم يقبل مني(13)، هذا نص صريح يوضح لنا بصورة جلية أن الغلاة لم يكونوا في طاعة الإمام(عليه السلام)، فهم بعيدون إذن عن التشيع كما أشارت بذلك النصوص السابقة الواردة عنه، فقد وصف الإمام(عليه السلام) أبا الخطاب بالحماقة، لأنه لا يحفظ، وكان يزيد من عنده(14).
              يمكن أن نضع نقاط عدة مهمة حاول الإمام الصادق(عليه السلام) إرساءها في نفوس شيعته وهي:
أ. الانفتاح على الغير وإن كان عدوا.
ب. مفهوم الدفاع عن المبدأ.
جـ. المحافظة على التراث العلوي.
د. إن الحركة الشيعية لا تعني إشهار السلاح دون عقل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) Hodgson, Dja’far al-sâdiq in E.l. vol. II.
(2) التقية: من الوقاية، أي: حفظ الشيء مما يؤذيه ويضره، يقال وقيت الشيء أقيه وقاية ووقاء، ووقى الشيء وقيا ووقاية وواقية: صانه عن الأذى وحماه.
الفيرزو آبادي، القاموس المحيط، ص1731، ابن سيده، المحكم والمحيط، 6/598.
أما اصطلاحا فهي: (كتمان الحق وستر الاعتقاد فيه ومكاتمة المخالفين وترك مظاهرتهم بما يعقب ضررا في الدين أو الدنيا، وفرض ذلك إذا علم بالضرورة أو قوي في الظن، فمتى لم يعلم ضرراً بإظهار الحق ولا قوي في الظن ذلك لم يجب فرض التقية). المفيد، تصحيح اعتقادات الإمامية، ص137.
(3) البرقي، المحاسن،1/255، العاملي، الصراط المستقيم، 3/71.
(4) الطبرسي، مشكاة الأنوار، ص89، المجلسي، بحار الأنوار، 72/422.
(5) البرقي، المحاسن،1/257 ـ 258، الكليني، الكافي، 2/218.
(6) المظفر، محمد رضا، عقائد الإمامية، (قم: انتشارات أنصاريان، بلا)، ص84 ـ85.
(7) البرقي، المحاسن، 1/255، الكليني، الكافي، 2/223، الطبرسي، مشكاة الأنوار، ص87.
(8) الكليني، م. ن، 2/223 ـ 224، القاضي المغربي، دعائم الإسلام، 1/61.
(9) القاضي المغربي، شرح الأخبار، 3/506.
(10) م. ن، 3/507.
(11) النعماني، الغيبة، ص42.
(12) الكليني، الكافي، 2/218، الحر العاملي، وسائل الشيعة، 27/112.
(13) الطوسي، اختيار معرفة الرجال، 2/583، التستري، قاموس الرجال، 9/598.
(14) الطوسي، اختيار معرفة الرجال، 2/584، ابن داود، الرجال، ص276، الخوئي، معجم رجال الحديث، 15/260.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.