مما لا جدل فيه يعد الإمام المجاهد محمد حسين كاشف الغطاء(قدس سره) أحد أقطاب الحركة الوطنية في مدينة النجف الأشرف، فضلا عن كونه أحد المراجع الكبار في هذه المدينة، الذين أسهموا إسهاماً كبيراً في رفد الحركة الفكرية بشتى صنوف المعرفة.
ومن خلال تتبعي لحياة الإمام الراحل وجدت أن هناك كثيراً من صفحات حياته لم يتعرف عليها القارئ، وأخص بالذكر مذكراته التي لم تنشر، بل وأصبحت في طي النسيان، على الرغم من أنها ضمت معلومات مهمة لا يستغني عنها الباحثون ليس فقط عن حياته فحسب، وإنما هي أيضاً عن الأوضاع السياسية خلال الاستعمار البريطاني للعراق، وما رافق ذلك من تغيرات اجتماعية واقتصادية، فضلاً عن الدور الريادي الذي لعبته مدينة النجف الأشرف أبان تلك المرحلة.
في الوقت نفسه لم يكن حصولي على تلك المذكرات بالسهولة التي يتصورها القارئ، ولكن كان للسعي الدؤوب والمستمر للحصول عليها والإلحاح المستمر على نجله الشيخ شريف كاشف الغطاء الذي كان يخشى من ضياعها وتلفها، تمكنت في نهاية المطاف من الإطلاع عليها ونقلت منها ما استطعت، حتى قال لي: (لقد مصصت عظامها)!.
لذا ارتأيت أن أنشر بعض تلك الصفحات التي نقلتها وأضعها بين يدي القارئ الكريم، وخصوصاً بالنسبة لحصار النجف لأنها كانت متكاملة الأحداث.
والشيء الذي لابد أن يسجل هنا وبكل أمانة، أنه قد يجد القارئ هناك بعض الأفكار والطروحات التي لا تتفق مع تصوراته وأفكاره عن (ثورة النجف)، إلا أنها في مجملها وتفصيلها تعبر عن وجهة نظر كاتبها، لأنه قد عايشها وواكب جميع الظروف التي أحيطت بها.
ويمكن القول أنها تمثل تأريخ مرحلة مهمة من مراحل الحركة الوطنية التي ناهض خلالها النجفيون الاستعمار البريطاني في ذلك الوقت.
على الرغم من وجهات النظر المختلفة في هذا الموضوع، ووأن لكل رأيه وتصوراته.
ونقلنا المذكرات كما هي، وكما نطق بها كاتبها دون إضافة أو تغيير. وهي:
(… وكأن الإنكليز بعد أن طرد الأتراك من بغداد، وتملك العراق، أخذته نشوة الفتح والظفر، وبقي في دار السلام هو وفلول جيشه ينفض عنه وعثاء السفر والحرب، ويأخذ نصيباً من الراحة، ثم بعد قليل وجه فكرته إلى الأنظمة السياسية بعد أن كان الحكم عسكرياً محضاً، فعين الحكام السياسيين للمدن كالحلة والديوانية وغيرها سوى كربلاء والنجف، فقد استعمل فيهما عادته من الأناة والتمهل، على قاعدة إنما يعجل من يخاف الفوت، ولكن أجلاف…).
عند انعزال أشرافها بالحكم الإنكليزي بلا قيد ولا شرط، ثم بأسرع وقت انقلبوا وثاروا عليه، وعقدوا جمعية سرية فيها بعض المعممين، وجماعة من (…) (يقصد بذلك جمعية النهضة الإسلامية التي كان من أعضائها الشيخ عبد الكريم الجزائري، والشيخ محمد رضا الشبيبي، والسيد محمد سعيد كمال الدين، وغيرهم)، ولم يبرموا الأمر على ما يقتضيه الحزم والحصافة، وهجموا على الحاكم الإنكليزي (وليم أم. مارشال) فقتلوه وكان بطل رواية هذا الهجوم والفتك نجم أحد البقالين في النجف.
وفي ذلك اليوم حاصرت الجنود الإنكليزية، وعملوا حولها الأسلاك الشائكة، ومنعوا عن الأهليين حتى دخول الماء، فحاربهم من وراء السور رؤساء الأطراف الأربعة، ورؤوس هذه المقاومة كان الحاج سعد وأولاده، وكاظم صبي، وعباس علي الرماحي، وجماعة آخرون.
أما السيد (…)(1) رئيس الزكرت فكان قد اعتز بهم، ويتظاهر بالحياد، ويراود السلطة سراً، واستمر الحصار أربعين يوماً، وصار شرب أكثر أهالي النجف من ماء الآبار المالحة، وشحت الأطعمة حتى بلغت حصة النجف من عشر روبيات، وبهذا المقياس ساير الضروريات من اللحوم والأدهان.
وبعد أسبوعين تقريباً من بدء الحصار، زحف الجنود إلى قرب سور البلد لضعف الحامية ونفاذ ذخيرتها، ثم احتلوا جبل الحويش المطل على النجف ونصبوا المدافع عليه، وأنذروا المحاربين بالتسليم أو الضرب، وانتظروا مدة عشرين يوماً يحاذرون من ضرب النجف، واتساع لهيب الثورة، وهياج العشائر سيما وفي النجف المرجع العام لكافة الأقطار، وهو سيدنا الأستاذ محمد كاظم (اليزدي) السابق الذكر، وكانت البرقيات تنهال على قائد تلك الحملة من الهند وإيران والأفغان.
وكانت سياسة بريطانيا تحتم عليهم مداراته وجلب مراضيه، فكانوا كل يوم صباحاً مساءً يرسلون إليه بشتى الوسائل، أن يخرج معززاً إلى شريعة الكوفة، إلى أن تنتهي القضية، والتمسوا منا ذلك أيضاً فأبينا، وقلنا نحن مع أبناء وطننا إن عاشوا عشنا معهم، وإن هلكوا هلكنا معهم، وكان الإنكليز يلتمسون أن يقبل ما يرسلون من الماء والأطعمة واللحوم وغيرها، فيأبى أشد الإباء، وبعد أن ضاق الخناق، واشتد الغلاء، وشحت الأقوات على الأهليين، تدخل السيد (…) القضية، وفتح باب البلد
من ناحية جبل الحويش، وبقي الحصار مستمراً، إلاّ من هذا الباب يدخل منه الماء وبعض ضروريات العيش، وأصر الإنكليز على أن يسلم أهالي البلد المحاربين
وقاتلي (مارشال)، وكانوا قد لاذوا بالفرار والتخفي في سراديب البلد ومخابيها، حيث لم يجدوا وسيلة إلى الفرار إلى خارج البلد لشدة الحصار، وفرّ السيد (…) مع جماعة من الزكرت والشمرت الذين لم يشتركوا في تلك الأعمال الطايشة، وصاروا مع جماعة من العساكر البريطانية يفتشون البيوت ويقبضون على واحد بعد واحد، وساقوهم إلى الديوان العرفي الذين عقدوه في الجسر، وكل أعضائه من قواد الإنكليز، فحكموا على بضعة عشر نفر بالشنق، وعلى جماعة التسفير إلى هجنام وسمربور.
وانتهى الحصار، ولكن صاروا يفتشون كل من يخرج من النجف، سيما من المعممين خوفاً أن يكون معه كتب هي مدعاة لتحريض العشائر على الثورة والانتقام للنجفيين من الدولة المحتلة، فكانوا ممن وجدوا معه شيئاً من هذا القبيل الشيخ أحمد أحد أولاد المرحوم الأستاذ محمد كاظم الخرساني، فأخذوه إلى الجسر وحاكموه في جلسة أو جلستين، وأوشكوا أن يحكموا عليه بالإعدام، فتوسطنا إلى قائد الحملة بلفور وبلغناه أيضاً بشفاعة السيد فيه، فلم يجد بداً من إطلاقه، ولولا ذلك لكان من المشنوقين.
وكذلك شفعنا في أشخاص كثيرين فأطلقوا، ونظراً لما ذكرناه من أن سياسة تلك الدولة الغاشمة تقضي عليهم بمجاملة الروحانيين، وعدم إثارة غضبهم تمكناً من وقاية نفوس كثيرة من الإعدام وحفظ أموال غزيرة من المصادرة