يقع مزار الفارس الشجاع الحر بن يزيد الرياحي التميمي على بعد 9كم غربي كربلاء في منطقة تعرف بـ(ناحية الحر)، حيث يشكل معلماً من معالم العراق التي تفوح من جدرانه رائحة الماضي.
هذا المرقد يؤمّه الزوار من بعض محافظات القطر ومن خارج القطر لأداء الزيارة.
سيرته وبطولته:
كان الحر بن يزيد الرياحي قائداً وفارساً مقداماً من أشراف قبيلة (بني تميم)، وهو من شهداء معركة الطف التي حدثت في كربلاء سنة 61هـ باستشهاد الإمام الحسين بن علي(عليهما السلام)، أرسله الحصين
ابن نمير في ألف فارس لاعتراض الإمام الحسين(عليه السلام) وصدّه عن الكوفة. وعندما نزل الإمام الحسين(عليه السلام) أرض كربلاء صادفه الحر الرياحي وأراد أن ينزله في مكان لا ماء فيه، ودار حوار بينهما، وبينما هو كذلك جاء راكب على نجيب له عليه السلاح متنكب قوساً مقبل من الكوفة فوقفوا جميعاً ينتظرون، فلما انتهى إليهم سلم على الحر وأصحابه ولم يسلم على الحسين(عليه السلام) وأصحابه ودفع إلى الحر كتاباً من عبيد الله بن زياد فإذا فيه:
(أما بعد: فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي ويقدم عليك رسولي، ولا تنزله إلا بالعراء في غير خضر وعلى غير ماء. فقد أمرت رسولي أن يلزمك ولا يفارقك حتى يأتيني بإنفاذك أمري والسلام).
فلما قرأ الكتاب قال لهم الحر هذا كتاب الأمير عبيد الله يأمرني أن أجعجع بكم في المكان الذي يأتي كتابه وهذا رسوله وقد أمره أن لا يفارقني حتى أنفذ أمره فيكم، وأخذهم الحر بالنزول في ذلك المكان على غير ماء ولا في قرية فقال له الحسين(عليه السلام): دعنا ويحك ننزل في هذه القرية أو هذه يعني نينوى والغاضرية، أو هذه يعني شفية. قال الحر: والله لا أستطيع ذلك(1).
فنزل الحسين(عليه السلام) في ذلك المكان ولم يبدأهم بقتال، وعندما أضرّ بالأعداء العطش، خاطب الإمام الحسين(عليه السلام) قومه قائلاً: اسقوا القوم ورشفوا الخيل ترشيفاً.
وفي اليوم العاشر من محرم عندما رأى الحر أن المعركة ستبدأ وأن القتال لا محالة منه، فخيّر نفسه في أن يقاتل الحسين(عليه السلام) أو يكون إلى جنبه، فما كان منه إلا أن يدنوا من الحسين قليلاً قليلاً، ولما سأله
المهاجر بن أوس عن دنوه من الحسين(عليه السلام) أخذ الحر يرتعد ثم قال: إني والله أخيّر نفسي بين الجنة والنار فوالله لا أختار على الجنة شيئاً ولو قطّعت وحّرقت ثم ضرب فرسه ولحق بالحسين(عليه السلام). فجاء إلى الحسين(عليه السلام) وقد طأطأ برأسه حياءً من آل الرسول ويده على رأسه وهو يقول: اللهم إليك أتيت فقد أرعبت قلوب أوليائك وأولاد بنت نبيك(2)، ثم قال للحسين(عليه السلام) إني تائب إلى الله مما صنعت فترى لي من ذلك توبة؟
فقال له الحسين(عليه السلام): نعم يتوب الله عليك فانزل، قال: فأنا لك فارساً خير مني راجلاً أقاتلهم لك على فرسي ساعة والى النزول الآخر ما يصير أمري)(3)، ثم قاتل الأعداء حتى قُتل، فأتاه الحسين(عليه السلام) ودمه يشخب فقال: بخ بخ يا حر أنت حر كما سميت في الدنيا والآخرة، ثم أنشأ الحسين(عليه السلام) يقول:
لنعـم الحر حـر بني ريــاح
ونعم الحر مختلف الرماح
ونعم الحر إذ نادى حسيناً
فجاد بنفسه عند الصباح(4)
فبكى الحسين(عليه السلام) وقال: ما أخطأت أمك إذ سمتك الحر فأنت حر في الدنيا والآخرة ثم بكى وجعل يقول:
لنــعـم الحـر حر بني ريــاح
صبور عند مشـتبك الرمـاح
لنعـم الحر إذ نــادى حسيناً
فجــاد بنفسه عند الصبــاح
وأبـذل نفـسه بفــدا حسين
بطعن السمر والبيض الصفاح
وعندما قتل أذن الإمام الحسين(عليه السلام) للحر أن يدفن في هذا المكان فنقله أفراد عشيرته إلى المكان المشار إليه، ومضارب بني رياح حملوا زعيمهم إلى خيامهم خوفاً عليه من سحق الخيول التي داست بحوافرها جثث الشهداء مع جثة الحسين(عليه السلام) عصر يوم عاشوراء سنة 61هـ.
جاء في كتاب (تاريخ جغرافيائي كربلاي معلّى) ما ترجمته: قال السيد نعمة الله الجزائري في (الأنوار النعمانية) نقلاً عن جماعة من الثقاة أن السلطان إسماعيل الصفوي عندما فتح بغداد سنة 914هـ قصد في اليوم الثاني مشهد الإمام الحسين وسمع أن بعضاً من الناس يطعنون بالحر فجاء إلى قبره وأمر بفتح القبة، وشاهد جثة الحر وكأنه قُتل حديثاً مستلقياً على الأرض وفي رأسه عصابة مشدودة فأمر السلطان أن تفتح العصابة التي كان الإمام الحسين(عليه السلام) قد شدّها على رأس الحر، وعندما فتحت جرى الدم متدفقاً من الرأس دون توقف، فأرجع السلطان العصابة على رأسه ثانية، ومن المحتمل أنه قد أخذ نصف العصابة وذلك للتيمن والتبرك، وأمر ببناء قبره وعيّن خادماً وبعض الموقوفات وهذا البناء الذي نراه عمَّره السلطان إسماعيل الصفوي وبنى عليه قبة وجعل له صحناً(5).
المرقد … والضريح… وأشياء أخرى:
الزائر لمرقد الحر تطالعه قبة شامخة نحو السماء، تدل بشكل واضح بأن بناءها يعود إلى العهد الصفوي.
المبنى مكون من القبة بسعة 30م وارتفاع 10م مبنية بالطابوق والجص والنورة، مغلفة بالكاشي الكربلائي، جددت سنة 1959م ثم جددت بتاريخ 1976م حيث حدثت فيها شقوق مما أدى إلى تجديد بنائها بالكاشي الكربلائي المزين بزخارف نباتية من قبل وزارة الأوقاف العراقية.
شيد المرقد وسط صحن مكشوف تبلغ مساحته (7200م2) والداخل إلى الصحن يشاهد الباب الرئيسي المصنوع من الخشب، وإيواناً يحتوي على غرف يبلغ عددها اثنتي عشرة غرفة، والى يمين الباب يقع سلم يؤدي إلى الطابق العلوي، وكذلك يقع سلم إلى يساره، وفي الطابق العلوي توجد ست غرف إحداها كبيرة خصصت لإيواء الزوار الذين كانوا يقصدون المرقد في السابق، ويقع ديوان السادن إلى جانب السلم، وللصحن بابان هما:
باب سيد الشهداء: وهو الباب الرئيسي المصنوع من خشب الساج، تكسو جانبيه بلاطات من الكاشي الكربلائي البديع، يعلو الباب طاق معقود مزخرف بزخارف إسلامية، ويحتوي على كتيبة كتبت بالخط النسخي البارز: (بسم الله الرحمن الرحيم وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحاً فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون والذين يسعون في آياتنا معاجزين أولئك في العذاب محضرون) كتبه جواد علي 1388هـ، وتعلو هذه الكتيبة زخارف بديعة نقشت على الكاشي الكربلائي ثم تعلوها كتيبة كتب عليها: (بسم الله الرحمن الرحيم ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون) كتبه جواد علي 1389هـ.
باب القبلة: يقع إلى جهة القبلة مصنوع من الخشب.
أما الجهة اليمنى من الصحن فتؤدي إلى المغاسل.
وعندما يدخل الزائر إلى الحرم يشاهد طارمة مطلة على الصحن يتوسطها الباب الرئيسي المصنوع من خشب الساج، وهذه الطارمة ذات ستة أعمدة وسقف مُزيّن بالمرايا، وتحتوي على ثلاثة أبواب وكشوانيتين أحداهما تقع إلى اليمين والأخرى تقع إلى اليسار، يفصل بينهما سياج حديدي يطل على الصحن.
في أعلى الطارمة كانت توجد كتيبتان كتب على إحداهما بالكاشي (تعمير الإيوان بسعي من الحاج السيد عبد الحسين كليدار حضرة سيد الشهداء سنة 1330هـ) والأخرى كتب عليها (قد عمّر هذا المكان بهمة أقا حسين خان شجاع السلطان الهمداني دام ظله الفاني سنة 1330هـ) أما اليوم فقد اختفت هاتان الكتيبتان بسبب تجديد البناء للمرقد.
يضم المرقد المحاط بالأواوين، ضريح الحر المصنوع من النحاس الأصفر، وفي داخله صندوق مغطى بالقماش الأخضر.
باحة الحرم صغيرة تعلوها القبة وهي ذات ثمانية شبابيك مطلة على الضريح، وسقف الحرم مغلف بالمرايا الزجاجية المستحدثة سنة 1981م.
وطول الضريح 2م وعرضه 3م وارتفاعه 3م، ويحيط به ثمانية أواوين حيطانه من المرمر، وخلفها المسجد، ومما يجدر ذكره أن الضريح جدد عام 1999م من قبل الخدم، كما تبرع أهل الخير والإحسان بالسجاد الإيراني والعراقي الفاخر المفروش في داخل الحرم.
أما أبواب الحرم والطارمة فهي مصنوعة من الخشب الساج، وقد بذل خدم الروضة بالتبرعات، ولا ننسى فضل توسيع الحرم من قبل الحاج خضير والحاج حسن من أهالي الكرادة ببغداد، كما سعى خدمة الروضة بشراء مولدة كهرباء للمرقد وذلك منذ عهد قريب وقد قامت رئاسة بلدية كربلاء بإيصال التيار الكهربائي إلى مرقد ناصر الحسين(عليه السلام)، الحر بن يزيد بتاريخ 1/ 9/ 1963م ضمن المشاريع للبلدية جهز بالكهرباء من مدينة الثورة وكلف بمقدار اثني عشر ألف دينار، ثم قام الحاج حسن بن الحاج علي الوكيل بتجهيز الحرم والصحن والحجرات بما يلزم لإنارتها بالكهرباء وكلف ذلك مائتين وخمسين ديناراً 20 رجب 1382هـ، وقد أجريت على هذا المرقد إصلاحات جديدة، حيث تم تبليط أرضية الصحن بالشتايكر، وتبليط أرضية الحرم بالمرمر، واكساء الطارمة الرئيسية بالكاشي الكربلائي وذلك من قبل وزارة الأوقاف العراقية.
الحر وما قيل فيه من شعر:
قال الشيخ محسن أبو الحب خطيب كربلاء المتوفى سنة 1305هـ:
نصرت أبياً من عرانين هاشمٍ
فتىً من حماهُ النصر يستنجد النصرا
وجدت بنفسٍ كان لولا بن أحمد
عزيـــــــــــزاً على من رام إذلالهـا قسرا
ولكنها هانت عليك لأن من
فديت بها كبر النفوس له صغرا
جريت بها جري العبيد أبرها
عبودية حتى غدوت بها (حُرّا)
ألا يا قتيلاً زعزع المجد قتله
فأضحى عليه المجد ذا مقلةٍ عبرا(6)
وقال الشيخ عبد الحسين الأعسم:
ألا يــا زائراً بالطـف قبراً
به ربحـت لزائره التجارة
أشرْ للحر من بُعدٍ وسلم
فإن الحـر تكفيه الإشارة
فرد عليه الشيخ جواد بن كاظم الكربلائي بقوله:
زُر الحر الشهيد ولا تؤخر
زيارته على الشهــدا وقدِّم
ولا تسمع مقـالة أعســميٍّ
أشر للحـر من بُعدٍ وسلـم
وقال في المعنى نفسه:
إذا ما جئت مغنى الطف بادر
لمثوى الحر ويحــك بالرواح
وزر مغنــاه من قربٍ وانشـد
(لنـعم الحــر حـر بني ريـاح)
وللعالم السيد محمد باقر الحجة الطباطبائي قوله:
زر الحر الشهيد فدته نفسي
فــإن الحـر أهـــلٌ للزيــارة
فقد والله نال الأجر مَنْ قد
تعــــنّى نحو مرقـــده وزاره
ودون مزاره إن عــاق عجزٌ
ولم تسطع بأن تأتـي مزاره
(أشر للحر عن بُعدٍ وســلم
فإن الحر تكفيه الإشـارة)
ولا تك منه في شكٍ وريبٍ
فإن السبط قد قبل اعتذاره
ولمــا أن أتــاه مستجــــــيراً
منيـــباً من تجعـــجه أجـــاره
وبشَّــر أنـــه حـرٌ سعــــــيدٌ
فزال الشك من تلك البشارة
فلطف السبط كفر ما جناه
وأطفـــأ نـــاره وأزال عـــاره
أشكٌ فيه بعــد اللطــف فمن
يدور اللطف في العقبى مداره؟
أميــر ســاوم الدنيــا بديـــن
فبــاع بنصره الدين الأمــاره
وتـاجر ربه بالنفس طوعــاً
وكل الربح في تلك التجاره
بـه أضحى حواريــاً وأمســى
بنصـــرته لثـــار الله ثـــــأره
وليـــس الحر عنــد الحر إلا
مـزارٌ فيــرد عَظِّــم شعــاره
فـزره واستــجر بـالله فيـــه
فــإن الحـــر بــاب للإجــاره
وللشاعر الشعبي الشيخ عبد الكريم الكربلائي (أبو محفوظ) أبيات باللغة الدارجة:
لحسين إجة الحر ووكف دونه
يعتــــذر منّه وتهـــل عيـــونه
يا نجـل المصطــفى الأمجـد
مــا أدري توصـل إلهـا الحـد
العذر لله وأنتم تقبلونه
سدنة المرقد:
أما حراسة المرقد للحر بن يزيد الرياحي فإنها موكولة إلى ناظر وعدة خدّام هم من قبيلة (جشعم) الذائعة الصيت، وهم الذوات التالية أسماؤهم:
1ـ خلف سنة 1890م وهو جد راضي بن عبد علي بن علاوي بن خلف الجشعمي.
2ـ علاوي بن خلف سنة 1900م.
3ـ عبد الحسين بن علاوي سنة 912هـ ـ1935م.
4ـ عبد الزهرة بن عبد الحسين بن علاوي 1935م ـ 1993م.
6ـ عبد الحسين بن عبد الصاحب بن جبر سنة 1993م حتى يومنا هذا.
يؤم المزارات العراقية يومياً عدد هائل من الزوار من مختلف جهات الوطن العربي والإسلامي، وذلك للتبرك بهذه الأمكنة الدينية المقدسة، لاسيما مرقد الشهيد الحر الرياحي، أحد أصحاب الإمام الحسين(عليه السلام) الذين استشهدوا معه في حادثة كربلاء، وإن مرقده معلم شاخص يفوح منه عبق التاريخ وأصالة الماضي والأمس المتوهج بنور الإيمان، وسيبقى مناراً شامخاً يعبر عن تاريخ الأمة الحافل بالانتصار والظفر.
نشرت في العدد 9
(1) القول السديد بشأن الحر الشهيد/ للسيد محمد هادي الخراساني الحائري ص47، 48.
(2) الإرشاد/ للشيخ المفيد ص235.
(3) اللهوف في قتلى الطفوف/ للسيد ابن طاووس ص61.
(4) الإرشاد ص235، وانظر: القول السديد ص53 و54.
(5) أمالي الشيخ الصدوق ص160.
(6) تاريخ وجغرافيائي كربلائي معلّى/ عماد الدين حسين اصفهاني (فارسي) ص85، 86، وانظر جولة في الأماكن المقدسة/ للسيد إبراهيم الزنجاني ص88.
(7) ديوان الشيخ محسن أبو الحب/ تحقيق: الدكتور جليل أبو الحب ص79.