لم يحظ كتاب في الدنيا من العناية والاهتمام والدرس كما حظي بها القرآن الكريم على مر العصور والأزمان، فقد كان موضع اهتمام علماء اللغة والفقه والأصول وعلماء الكلام والفلسفة والمنطق وباقي العلوم الأخرى.
لأن القرآن نور لا تطفأ مصابيحه، وسراجاً لا يخبو توقده، وبحر لا يدرك قعره، فالكل يغترف من معينه، ويستضيء بنوره، وينهج منهجه، فهو البنيان الذي لا تهدم أركانه، والمسند الذي يركن إليه أهل العلم والفهم، ففيه يجدون ضالتهم، فحامت حوله كل دراساتهم، خدمة له، فكشف علماء اللغة عن غريب ألفاظه، فألفوا كتب غريب القرآن وغيره، ودرس علماء النحو، وارجعوا كلَّ قواعده إليه مستشهدين به وطلاب الفلسفة اتخذوا منه أصلاً لبناء فلسفة إسلامية، وجعل منه علماء الكلام منهجاً لحواراتهم وأساساً لقواعدهم الكلامية، وكان علماء الفقه والأصول قد أصلوا لاستنباطاتهم وأحكامهم من وحيه، فدرسوا آيات الأحكام، وأسسوا أصولهم على هديه ومنهاجه،
أما قراء القرآن فقد أرسوا دعائم قراءته وأصول التلفظ في كلماته، فأوضحوا ما وقع فيها من خلاف فأرجعوه إلى لهجات العرب ولغاتهم، فكان كل قارئ يقرأ بما قرأ به شيخه وأستاذه عن أساتذته، بيد أن خلافاً وقع في الأخذ بهذه القراءات، وذلك كان مرجعه إلى صحتها أو عدمها، وبقيت النظرة متأرجحة بين التقديس والمناقشة، فمن يقدسها يعدها قرآناً ومن يناقشها يعدها علماً بكيفية أداء كلمات القرآن، وفرق بين القرآن وأداء القرآن(1).
فمن الذين جعلوا القراءات بمنزلة القرآن أبو بكر الباقلاني (ت403هـ) إذ يذهب إلى: (أن القراءات قرآن منزل من عند الله تعالى، وأنها تنقل خلفاً عن سلف، وأنهم أخذوها عن طريق الرواية، لا من جهة الاجتهاد، لأن المتواتر المشهور أن القراء السبعة إنما أخذوا القرآن رواية، لأنهم يمتنعون من القراءة بما لم يسمعوه)(2).
وخالفه الزركشي (ت:794هـ) إذ جعلهما حقيقتين مختلفتين، فقال (القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان، فالقرآن هو الوحي المنزل على محمد(صلى الله عليه وآله) للبيان والأعجاز، والقراءات: اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في الحروف وكيفيتها من تخفيف وتثقيل وغيرهما)(3).
وقد وافق الزركشي جملة من المتأخرين منهم، الأمام أبو القاسم الخوئي(رحمه الله) وازداد عليه، وقال: (إنها غير متواترة بل القراءات بين ما هو اجتهاد من القارئ، وبين ما هو منقول بخبر الواحد)(4)، وتابعه الدكتور محمد حسين الصغير بقوله: (والحق أنه لا علاقة بين حقيقة القرآن وحقيقة القراءات، فالقرآن هو النص الآلهي المحفوظ والقراءات أداء نطق ذلك النص اتفاقاً أو اختلافاً، والقرآن ذاته لا اختلاف في حقيقته إطلاقاً)(5).
لقد انعقد اجتماع المسلمين على حجية القراءات وتواترها، سواء كان تواترها عن النبي محمد(صلى الله عليه وآله) أم على جواز القراءة بها في الصلاة وغيرها(6)، فعن الإمام جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام)، قال: (اقرأوا كما علمتم)(7).
إذا كان علم القراءات يهتم بوجوه النطق في القراءة، فان علم التجويد يهتم بكيفية النطق وتجويد الألفاظ والوقوف على حقائق الكلام من حيث إعطاء الحروف حقها وبيان أحكامها في مواضع إنشائها وصفاتها(8).
فالتجويد في اللغة من الفعل جود. قال بن منظور (ت:711هـ): (وجاد الشيء جودة وجودة، أي صار جيداً، وأجدتُ الشيء فجاده، والتجويد مثله)(9).
وقال الجزري(ت: 833هـ): (التجويد مصدر من جوّد تجويداً، والاسم منه الجودة ضد الرداءة، يقال جود فلان في كذا، إذا فعل ذلك جيداً، فهو عندهم عبارة عن الإتيان بالقراءة مجودة الألفاظ بريئة من الرداءة في النطق، ومعناه انتهاء الغاية في التصحيح وبلوغ النهاية في التحسين)(10)، إذ أن الصوت الحسن مجود للألفاظ وموضح لمخارجها ومبين لصفاتها،
وقد سئل أمير المؤمنين علي(عليه السلام) عن قوله تعالى: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلً)(11)، قال: بيَّنه تبياناً ولا تهذه هذَّ الشعر، ولا تنثره نثر الرمل)(12)، ونقل عن الإمام جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام) قول رسول الله(صلى الله عليه وآله): (اقرأوا القرآن بألحان العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل الفسق وأهل الكبائر، فانه سيجيء من بعدي قوم يرجعون القرآن ترجيع الغناء والنوح والرهبانية)(13)، ففي ألحان العرب وأصواتها، إعطاء كل حرف حقه، وإخراجه من موضعه الصحيح كي يكون صوتاً حسناً وتجويداً جميلاً يتحلى به القرآن، قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (لكل شيء حلية، وحلية القرآن الصوت الحسن)(14).
ووصف ابن الجزري التجويد بقوله: (التجويد حلية التلاوة وزينة القراءة وهو إعطاء الحروف حقوقها وترتيبها على مراتبها، ورد الحرف إلى مخرجه وأصله وإلحاقه بنظيره وتصحيح لفظه وتلطيف النطق به على حال صيغته وكمال هيئته من غير إسرافٍ وتعسف ولا إفراط ولا تكلف، وإلى ذلك أشار النبي(صلى الله عليه وآله) بقوله: (من أحب أن يقرأ القرآن غضاً كما نزل، فليقرأ بقراءة ابن أمِّ عبد يعني عبد الله بن مسعود)(15)،
فكان ابن مسعود(رضي الله عنه) حسن الصوت، يتأنق فيه ويتتبع محاسن القرآن في ذلك، قال في صفة القرآن: (إذا وقعت في آل حم(16) وقعت في روضاتٍ دمثاتٍ أتأنق فيهن)(17) أي يتتبع محاسنهن من أجل أوزان الكلمات ومن أجل الفواصل(18)، فيعطي كل حرف حقه في الصنعة والمخرج، وأي خروج عن ذلك يصيب اللفظة بالضعف والوهن وغموض الدلالة وذهاب الزينة والرونق،
قال ابن مسعود: (جردوا القرآن، وزينوه بأحسن الأصوات، واعربوه، فانه عربي وأن الله عز وجل يحب أن يُعربَ به)(19)، فاعرابه إيضاح ألفاظه وبيان قدرتها في تزيين القرآن، وإبعاد القارئ عن اللحن والخطأ والزلل، فالواجب تعلم العربية لتكون وسيلة لفهم القرآن، وقد نقل عن أبي ذر الغفاري(رضي الله عنه) قوله: (تعلموا العربية في القرآن كما تعلمون حفظه)(20)، كي لا يقع المقرئ الخطأ واللحن المؤدي إلى الإثم وارتكاب المعصية، إذ تبطل الصلاة عندما لا تنطق الحروف في الآية من مخارجها وإعطائها حقها من الجهر والهمس وغيرها من الصفات(21).
لقد حث الله تعالى على تعلم القرآن وتلاوته وحفظه، ونهانا عن ترك قراءته أو الإعراض عنها ونسيانها، ففي تعلمه خير الدنيا وخير الآخرة، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ)(22).
ووصفت آيات الله حال المؤمنين عند تلاوة الذكر الحكيم، فقال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)(23).
وجاء فيه أيضاً وجوب تذكره وتلاوته وحسن تدبره فقال سبحانه: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)(24).
فكأنه يشير إلى أن عدم إعطاء المقرئ آيات الله حقها من التلاوة خروج عن الطريق الصحيح، ونتيجته الخسران.
وحث أيضاً على الاستماع له والإنصات، قال تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)(25).
ووصف النبي محمد(صلى الله عليه وآله) المؤمن الذي يقرأ القرآن كالأترجة، قال (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كالأترجة ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل الثمرة التي لا ريح لها، وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيّب وطعمها مرّ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة لا ريح لها وطعمها مرّ)(26).
وقال الإمام جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام): (من قرأ القرآن فهو غني ولا فقر بعده، وإلا ما به غنى)(27)، فهذا فضل قراءة القرآن وتلاوته.