يمثل تراث أئمة الشيعة أبرز الأسباب الحقيقية التي رسخت فكرة التسامح بين الشيعة وعمقها. إن المقصود بتراث الأئمة هو تلك الثروة الهائلة والخزين الضخم من الأعمال والأقوال الذي خلفه أئمة الشيعة لأتباعهم.
يبتدئ تاريخ الشيعة بالإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) سواء في حياة النبي محمد(صلى الله عليه وآله) أو بعد ذلك. ويحتاج تحليل الموقف المتسامح الذي وقفه الإمام علي(عليه السلام)، من خصومه المعارضين والمناوئين لحكمه إلى وقفة طويلة وتفصيلية، لكن غرض البحث هنا هو إعطاء نماذج متفرقة عن مواقف الأئمة، لاستعراض جميع مفاصل حياتهم.
تتميز تجربة الإمام علي(عليه السلام) وخلافاً لبقية الأئمة(عليهم السلام) بأنها ذات بعدين: فالإمام(عليه السلام) قد أسس مبدأ التسامح في واقع الحياة الاجتماعية كفرد من أفراد المجتمع الإسلامي، وهو مارس هذا الدور وبشكل أكثر عمقاً أثناء فترة حكمه التي امتدت بين سنتي 36ـ41هـ. لقد رسخ الإمام علي(عليه السلام) مفهوم التسامح أثناء دوري حياته لتصبح تجربته هي المثال الأكبر الذي يحلم به جميع أبناء المجتمع الإسلامي. والحق أن مفردة التسامح لا تعبر بشكل كاف وحقيقي عن جوهر المبادئ التي نشرها الإمام علي(عليه السلام).
فالتسامح، كمبدأ لا يقتضي العدالة، بل هو يعبر في أحسن الأحوال عن التعايش وتقبل الآخر ضمن حدود مقبولة. أما الإمام علي فقد تجاوز مبدأ التسامح الى ترسيخ المساواة بين أبناء الجنس البشري.
تروي المصادر التاريخية أن الإمام علي(عليه السلام) تخاصم مع يهودي على درع كان الإمام(عليه السلام) قد فقدها. وحين حضر الإمام(عليه السلام) مع الرجل اليهودي الى شريح القاضي ليقضي بينهما، أظهر الإمام(عليه السلام) عدم رضاه من تصرف شريح الذي كان يناديه بكنيته بينما كان يخاطب اليهودي باسمه الصريح. ولم يكن غضب الإمام(عليه السلام) لهذا التفاوت في المعاملة بينه وبين خصمه إلا دعوة للانتصار لحق الخصم في المعاملة الكريمة.
إن من الشائع عادة أن يغضب الإنسان لأي إساءة قد يتعرض لها، خصوصاً وهو في معرض الخصومة مع الآخرين. أما الانتصار للخصم والتعصب له فهو أرقى ما تصل إليه النفس الإنسانية، وهو خلق نادر لا يمكن أن تصادفه لدى أعظم العظماء.
ومبادئ الإمام علي(عليه السلام) وهو فرد كسائر أفراد المسلمين هي نفسها مبادؤه وهو الحاكم عليهم، الآمر فيهم.
فعندما أعلن جماعة من أصحابه الخروج عليه ومفارقته، لم يضمن الإمام علي(عليه السلام) حياتهم فحسب حينما اعترض الإمام(عليه السلام) على جماعة من أصحابه هموا بمقاتلة هؤلاء الخوارج ولكنه ضمن حقوق الخارجين عليه في بيت المال أيضاً، معلناً أنهم من الأمة ماداموا لم يعلنوا الحرب عليها. إن الإمام يؤسس هنا لمبدأ حرية الخصم في المعارضة، المبدأ الذي أيصبح أحد الأسس الكبرى في الحياة السياسية الغربية الحديثة.
إن هذا المبدأ الأخلاقي الرائع للإمام علي(عليه السلام) يكشف لنا حدود المبادئ الإنسانية التي كان الإمام يدعو لها ويطبقها بنفسه وهي مبادئ لا نجد لها ما يقابلها، وللأسف خصوصاً بين أبناء المجتمع الإسلامي المعاصر.
يروى أن مجموعة من أصحابه جاءوه عند تفرق الناس عنه وفرار بعضهم إلى معاوية طلباً لما في يديه من الدنيا، فقالوا: يا أمير المؤمنين أعط هذه الأموال وفضل هؤلاء الأشراف على الموالي والعجم ومن تخاف عليه من الناس فراره إلى معاوية، فقال لهم أمير المؤمنين(عليه السلام): أتأمروني أن أطلب النصر بالجور، لا والله ما أفعل، ما طلعت شمس، ولاح في السماء نجم، والله لو كان مالهم لي لواسيت بينهم، وكيف وإنما هي أموالهم(1).
وربما يقود موضوع السياسة المالية العادلة التي انتهجها الإمام(عليه السلام) بين المسلمين الى ذكر حقيقة، تبدو على جانب كبير من الأهمية. فخازن بيت المال على عهد أمير المؤمنين(عليه السلام) كان هو عبيد الله بن أبي رافع القبطي المصري الأصل. وذكر هذه الحقيقة في حياة أمير المؤمنين(عليه السلام) وخلافته تحديداً تنطوي على دروس عميقة يحسن بالمسلمين المعاصرين أن ينظروا إليها.
إن كثير من المسلمين وللأسف يتعاملون مع أبناء الأقليات الدينية والقومية الأخرى من موقع الكره والحقد، الذي يبنونه أصلاً على قاعدة الاختلاف الديني والقومي. لكن قاعدة الاختلاف لا تنفي حقيقة اشتراك البشر في المبدأ الإنساني العام. يقول الإمام(عليه السلام): الناس صنفان، أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق. كذلك فإن حديث الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) الذي يؤكد: إنما الدين المعاملة، ربما يكشف الأساس الأكبر للعلاقة بين بني الإنسان.
وإذا ما انتقلنا الى دراسة حياة بقية الأئمة(عليهم السلام)، وجدنا أن المنهج العلوي (وهي التسمية التي ستظل عنواناً لتراث الأئمة جميعاً) هو نفسه، يتجسد واقعاً باسم الإمام الحسن(عليه السلام) أو الحسين(عليه السلام) أو بقية تلك السلالة الطاهرة المطهرة.
عرف الإمام الحسن(عليه السلام) بفضيلة الحلم، حتى سمي حليم آل البيت(عليهم السلام) والحلم فضيلة أخلاقية، تدل على سمو الذات وتواضعها في الوقت عينه. ولقد بلغ من حلم الإمام الحسن(عليه السلام) وسمو أخلاقه أن أحدهم كان يتعرض للإمام(عليه السلام) دائماً بالأذى والسب، وكان الإمام لا يرد عليه بمثله، بل يسأله بعطف: ربما اشتبه عليك. هل لديك حاجة حتى نقضيها لك؟. وسنرى أن مثل هذه المواقف تتكرر في حياة الأئمة الآخرين بشكل يكشف عن تأصيل المنهج الأخلاقي وتجذره.
يرتبط اسم الإمام الحسين(عليه السلام) بمأساة كربلاء الخالدة. وفي يوم عاشوراء بالذات، أظهر الإمام الحسين(عليه السلام) أروع صفات التسامح والإنسانية خصوصاً مع أعدائه وخصومه المقاتلين له. ففي صبيحة يوم عاشوراء وقف الإمام الحسين(عليه السلام) داعياً الله كي يهدي أعداءه الى طريق الصواب.
والإمام الشهيد (أبو الشهداء) هو الإنسان ذاته، الذي كان قد كسر تقليداً اجتماعياً ليؤسس نهجاً اجتماعياً جديداً ورائعاً. ففي الوقت الذي شاعت فيه بين العرب المسلمين ظاهرة الحط من الموالي، وفي الوقت الذي كان ينظر إليهم على أنهم أقل منزلة اجتماعياً وإنسانياً تخطى الإمام الحسين(عليه السلام) ذلك التقليد الجاهلي ليتزوج امرأة من الموالي، كاسراً بذلك عرفاً اجتماعياً بغيضاً، كان ـ وسيظل لفترات لاحقة ـ خطاً أحمر بين المتعصبين من العرب. إن مبدأ المساواة في التعامل مع القوميات المختلفة سيصبح مبدأ شيعياً متأصلاً مع مرور السنين.
فالزواج من النساء غير العربيات أو غير المسلمات، سيتكرر مع الإمام الصادق(عليه السلام) الذي تزوج من امرأة أندلسية وقيل بربرية، تعرف باسم حميدة، حيث ستنجب له الإمام موسى الكاظم(عليه السلام).
والإمام الكاظم(عليه السلام) بدوره سيتزوج من امرأة نوبية، هي أم الإمام الرضا(عليه السلام). ويجدد الإمام الرضا(عليه السلام) هذا التقليد الجديد ليتزوج من امرأة نوبية تدعى سبيكة، المرأة التي شاء لها الله أن تكون أم الإمام الجواد(عليه السلام).
وتتكرر حالة الزواج من النساء غير العربيات مع الإمام الحسن العسكري(عليه السلام) (والد الإمام المهدي(عليه السلام)). فوفقاً للمصادر التاريخية فإن الإمام العسكري(عليه السلام) قد تزوج من امرأة كانت نصرانية تدعى سوسن أو نرجس، وهي التي أنجبت الإمام المهدي (عجل الله فرجه). وهذه الرواية تحديداً لم تكتمل حتى الآن قراءتها، بشكل يكشف جميع دلالاتها التاريخية والدينية العميقة.
إن مسألة الزواج من النساء غير العربيات إذ تتكرر بهذا الشكل فإنها تحمل دلالات عديدة ليس أقلها تثبيت مبدأ المساواة بين بني البشر وعدم تفضيل جنس على آخر، مع التشديد على احترام أبناء الأديان الأخرى ولا يمكن النظر إلى المسألة بصورة حكم فردي يختص بالإمام، بل هو تقليد إنساني يسعى الأئمة الشيعة إلى تأسيسه بين بني البشر.
ففي مقابل النهج العنصري الذي لجأ إليه بعض العرب في تعاملهم مع الموالي، تعامل الأئمة بروح التسامح والعدالة والمساواة. ولا يختلف منهج التسامح قليلاً أو كثيراً مع الإمام زين العابدين(عليه السلام) أو ولده الإمام الباقر(عليه السلام). فموقف الإمام السجاد(عليه السلام) من مروان بن الحكم يوم ثارت عليه المدينة، هو مما يعجز العقل البشري عن تصوره.
فلقد ثار أهل المدينة المنورة على أيام يزيد بن معاوية، معلنين خلعهم لبيعته. وكانت هذه الثورة صدى لما تركته مأساة الإمام الحسين(عليه السلام) في كربلاء. ولم يجد مروان بن الحكم مأوى لعياله، إلا عند الإمام زين العابدين(عليه السلام)، الذي كفل العائلة ورعاها طيلة فترة هروب مروان إلى الشام. ومن المعلوم أن مروان بن الحكم كان من أشد المحاربين للبيت العلوي بل أن اسمه يرتبط بالعداوة والكيد لهم.
كذلك فإن من يراجع الصحيفة السجادية فسوف يجد فكراً أخلاقياً رفيعاً قل نظيره. إن دعاء الإمام السجاد(عليه السلام) لأهل الثغور مثلاً يجسد العطف الإنساني الراقي على جيوش المسلمين، علماً أن قادة الجيش الأموي كانوا والغين في دماء المسلمين عموماً، ودماء أهل البيت(عليهم السلام) خصوصاً.
ويرتبط اسم الباقر(عليه السلام) في المصادر الشيعية بنشوء مدرسة آل البيت(عليهم السلام) التي سيتكامل بنيانها في عهد الإمام الصادق(عليه السلام).
وعلى عهد الإمام الباقر(عليه السلام) تحديداً سيبدأ الخوض في المسائل العلمية والفكرية بين المسلمين. وأرى من الواجب هنا رد ما يذهب إليه بعض الباحثين من نهي الأئمة(عليهم السلام) عن الجدل الفكري، مستندين في ذلك الى بعض الأحاديث التي وردت عن الأئمة(عليهم السلام) بهذا الخصوص.
ويبرز بعض الباحثين ذلك بالقول أن الإمام أعلى وأعلم مرجع للشريعة، ويمكن الرجوع إليه في كل سؤال للإجابة عنه، والاستفادة من توجيهاته التي تعبر عن الحقائق الناصعة المعبرة عن الواقع، ومع وجوده لا معنى للاجتهاد والاستدلال العقلي في الأمور الدينية، وبالتالي فلا داعي للجدال والنقاش واختبارات القوة في المناظرات(2).
إن هذا الرأي ينسى أن الإمام(عليه السلام) كان يجوز لأصحابه القادرين الخوض في مثل هذه المناظرات ويمنع من كانوا لا يثبتون أمام الخصم، على حد تعبير الحسني(3).
وهنا يحسن إيراد الرواية التالية عن أبي خالد الكابلي. قال: رأيت أبا جعفر صاحب الطاق، في الروضة وقد قطع أهل المدينة أزراره وهو دائب يجيبهم ويسألونه فدنوت منه، وقلت له: إن أبا عبد الله نهانا عن الكلام، فقال: لقد أمرك أن تقول لي؟ فقال لا والله ولكنه أمرني أن لا أكلم أحداً. قال: فاذهب وأطعه فيما أمرك، قال الكابلي: فدخلت على أبي عبد الله الصادق(عليه السلام) فأخبرته بقصة صاحب الطاق وما قلت له وما أجابني به، فتبسم أبو عبد الله(عليه السلام) وقال: يا أبا خالد إن صاحب الطاق يكلم الناس فيطير وينقص وأنت إذا قصوك لن تطير)(4).
إن هذه القصة توضح أن الأئمة(عليهم السلام) لم ينهوا أتباعهم عن المناظرة والجدل الفكري، كراهية للجدل كما تريد أن توضح بعض الاستنتاجات الحديثة. بل يمكن القول إن الأئمة(عليهم السلام) شجعوا على هذا الأمر أولئك النابغين من طلابهم لمواجهة تلك التيارات والمذاهب الفكرية الطارئة والمستحدثة.
كما ينبغي التفريق بين الاجتهاد والجدل في المسائل الفكرية وبالتحديد على عهد الأئمة(عليهم السلام). ففي عهد الأئمة لم تكن هناك أي حاجة لدى الشيعة لتقنين الاجتهاد، أو اللجوء إلى القياس كما فعل بعض أصحاب المذاهب الأخرى، نظراً لوجود الأئمة(عليهم السلام) وارتباط الشيعة مباشرة معهم من خلال العلماء والوكلاء الذين كانوا يفدون بأسئلتهم وأمورهم الشرعية لعرضها عليهم.
لقد كان هؤلاء (العلماء) لا يفتون برأيهم ولكن من خلال اللجوء إلى أحاديث الأئمة التي سمعوها منهم. لهذا السبب فقد تأخر التنظير الشيعي لأصول الفقه عن قرينه السني، نظراً لعدم حاجة الشيعة آنذاك إلى الاجتهاد مع وجود الإمام بينهم(5).
أما في ما يخص المناظرات العقلية والفكرية فليس من المعقول أن يلجأ هؤلاء الوكلاء إلى الإمام خصوصاً مع بعد المسافة. لذلك وجدنا الأئمة(عليهم السلام) يحثون النابغين من الشيعة على الجلوس في المساجد وإفتاء الناس استناداً إلى أحاديثهم، ومناظرة الخصوم في المسائل العقلية الجديدة.
لقد أوضح الإمام الباقر(عليه السلام) لأصحابه المدى الأخلاقي للتسامح بوصيته لهم قائلاً: ثلاثة من مكارم الدنيا والآخرة: أن تعفو عمن ظلمك، وتصل من قطعك، وتحلم إذا جهل عليك(6).
وسنرى لاحقاً من خلال كلمة مشابهة للإمام الصادق(عليه السلام) أن منهج التسامح الإنساني الذي يسير عليه الأئمة واحد، ولا يختلف قيد أنملة بين إمام وإمام. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) السيد الصدر، أخلاق أهل البيت، قم، ط1، 2004، ص409. (2) د. الطباطبائي، حسين المدرسي، تطور المباني الفكرية للتشيع في القرون الثلاثة الأولى، ت. د. فخري مشكور، قم، 1423هـ ق، ط1، ص170ـ171. (4) الحسني، هاشم، سيرة الأئمة الاثني عشر، قم، انتشارات المكتبة الحيدرية، ج2، ص199. (5) الحسني، هاشم المصدر السابق، ص199. (6) راجع حول ذلك السيد الصدر، محمد باقر، دروس في علم الأصول، مؤسسة انتشارات دار العلم، قم، الحلقة الأولى، ص31ـ35. ولرأي مغاير، لاحظ السيد الحكيم، محمد جعفر، تاريخ وتطور الفقه والأصول في حوزة النجف الأشرف العلمية، المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، بيروت، ط3، 2002، ص178ـ179.