Take a fresh look at your lifestyle.

شعر أبي العلاء المعري الاجتماعي وأثره السلبي في الحياة الاجتماعية > قراءة معاصرة جديدة <

0 2٬113

فضيلة الشيخ عبدالجبار الساعدي
أستاذ في الحوزة العلمية

المــرأة:
وهذه نقطة أخرى ضل فيها الشيخ ضلالاً غليظاً جداً وهو نقمته على المرأة واتهامه إياها واعتقاده أنه لا خير فيها وأنه لا مطمع في إصلاح ما اعوج أو فسد من أخلاقها. وعلى النقيض من هذا فهو يعتقد جازماً أنها فساد يسير على الأرض، فبدء السعادة في رأيه لو أنها لم تخلق:
بدء السعادة إن لم تخلق امرأة
فهل تود جمادى أنها رجب
وكما أن الولد نكبة للآباء ووجود الأبناء جناية يحاسب بها الآباء فشر تلك النكبات في رأي أبي العلاء أن يُرزأ الوجود بأنثى مهما تكن جميلة المحيا:
وإن تُعطى الأناث فأي بؤس
تبين في وجوه مقسمات
لو وقف الأمر عند هذا الحد لهان الخطب لكن أبا العلاء ناقم على المرأة في أي حالة من حالاتها فهو يراها ـ أبداً ـ متهمة لا صون لها ولا عفاف:
فكم بكرت تسقي الأمر حليلها
من العار إذ تسقي الجليل رضابها
والنساء في رأيه حبال غي لا همَّ لهن إلا إباحة أعراضهن:
أعوذ بالله من ورهاء قائلة
للزوج أني إلى الحمام أحتاج
وهمها في أمور لو تتبعها
كسرى عليه لشين العرش والتاج
والمرأة فوق هذا غير مؤتمنة على
ابن العشر لأنها هي التي تسعى في إفساده:
إذا بلغ الوليد لديك عشراً
فلا يدخل على الحرم الوليد
ألا أن النساء حبال غي
بهنّ يضيع الشرف التليد
فالمرأة في نظر أبي العلاء حية مؤذية على أي حال:
إنما الخود في مساربها
كسرية السم في تسرّيها
وبالجملة فإن رأي أبي العلاء في المرأة قبيح جداً لأنه يسيء بها الظن في جميع أطوارها ويرى أن تقطع الأسباب والوسائل بينها وبين الحياة العامة، إذ هي لا تصلح منها لشيء فأما العلم فقد حظره عليها فقال:
علموهن النسج والغزل والرد
نَ وخلّوا كتابة وقراءه
فصلاة الفتاة بالحمد والإخـ
ـلاص تجزي عن يونس وبراءه
وإذا لم يكن للناس كافة أن يطيعوا أمر أبي العلاء في ذلك، بل لابد من أن يهتم بعضهم بتعليم المرأة، فقد أحل في ألا يدخل عليها من المعلمين إلا الشيخ الفاني أو العجوز الهالكة فقال:
ليأخذن التلاوة عن عجوز
من اللائي فغرن مهتمات
يسدن المليك بكل جنح
ويركعن الضحى متأثمات
فما عيب على الفتيات لحن
إذا قلن المراد مترجحات
ولا يُدنين من رجل ضرير
يلقنهن آياً محكمات
سوى من كان مرتعشاً يداه
ولمته من المتثغمات
وفي هذه الرواية التائية وصف لحال المرأة، نظن أن شاعراً بلغ منه مبلغ أبي العلاء فهو يدل على أنه كان أتقن درس حالها في عصره أيّ اتقان وقد تشدد أبو العلاء في الحجاب فقال:
تهتك الستر بالجلوس أمام الـ
ـستر إن غنّت القيان وراءه
ونهى المرأة عن الحج وعن شهود الجماعات غير مرة في اللزوميات.
فلنتصور مجتمعاً هدمت فيه الثقة بين الجنسين إلى هذا الحد ورأى كل رجل في أمه، في أخته، في زوجته، في ابنته، في كل محارمه، رأى فيهن جميعاً مطايا للفحش وأدوات للخنا والرذيلة وإنه إنما يرب ماخوراً ويقوم على إنمائه وحياطته وحراسته.
لنتصور مجتمعاً فسدت عناصر تفكيره، وانحطت نبضات ضميره إلى هذا الدرك الأرذل والأنذل ماذا تكون نظرته إلى الحياة؟ والى أي مدى تتماسك فيه الأسرة وتستقر النظام الاجتماعي وفي رأينا أن المرأة على علاتها هي سبب ما في الحياة من نبوغ وعبقرية وعطف ورحمة وإنسانية ومُثل عليا سامية ومن أراد أن يعرف رأي أبي العلاء المعري في الفضائل المفصلة فليرجع إلى الطوال من قصائده في باب التاء والميم والنون من اللزوميات وليس غريباً بعد الذي عرضناه أن يشير المعري بالإباحة المشاعية في النساء وبلغ من سوداويته ونظرته الشكية والتشاؤمية أن وصل إلى أمور آمن بها وأخذ نفسه إلى الاعتقاد بها وجعلها شعاراً له ومعتقداً ومنها ما يتصل بالأخلاق وهذه هي الطامة الكبرى والمصيبة العظمى فقد زرع في النفوس الشك واليأس والألم القاتل المرير في بني الإنسان وقد أكثر في هذا الجانب البحث وأطال التفكير فلم ينتج له ذلك إلا أن الإنسان شرير بطبعه وأن الفساد غريزة فيه ولذلك لم ينتظر إصلاحاً ولم يرجح لأدوائه شفاءً وتصور بربك مجتمعاً مثل هذا المجتمع الذي يعتقد فيه شاعر فيلسوف أو متفلسف مثل هذا الاعتقاد ويزرع في نفوس وأرواح هذه التشكيلة من المجتمع مثله هذه المفاهيم الخاطئة القاتمة السواد ألست تتفق معي أنها معاول هدم وتخريب وبراكين سقوط وانحدار في القيمة الإنسانية وبني الإنسان أجمع إلى حضيض الشك المدمر واليأس المرير القاتل والى أزمة في الثقة والهداية والأمانة والى آراء مسخت الهوية الإنسانية وعلى هذا الرأي وأمثاله بنى أبو العلاء سيرته الخاصة، فآثر العزلة والانصراف من الاجتماع.
وقد افتن أبو العلاء في وصف الإنسان باللؤم افتناناً كثيراً فقال:
إن حازت الناس أخلاق يقاس بها
فإنهم عند سوء الطبع أسواء
أو كان كل بني حواء يشبهني
فبئس ما ولدت للناس حواء
ويقول:
رأيت قضاء الله أوجب خلقه
وعاد عليهم في تصرفه سلباً
وقد غلب الأحياء في كل وجهة
هواهم وإن كانوا غطارفة غُلبا
كلابٌ تعاوت أو تعاوت لجيفة
وأحسَبني أصبحت ألأمها كلبا
أبينا سوى غش الصدور وإنما
ينال ثواب الله أسلمُنا قلبا
وأي بني الأيام يحمد قائلٌ
ومن جرب الأقوام أوسعهم ثلبا
ويقول:
خسئتِ يا أمنا الدنيا فأفٍ لنا
بني اللئيمة أنذالٌ أخساء
وانظر إليه: كيف ذم الناس في معرض محاوريته للغراب فقال:
جُر يا غراب وأفسد لن ترى أحدا
إلا مسيئاً وأي الخلق لم يجر
فخذ من الزرع ما يكفيك عن عُرضٍ
وحاول الرزق في العالي من الشجر
وما ألومك بل أوليك معذرة
إذا خطفت ذبال القوم في الحجر
فآل حواء راعوا الأسد مخدرة
ولم يغادوا بسلمٍ ربة الوجر
ومن أتاهم بظلم فهو عندهم
كجانب التمر مغتراً إلى هجر
هم المعاشر ضاموا كل من صحبوا
من جنسهم وأباحوا كل محتجر
لو كنت حافظ أثمار لهم ينعت
ثم اقتربت لما أخلوك من حجر
وتعال أيها القارئ واقرأ قاصمة الظهر وتمعن في أمنيته التي سأسوقها لك من شعره التي لو تمت لانعدمت الحياة الاجتماعية بالمرة إذ تمنى لو أن الإنسان لم يوجد لأنه شرير مفسد في الأرض فقال:
يا ليت آدم كان طلق أمهم
أو كان حرمها عليه ظهارُ
ولدتهم في غير طهرٍ عاركاً
فلذاك تفقدُ فيهم الأطهار
وإذا عدنا إلى قصيدته التائية التي تنيف على التسعين بيتاً في كل بيت منها ذم للمرأة وتحقير لشأنها.
ومثلها في اللزوميات كثير فهو يهاجم النساء فينعتهن بالضعف والرياء والخيانة والمكر ولا يرى لهن إلا الاحتجاب
التام والتزام المنزل والانصراف إلى شؤونه. وإنك لترى سوء ظنه بهن إذ يقول:
فوارس فتـــــــــنةٍ أعلامُ غي
لقينك في الأساور معلمات
ودفنٌ ـ والحوادث فاجعات ـ
لإحداهن أحدى المكرمات
وخلال شعره تراه يهاجم الرجال فينعتهم بالجشع والغدر واللؤم:
هم السباع إذا عنت فرائسها
وإن دعوت لخير حولت حُمرا
وقس على هذا القول كثيراً من الأمثلة التي تعكس لنا بيئته أو نظره الأسود إلى أهل زمانه عموماً:
كلنا غادرٌ يميل إلى الظلم
وصفو الأيام للتعكير
ورجال الأنام مثل الغوالي
غير فرق التأنيث والتذكير
عش بخيلاً كأهل عصرك هذا
وتباله فإن دهرك أبله
قوم سوءٍ فالشبل منهم يغول الـ
ـليث فرساً والليث يأكل شبله
أتراني أيها القارئ الكريم بحاجة أن أعلق على هذه الأبيات أو أنها تقدم نفسها بنفسها وتكشف عن هويتها صريحة معلنة فسادها وخطورتها معاً.
وصفوة القول أن نظريات المعري وآرائه الاجتماعية تحوطها السوداء والتشاؤم والمرارة النفسية واليأس المدلهم الحالك وإن نظرته في حاجة إلى التصحيح أو إلى الرفض بتة لأنها لا تنطبق على أبسط قواعد الفلسفة الطبيعية الصحية والمنطلق المستقيم ولو أخذنا نقطة واحدة من النقاط التي اخفق فيها المعري إخفاقاً ذريعاً وضل فيها ضلالاً بعيداً هي أن الحياة الزوجية بلا نسل لعنة من اللعنات لا خير فيه ولا بركة لأننا رأينا الذين لا نسل لهم يلجأون إلى وسائط غير طبيعية ليسدوا هذا النقص في نفوسهم وأما بالنسبة إلى المرأة واللذات الجنسية فإنا لا نشك لحظة في عفاف الرجل ونظافة سلوكه الخلقي لأن أبا العلاء أبى أن يذوق طعم الرذيلة بنفس سامية ولكن ليس من الحق للحكيم والفيلسوف أن يقف من الضعف البشري موقف المتنطس الناقم، فما البشر المساكين، رفيعهم والوضيع؟ أنهم مجموعات من الرغائب.
كان عليه أن يفيض قلبه بالرحمة والحنان وأن يرثي لذل المرأة وضعفها كان عليه أن يرثي الذل والنكبات التي تكبتها فيها الطبيعة من الانقياد إلى عاطفة الأمومة ناسية من أجل ذلك كرامتها، ناسية من أجل ذلك راحتها مضحية بحياتها عند الاقتضاء، كان عليه أن يشفق لهذا المخلوق المسكين ويثور لذله كان عليه أن يشفق على المرأة التي نبذتها الأمة في زمنه لا أن ينهال عليها ويجردها من كل فضيلة هب أن مائة امرأة عرضن نفوسهن على أبي العلاء بعد أن اشتهر يردنه على الرذيلة فهل يعني ذلك أن كل امرأة في الحياة دنسة؟
الله الله في المرأة كم وكم من النساء يا أبا العلاء يا شيخ المعرة ويا حكيمها وشاعرها وفيلسوفها من النساء اللائي وقفن كالجبال الشامخة والحصون المشيدة عزة وإباء وأنفة من الرذيلة وقد تحطمت على صخرة عفافهن كل تجارب الغواة المفسدين لكن رحم الله أبا العلاء أنه كان يحكم على المرأة جزافاً بلا أقل حيطة أو تحفظ ومن المعلوم أن الأحكام المطلقة مجازفة خطرة أبداً ليس فيها شيء من الإنصاف، فإذا اغتفرت لرعاع القوم وأوباشهم فما ظنه بمقدورنا أن نغتفرها لحكيم عالمي وشاعر فيلسوف عملاق ومفكر عظيم فإن هذا الحكم على المرأة وعلى غيرها من شرائح المجتمع وسائر شؤون الحياة الاجتماعية يحمل في طواياه أشنع عناصر الهدم الاجتماعي والتدمير.
صفوة القول:
إن الدين والخلق والأخلاق والسلوك الإنساني وسائر أفراد النوع الإنساني في رأي المعري ما هي إلا ضلال وفسق وجور وظلم يقلد الجيل الجيل الذي يسبقه فيأخذ عنه عاداته وتقاليده وسلوكه يقلده تقليداً أعمى بلا وعي ولا تأمل ولا إدراك مبتعداً عن المزاوجة والهضم والاستيعاب والتفاعل والتأثير المتبادل أخذاً وعطاءً تقليد لا يعرف للحقيقة كنهاً ولا جوهراً والدين في نظره من الأمور الموروثة التي يتوارثها جيل عن جيل يقلد الناس من سبقهم دون أن يحكموا عقولهم أو يرفضوا الخطأ هذا هو ملخص رأي المعري في المجتمع وأخلاقياته ومعتقداته. وإذ يممنا شطر علماء النفس فإن الصورة التي يرسمها له المتخصصون في قضايا علم النفس وشؤونه أنه انطوائي شديد التأذي شغوف بالتأمل محب للوحدة شديد الحنين إلى الماضي، كئيب خجول كاره للبشر،
محب للحيوانات ينفر من السلطة، يميل إلى البساطة في الحياة والتقشف. وأقول تعليقاً على ذلك لو تشربت في نفسه تعاليم الإسلام الصحيحة وترسبت في أعماقه المعتقدات الإيمانية الحقة لما وصف بتلك الأوصاف البعيدة عن التفاعل والتأثير المتبادل في المجتمع أخذاً وعطاءً ولما وصل في زهده ورقته الإنسانية إلى حد يستلزم الرد على ما قررته سنن العقلاء الصحيحة وما صرحت به الآيات القرآنية الكريمة وما نادى به الإسلام العظيم من مثل قوله:
تسريح كفك برغوثاً ظفرت به
أبرُ من درهمٍ تعطيه محتاجا
أي أن عدم قتل البرغوث أكبر من صدقة المحتاج فهو لا يرضى القتل مهما كان نوعه ولكن الصدقة والبر والإحسان والإنفاق في سبيل الله يبقى ضمن دائرة معالجات الإسلام المالية للحاجات البشرية التي تعود بالنفع العميم على الحياة الاجتماعية وتراه من جانب آخر يحرم على نفسه أكل السمك واللحم والبيض والطير والعسل ويعلل الأسباب التي تدعوه إلى هذا التحريم تعليلاً عاطفياً فمن الظلم أن يقسو الإنسان على الحيوان الضعيف فيقتله ويأكله ويسطو على رزقه وأطفاله فيقضي عليهما ـ هذه فلسفته في حياته ـ ونقول كما قلنا سابقاً أليس الله الذي هو رب العباد والذي يقول عن ذاته المقدسة وما الله يريد ظلماً (وما ربك بظلام) هل يبلغ المخلوق وهو الكائن الضعيف الممكن المفتقر المحتاج الوجود حداً يفوق عدالة ورأفة واجب الوجود؟ لست أدري كيف تبرر بعض هذه الأقلام التي تبحث في حياة وشعر المعري هذه المفارقة العجيبة تعال أيها القارئ واسمع المعري حيث يقول:
غدوت مريض العقل والدين فالقني
لتسمع أنباء الأمور الصحائح
فلا تأكلن ما أخرج الماء ظالماً
ولا تبغ قوتاً من غريض الذبائح
ولا بيض أمات أرادت صريحة
لأطفالها دون الغوالي الصرائح
ولا تفجعن الطير وهي غوافلٌ
بما وضعت فالظلم شر القبائح
ودع ضرب النحل الذي بكرت له
كواسب من أزهار بيت فوائح
فما أحرزته كي يكون لغيرها
ولا جمعته للندى والمنائح
ويرى بعض الباحثين أن المعري شاعر أبلته الدنيا بهموم حاول الصمود أمامها ولكنه لم يفلح، فانكفأ إلى نفسه حزيناً يائساً يسايلها ويفكر ويحاول إدراك كنهها علها تخفف من حيرته التي جعلته في دوامة ويحاول إدراك كنه هذا العالم وكنه من فيه ولماذا جبلوا على الشر ـ حسب نظره ـ.
لقد كان الشاعر يعاني من اضطراب شديد متعدد النواحي وترك آثاراً في نفسه وبالجملة فإنه إذا بحث الأشياء وأطال فيها التأمل والتفكير فإنه يبحثها من زاوية منظاره الأسود عن الناس وعن الحياة وعن الأديان أنه يبحثها بعد أن كون فكرة دقيقة ومحددة عن الناس والمجتمع وبعد أن ابتلى بهم وذاق منهم الويلات واعتقد جازماً لقد سيطرت على المعري حياته عاطفتان كان لهما أبعد الأثر في مسيرته هما عاطفة الحياة من جهة وعاطفة سوء الظن من جهة أخرى. وهاتان العاطفتان جرتا عليه الانصراف إلى نفسه عن غيره من الأشياء والى تحليل سيرته مع الناس والى تحليل ما يصل إليه من سيرة الناس والطبيعة معاً ما وسعه التحليل وهذا كله كاف ليثير التشاؤم ويسبغ الكآبة على النفس.
فتركت تلك الأسباب وأمثالها في نفسه وروحه أعمق الآثار وأكثرها قسوة وصرامة في التدمير الاجتماعي والهدم الحياتي المتعمد حتى غدا قارباً تائهاً مضطرباً في خضم هائج متلاطم الأمواج مضطرب تتقاذفه الرياح وتترامى به الأمواج ذلك هو المعري فبنظره للحياة التي يفترض فيه هذه النظرة أن تكون متفتحة منفتحة مبتسمة متفائلة
ولكن بدلاً من ذلك أصبحت ظلمات من كل جانب فهو عقل مفكر يحاول أن يرى من ورائها ما لا يرى فيرتد خائباً ناقماً على الدهر ووجوده، ناعياً على الحياة مسراته، مهيباً بالناس: إلى الفناء إلى الفناء فما الوجود إلا شقاء
في شقاء.
قال في قصيدة من قسم المراثي في ديوانه سقط الزند يرثي والده ويستهلها بالكراهية وعدم الرضا حتى على السحاب المتألق ويقول سوف يبقى فمي مطبقاً كأن أسنانه نساء مصونات في خدرهن:
نقمت الرضا حتى على ضاحك المزن
فلا جادني إلا عبوس من الدجن
فليت فم أن ثام سني تبسمي
فم الطعنة النجلاء تدمي بلا سن
وكأن ثناياه أوانس يبتغى
لها حسن ذكر في الصيانة والسجن
وهو لا ينفك ينحي باللائمة على الدنيا ويوصم الحياة في كل وصمة مشينة اسمعه حيث يقول:
على أم وفر غضبة الله إنها
لأجدر أنثى أن تخون وأن تخني
كعابٌ دجاها فرعها ونهارها
محيالها قامت له الشمس بالحسن
زمان تولت وأد حواء بنتها
وكم وأدت في إثر حواء من قرن
وتبلغ النظرة السوداء القاتمة الكئيبة جداً حيث يقول في رثاء صديقه أبي الخطاب الجبلي وكان أديباً وفقيهاً وقد مات شاباً نعم بلغت عنده حداً وهو لا يفرق بين النوح والترنم:
غير مجدٍ في ملتي واعتقادي
نوح باكٍ ولا ترنم شاد
وشبيه صوت النعي إذا قيس بصـ
ـوت البشير في كل ناد
أبكت تلكم الحماة أم غنت
على فرع غصنها المياد
وقال من أخرى في الشريف موسى بن اسحق مجيباً إياه عن قصيدة:
عللاني فإن بيض الأماني
فنيت والظلام ليس بفاني
إن تناسيتما وداد أناسٍ
فاجعلاني من بعض أن تذكران
رب ليلٍ كأنه الصبح في الحسـ
ـن وإن كان أسود الطيلسان
قد ركضنا فيه إلى اللهو لما
وقف النجم وقفة الحيران
كم أردنا ذاك الزمان بمدح
فشغلنا بذم هذا الزمان
فكأني ما قلت والبدر طفلٌ
وشباب الظلماء في عنفوان
ليلتي هذه عروسٌ من الزنـ
ـج عليها قلائدٌ من جمان
هرب النوم عن جفوني فيها
هرب الأمن عن فؤاد الجبان
أسألك أيها القارئ الكريم أية نظرة هذه التي تجعل من الليل وهي عروس من الزنج لسوادها وحلكة ديجورها فكأن عليها قلائد من جمان وهو الذهب أرأيت كيف اختلطت عند المعري الألوان وتشابكت الرؤى والأحلام والخطوط سواءً كانت متباينة أو متناغمة ويكفي أن تعرف حيرته وقلقه واضطرابه من قوله:
هرب النوم عن جفوني فيها
هرب الأمن عن فؤاد الجبان
وكأن الهلال يهوى الثريا
فهما للوداع معتنقان
قال صحبي في لجتين من الـ
ـحندس والبيد إذ بدا الفرقدان
نحن غرقى فكيف ينقذنا نجمان
في حومة الدجى غرقان
وسهيل كوجنة الحب في اللو
ن وقلب المحب في الخفقان
ولكن لا نسمح ـ البتة ـ لا إلى الشاعر ولا إلى الباحثين الذين يهللون ويكبرون ويمدحون إلى حد الغلو والإسراف في تبرير زهد المعري وإعراضه عن الملذات المباحة المشروعة التي هي من ضروريات الحياة ومن عناصر البقاء والاستمرارية والحركة والتفاعل للحياة الاجتماعية وديمومتها وتجددها ونشاطها وصولاً إلى الرقي الأكمل والنضج الأتم الأمثل وبذلك نضمن السعادة لبني البشر في الدارين ـ والله أعلم بمصالح العباد والبلاد وما يبقي للحياة رونقها وبهجتها ويضمن للمجتمعات البشرية رقيها وتفاعلها وتنازعها نحو البقاء والمصلحة الإنسانية المثمرة.
أما ما يستلزم الرد على أحكام البارئ في الخلق والحياة الدنيا والآخرة فهو مرفوض ـ أساساً ـ لأننا لا نتمكن من سبر غور الأسرار الإلهية والحكمة الربانية التي جعلت التكاليف العملية متمشية مع تفاوت المكلفين في قدرتهم على العمل وتطلعهم إلى الكمال واختلاف أحوالهم في عروض الضرورات والأعذار، إن الإسلام وعلى لسان ناطقه الرسمي ـ القرآن ـ جمع بين العمل للدنيا والعمل للآخرة ورعاية مطالب الروح ومطالب الجسد ـ وأقام ذلك على منهج قوي لا إفراط فيه ولا تفريط ولا طغيان فيه لأحد الجانبين على الآخر فأمر المسلمين بأن يصلحو أمر دنياهم بالعمل النافع الذي يحقق لهم الحياة الكريمة في معاشهم، ويصلح أمر آخرتهم بالعمل الصالح الذي يحقق لهم السعادة في معادهم كما في قوله تعالى: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون).
وقوله(صلى الله عليه وآله) كما في الجامع الصغير: (ليس خيركم من ترك دنياه لآخرته ولا آخرته لدنياه، وإنما خيركم من عمل لدنياه وآخرته) وطالبهم بأن يجمعوا في سلوكهم بين رعاية مطالب الروح ورعاية مطالب الجسد وأن يسلكوا في ذلك مسلك التوسط والاعتدال والمحافظة على مظاهر الحشمة والوقار والرجولة التامة والخلق الكريم فأباح لهم الانتفاع بزينة الحياة والطيبات من الرزق كما في قوله تعالى: (قل من حرم زينة الله إلى أخرج لعباده والطيبات من الرزق) (فكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً).
نعم حرم عليهم الفواحش والخبائث وكل ما فيه إضرار بأي مقوم من مقومات الحياة الإنسانية الكريمة وهي الدين والنفس والعقل والمال والعرض كما في قوله تعالى: (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإثم والبغي بغير الحق وإن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون).
(ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث).
ونهى عن الغلو في التقشف وترك التمتع بما أحله الله من زينة الحياة والطيبات من الرزق كما في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين).
إذاً الله تعالى سمى المعري وأمثاله بالمعتدين الذين تعدوا على مقرراته جل شأنه لأن الإسلام في الجمع بين رعاية الجانب الروحي والجانب المادي نهج منهجاً وسطاً بين الغلو في الزهد والتقشف إلى حد الإضرار بحقوق الجانب الآخر المادي والأعراف في متع الحياة ولهوها إلى حد الإضرار بحقوق الجانب الروحي كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا).
هكذا تكاملت للتشريع الإسلامي عناصر العموم وأسرار الخلود فكان تشريعاً عاماً باقياً على وجه الزمان، لا يختص بأمة دون أمة ولا بزمان دون زمان وبذلك نضمن الحياة المرفهة الكريمة الحرة لبني البشر ليسعدوا في حياتهم الدنيا ويفوزوا بالرضوان الإلهي في الأخرى وهذه هي الحياة الاجتماعية المستقرة الهادئة المطمئنة لا من يحمل معول الهدم والتدمير والتقويض جاداً مخلصاً ماضياً قدماً لا يلوي على شيء بحجة ما نكبته به الطبيعة من عمىً وعزلةٍ وانطواءٍ ونظرة سوداوية قاتمة لأن المؤمن الصُلب الذي تشربت نفسه تعاليم الإسلام الحقة لا يستبد به الحزن ولا يطغى عليه الهم والغم إلى حد الهلع والجزع والنظر إلى الحياة بمنظار أسود قاتم حالك وأن يقلب الحقائق رأساً على عقب ويشتط بعيداً إلى حد الإسراف والعلو عن النداءات القرآنية والبلاغات السماوية العادلة الوضاءة التي رسمت أهداف وأشواط الحياة الاجتماعية النبيلة في الحياة الدنيا.
نعم كانت العزلة والانطواء نعمة وخيراً وبركة على الأدب والفكر من حيث التأليف والتصنيف ولكنها كانت نقمةً ووبالاً على الحياة الاجتماعية وتدميراً لبنيتها حيث قرر أن يعيش بعيداً عن الناس ففرض على نفسه تلك الحياة القاسية… حياة العزلة والانكماش، فلزم بيته خمسين سنة لا يخرج منه أبداً:
أراني في الثلاثة من سجوني
فلا تسأل عن الخبر التبيث
لفقدي ناظري ولزوم بيتي
وكون النفس في الجسد الخبيث
جاءته هذه الفكرة وهي فكرة العزلة والانطواء والانكماش بعد أن طاف في البلدان وعرف إنطوائياً البشر وبعد هذه الآراء التي واجهها في طفولته وشبابه ولما رأى تكالب البشر على جيف الحياة جعله يتقزز من هذا الجشع فنبتت في نفسه نزعة إنسانية دفعته أن يشفق حتى على الحيوان فكان نباتياً بالمعنى الفلسفي والواقعي معاً فقد امتنع عن أكل اللحوم نفر منها واختصر على تناول البقول ومهما قيل في تبرير ذلك فإننا قد بينا في مطاوي هذه الدراسة إن الإسراف في ذلك نقيض الحكمة الإلهية وهدم لمعاقل الحياة الاجتماعية وأن ما جاء به بعض الباحثين من تبريرات وما علل المعري سيرته هذه بعلل ومسوغات تبقى مسوغات واهية وعللاً عليلة من أن نزعته الإنسانية هي التي أملت عليه أسس هذه الفلسفة بعد أن رأى الناس يأكلون بعضهم بالدس والكذب والنفاق والوشايات فانتهى إلى أن طبيعة
الشر في الإنسان أغلب فوصف هذه الطباع أدق وصف وكما قلنا سابقاً إن هذا وأمثاله لا يبيح له أن يصل إلى حد التعارض والرد على الحكمة الإلهية والتصادم مع المنهجية القرآنية
التي أرادت الخير والسعادة لبني البشر أجمع في الدارين وفي كل زمان ومكان.
ولكنها أي العزلة والانطواء كانت ذات ثروة على الأدب والفكر والثقافة عموماً فعاش مع الفلاسفة والأدباء يعب من ألوان الحكمة والفلسفة ويسمع قصص الأمراء والملوك وأخبار الحروب التي تثور هنا وهناك وأنباء الاضطراب الذي ساد العالم العربي ـ يومذاك ـ وهذا التناحر على الدنيا والاندفاع وراء خسيس الغايات، فكون لنفسه فلسفة صريحة واضحة في شتى قضايا الفكر والحياة أضطر عليها من خراجه التشاؤمي ظلالاً معتمة ـ وهنا يكمن سر البلية والمصيبة في آرائه الاجتماعية.. فهو حائر قلق.. وحذر متشكك.. وتائه لا يهتدي السبيل وسط معامع هذه الحياة الصاخبة بالآراء والنظريات والفلسفات فهو بين هبوط وصعود وضعف وقوة وارتفاع وانحدار… وما إلى هذا من النزوات التي تلازم المفكرين:
دعيت أبا العلاء وذاك مينٌ
ولكن الصحيح أبا النزول
وبلغ عنده الشك والرفض لكثير من الحقائق والثوابت الاجتماعية جداً أن شكك في أصل الإنسان لأنه كان يتهم الأخبار ولا يصدقها إلا إذا أيدها عقله مهما كان مصدرها، ومهما أيدتها صحة الرواية ونصوص الدين لذلك شك في أب الإنسان فقال:
جائزٌ أن يكون آدم هذا
قبله آدم على إثر آدم
ثم جزم بذلك فقال:
وما آدم في مذهب العقل واحدٌ
ولكنه عند القياس أوادم
ولعله لاحظ أن ما بين أجيال الناس من الاختلاف في اللغة والعادة والدين بل في الشكل والصورة يمنع أن يكونوا مشتقين من سنخ واحد وهذا هو مذهب الباحثين من علماء الفرنج في هذه الأيام فإنهم يعتقدون أن كل جنس من البشر نوع برأسه لم يجمعه مع غيره من الأجناس أب وأم (وما أدري ما يقول إخوتنا وزملاؤنا من الباحثين الاجتماعيين من العرب والمسلمين والعراقيين بالخصوص فيما ذهب إليه المعري غير آرائه الاجتماعية هذه) ورأي المعري يخالف ما اتفق عليه القدماء ودلت عليه نصوص الشرائع السماوية إن فهمت من غير تكلف ولا تأويل. على أن أبا العلاء لم يلبث أن شك في هذا أيضاً فظن أن آدم إنما هو شخص من أشخاص الأساطير فقال:
قال قوم ولا أدين بما قا
لوه إن ابن آدم كابن عرس
جهل الناس ما أبوه على الدهر
ولكنه مسمى بحرس
في حديث رواه قوم لقوم
رهن طرس مستنسخ بعد طرس
ومن آرائه الاجتماعية المدمرة أن رأيه في الدنيا رأى سوء وقبح فقد كان لها قالياً وعليها زارياً ومن لؤمها وخستها أشتق الإنسان وخسته فلم يزل يقرعها من اللؤم بكل قارعة حتى أصبح أنه لأكثر الشعراء ذماً للدنيا ومحاولة الاستدلال على ذلك من شعره ضرب من الإطالة فإن الرجل لم يُعرف بخصلة أظهر من ذم الدنيا على أنه لم يخلها من الخير ولكنه جزء ضئيل بالقياس إلى ما فيها من الشر وفي ذلك يقول:
نعم ثم جزءٌ من ألوفٍ كثيرةٍ
من الخير والأجزاء بعد شرور
أنه يذم الدنيا وأهل الدنيا على فعالهم وينظر إلى الدنيا فلا يرى فيها إلا الرزايا وينظر للإنسان فلا يرى فيه إلا الشرور أليس هو القائل:
أبوكم آدمٌ سن المعاصي
وعلمكم مفارقة الجنان
لذلك فهو يستعجل الموت ليستريح من عناء الحياة ويسير في شعره بائساً أحياناً ناصحاً بني الدنيا أحياناً أخرى وهو بذلك ينسج فلسفة غنية.
نشرت في العدد11

المصادر:
1ـ تبقى لنا آراء خاصة في بعض جوانب هذا الشاعر أدرجناها ضمن كتاباتها المخطوطة المتناثرة عنه وهي تشمل العناوين التالية (المعري بين الشك واليقين، المعري الشاعر المضطرب الحائر، في رحاب الفلسفة العلائية).
2ـ شعراء رثوا أمهاتهم ج1 تأليف السيد محمد حسن الطالقاني سنة (1422هـ ـ2002م).
3ـ الوحدة الإسلامية أو التقريب بين المذاهب الإسلامية، منشورات الأعملي للمطبوعات، بيروت، ط1، (1395هـ ـ 1975م).
4ـ تجديد ذكرى أبي العلاء، الدكتور طه حسين، ط6، دار المعارف بمصر، 1963م.
5ـ اللزوميات أو لزوم ما يلزم، قدم له وأشرف على اختياره وتصحيحه عمر أبو النصر، مطبعة دار الجيل، بيروت، سنة 1969م.
6ـ أمراء الشعر العربي في العصر العباسي، أنيس المقدسي، دار العلم للملايين، بيروت.
7ـ مجلة الاعتدال النجفية س6، عدد آب 6/ 1946م صاحبها ورئيس تحريرها المرحوم محمد علي البلاغي.
8ـ البيان الكويتية ع166/ 1975م.
9ـ البيان الكويتية ع110/ 1975م.
10ـ شرح ديوان سقط الزند، القسم الأول، المكتبة العربية، الجمهورية العربية المتحدة، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، نسخة مصورة عن مطبعة دار الكتب سنة (1364هـ ـ 1945م).
11ـ شرح ديوان سقط الزند، القسم الثاني.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.