النجف الأشرف.. مدينة إسلامية عريقة
دراسة لأبرز معالمها العمرانية
د. رؤوف محمد علي الأنصاري
معماري وباحث في العمارة الإسلامية – لندن
برزت مدينة النجف الأشرف كواحدة من أشهر المدن الحضارية الإسلامية، واكتسبت أهميتها التاريخية والدينية عبر الزمن من احتضان ثراها رفات الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وقد لعبت دوراً حضارياً في تاريخ العراق والعالم الإسلامي، وكانت ولا تزال مركزاً للإشعاع الحضاري والديني والثقافي، ولقرون عدة على رغم تعرضها خلال العقود الثلاث الأخيرة للكثير من الظلم والاضطهاد والإهمال المتعمد ومحاولات تعطيل دورها الديني والحضاري المتميز.
تقع مدينة النجف على حافة الهضبة الغربية التي تفصل العراق عن الحدود الشرقية للمملكة العربية السعودية، فتشغل بحكم موقعها الجغرافي الطبيعي ما بين السهل الرسوبي والهضبة الصحراوية، وتبعد حوالي 10 كيلو متراً إلى الغرب من الكوفة ونهر الفرات، و161 كيلو متراً إلى الجنوب الغربي من مدينة بغداد.
وذكر اللغويون في مادة ((النجف)) عن سبب تسمية هذه المدينة فوجدوا لها معاني كثيرة يكاد ينعقد الإجماع على أنها سُميت بهذا الاسم لأنها مرتفعة كالمسناة تمنع ماء السيل من أن يعلو منازل الكوفة ومعالمها الأثرية والعمرانية. ومما يؤيد ما نذهب إليه هو أنها تقع في مكان مرتفع بينما المناطق المحيطة بها منخفضة عنها.
ولا نكاد نعرف عن تاريخ النجف القديم قبل الإسلام سوى أنها كانت متنزهاً لملوك الحيرة اللخميين وان أديرة نصرانية كانت قائمة في الموقع, وبقيت مزدهرة يقوم على شؤونها القسس والرهبان ويؤمها نصارى الكوفة وشعراؤها المُجان، حتى وبعد زوال الحيرة. وجاء في إشعارهم ذكر هذه الأديرة مثل دير ابن مزعوق ودير مارفاثيون ودير مارت مريم ودير حنا وأديرة أخرى.
ومن الأسماء التي أطلقت على النجف اسم المشهد، لأم فيها مرقد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وهو اللفظ الفصيح للجامع والمرقد، وسميّت أيضاً بالغري. وكانت هذه الأرض تعرف عند رجال الدين، يوم دفن الإمام علي فيها، بالذكوات البيض وهي الربوات ثلاث معروفة في النجف حتى اليوم، تسمى إحداها ((جبل الديك)) وهي الواقعة في شمالي القبر، والثانية ((جبل النور)) وهي الواقعة إلى جنوبه الشرقي، أما الثالثة فتقع في الجنوب الغربي، وتسمى ((جبل شريشفان)) (تصحيف شرف شاه).
وفي العصر الإسلامي أصبحت النجف ذات شأن كبير، فذكرتها كتب التاريخ بإفاضة بالغة وأسهب في وصفها البلغاء، وكتب عنها الكثير من أصحاب الحكمة والبيان، إذ كانت جامعة للعلم والفقه والأدب. ولا غرو ان تحتل مثل هذه المكانة والمنزلة السامية وثراها يحتضن رفات ابن عم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وزوج ابنته ورابع الخلفاء الراشدين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام).
ويروي المؤرخون أن داود بن علي العباسي كان أول من اكتشف قبر الإمام علي وذلك قبل العام 139هـ (750م)، وكان الخليفة العباسي هارون الرشيد أول من شخص وأكد موقع المرقد في حدود سنة 170 هـ (786م) عندما كان في نزهة صيد في ارض النجف. فتوقف عند الذكوات البيض، وأمر ببناء قبة من الطين الأحمر المطلية بالبياض على قبر الإمام علي تقديراً لمكانته في نفوس المسلمين. وهكذا أصبح قبر الإمام هذا نواة لنشوة مدينة النجف.
وثمة إشارات تاريخية نستدل بها على اهتمام العباسيين في مستهل عهدهم بضريح الإمام علي (عليه السلام)، وعندما اختلفوا مع العلويين صارت النجف مأوى المضطهدين منذ أواخر القرن الثالث الهجري. وبلغ الأمر بالعباسيين في آخر الأمر أنهم حاولوا هدم الضريح في أواخر القرن المذكور.
وعندما تسلم البويهيون حكم بغداد في القرن الرابع الهجري أبدو اهتمامهم بمرقد الإمام وأعادوا بناءه حتى صار مزاراً يؤمه الناس من دون خوف. وعلى أثر ما لحق بالكوفة من اضطهاد على أيدي العباسيين وخرابها على أيدي القرامطة، هاجرت بعض القبائل إلى النجف ثم كان أن هاجر إليها الشيخ الطوسي سنة 448هـ (1057م) فنقل معه مركز الحركة العلمية التي كانت مزدهرة في بغداد.
وشهدت النجف في القرن السابع الهجري حركة هجرة واسعة أخرى بعد أن تعرضت الكوفة لغزوات قبيلة خفاجة المجاورة، فأصبحت في الربع الأول من القرن الثامن – كما يقول ابن بطوطة – (( من أحسن مدن العراق وأكثرها ازدهاراً، وأتقنها بناءاً، ولها أسواق حسنة نظيفة )).
وعندما تسلم إسماعيل الصفوي مقاليد الحكم ببغداد في أواخر القرن التاسع الهجري زار النجف وأصلح النهر الذي كان يرفدها فعرف بنهر الشاه. وبعد انحسار نفوذ الصفويين وعودة العثمانيين إلى العراق، حظيت النجف باهتمامهم وعنايتهم خصوصاً في عهد السلطان سليمان القانوني. وفي سنة 984هـ (1576م) وبعد وفاة الشاه طهماسب الصفوي، آلت مدينة النجف إلى الخراب بسبب شحة المياه وإهمال نهر الشاه حتى نهاية القرن الحادي عشر الهجري عندما قام والي بغداد إبراهيم باشا بتطهيره.
أصبحت مدينة النجف مركزاً من مراكز العلم والأدب، وكانت لها مساهمتها في تأسيس الدولة العراقية عام 1921م وقيام الحركات الوطنية في ذلك العهد. إلاَّ أنها مرت خلال العقود الثلاث الأخيرة بأسوأ مراحل تاريخها، إذ عطلت جامعتها الدينية ومدارسها، وحورب العلم والعلماء فيها، ودمرت أجزاء كثيرة من مبانيها التراثية بعد أن قصفت بالمدافع والصواريخ من قبل قوات النظام العراقي إثناء انتفاضة الشعب العراقي في آذار (مارس) العام 1991م. ولم يتورع النظام حتى عن قصف جامع ومرقد الإمام علي الذي يعتبر ابرز معالم النجف الأشرف العمرانية.
جامع ومرقد الإمام علي (عليه السلام):
يقع جامع ومرقد الإمام علي – الذي يعرف أيضا بالروضة الحيدرية – في وسط النجف ويمتاز بفخامته وطراز بنائه المعماري الإسلامي، ويعتبر من أهم الجوامع والمراقد الدينية في العراق لأنه يضم رفات أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي استشهد سنة 40 هـ (661م). وتشير المصادر التاريخية، كما ذكرنا، إلى أن هارون الرشيد العباسي كان أول من أمر بإقامة بناء على قبر الإمام علي (عليه السلام). وكان البناء بارزاً ومتقدماً على بناء الجوامع والمراقد في القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي). وذكر أن البناء جدد في العهد المغولي (الايلخاني) وكذلك في العهدين الصفوي والعثماني، أما البناء القائم الآن فقد قام به الشاه صفي الدين حفيد الشاه عباس الصفوي الأول. وتمّ إكساء القبة والمئذنتين بالذهب سنة 1156هـ (1743م)، وفي سنة 1202هـ (1788م) صنع للقبر صندوق مشبك بشكل فني وهندسي رائع.
ويشغل مبنى الجامع والمرقد أرضا مربعة الشكل طول ضلعها 110 أمتار وتتألف أبنيتها من الحضرة وصحن واسع وسور ضخم يضم عدداً من المساجد. وتحتل غرفة الضريح مركز الحضرة وتتميز بارتفاع جدرانها وقبتها العالية، فهي مربعة الشكل طول ضلعها 13 متراً، وتتصف أيضا بسمك جدرانها البالغة ثلاثة أمتار وتصف المتر، أما ارتفاعها فيبلغ 10 أمتار. وترفع هذه الجدران الضخمة قبة الضريح، وهي مزدوجة يبلغ قطر القبة الداخلية منها 12 متراً وشكلها نصف كروي وارتفاعها عن سطح أرضية غرفة الضريح 35 متراً، أما القبة الخارجية فشكلها بصلي وتتميز بارتفاعها الشاهق الذي يبلغ 42 متراً عن سطح أرضية غرفة الضريح أما قطرها فيبلغ 16 متراً، وترتكز على رقبة اسطوانية مرتفعة تتخللها اثنتا عشرة نافذة معقودة مدببة. ويفصل القبتين عن بعضهما مجاز عرضه 1.50 متر، وتتخلل رقبة القبة الداخلية اثنتا عشرة نافذة أيضا، تقابل نوافذ الرقبة في القبة الخارجية. وقد استخدم الطابوق (الآجر) والجص في بناء القبتين، وكسيت القبة الخارجية ورقبتها من الخارج بقشرة خفيفة من الذهب. ويتوسط غرفة الضريح قبر الإمام علي (عليه السلام) ويمكن الوصول إليه عن طريق أربعة أبواب تتوسط جدران الغرفة وتصلها بالرواق، ويدور حول الضريح رواق يبلغ عرضه 5 أمتار وترتفع جدرانه بارتفاع جدران غرفة القبر. أما سقف الرواق فعبارة عن أقبية وقباب صغيرة ذات نوافذ. وجدران الرواق الخارجية ضخمة يبلغ طول كل منها 20 متراً من الخارج وهي بعرض 5 أمتار أي بعرض الرواق نفسه.
يتصل الرواق بالصحن عن طريق خمسة أبواب أشهرها ثلاثة بهيئة أواوين تخترق الجدران الشمالية والشرقية والجنوبية وأبرز هذه الأواوين إيوان الذهب الذي يتوسط الجدار الجنوبي ويمتاز بمقرنصاته العنقودية المطلية بالذهب، وهو يرتفع عن مستوى سطح الحضرة، وتحف به مئذنتان اسطوانيتان ترتفعان بارتفاع القبة تقريباً، ومكسوتان بألواح معدنية مطلية بالذهب، كما هي الحال في القبة وإيوان الذهب.
تتميز الحضرة الحيدرية بعدم وجود سقف يتقدم جدار طارمة المدخل الرئيسي، ويحيط بصحن المرقد سور مربع الشكل تقريباً ويبلغ ارتفاعه في معظم أجزائه حوالي 17 متراً وتتكون مبانيه من طابقين: الأرضي عبارة عن صف من الأواوين المقببة وفتحتها معقودة وذات رؤوس مدببة، أما الطابق الأول فيتكون من رواق معقود بعقود ذوات رؤوس مدببة أيضا يتقدم مجموعة من الغرف المقببة، ويوجد بالسور الخارجي خمسة أبواب (مداخل)، باب في كل ضلع من أضلاعه الأربعة، عدا الضلع الشرقي ففيه بابان.
الباب الكبير: يقع في الجهة الشرقية من السور ويعتبر الباب الرئيسي ويقابل سوق النجف المعروف بالسوق الكبير.
باب مسلم بن عقيل: يقع في الجهة الشرقية من السور الخارجي أيضا وإلى اليمين من الباب الكبير.
باب الطوسي: يقع في الجهة الشمالية من السور الخارجي.
باب القبلة: يقع من الجهة الجنوبية من السور الخارجي، وعُرف بهذا الاسم لأنه يواجه القبلة.
الباب السلطاني: ويعرف حالياً بباب العمارة ويعتبر احدث الأبواب الرئيسية نسبياً ويقع في السور الغربي الخارجي، وفتح في عهد السلطان العثماني عبد العزيز سنة 1279هـ (1863م).
ومن المباني الدينية الأخرى البارزة في مدينة النجف:
1- مسجد عمران بن شاهين: ويعتبر من أقدم مساجد مدينة النجف إذ انه شيّد في القرن الرابع الهجري على يد عمران بن شاهين والي البطائح من قبل السلطان عضد الدولة البويهي.
2- مسجد الخصراء: ويقع في النهاية الشمالية من الجانب الشرقي من السور الخارجي للمشهد. وهو من المساجد القديمة ايضاً.
3- مسجد الرأس: يقع في الجهة الغربية من السور الخارجي للمشهد، ويرجع تاريخ تشييده إلى عصر الايلخانيين.
4- إيوان العلماء: يقع هذا الإيوان الكبير في الجهة الشمالية من السور الخارجي للمشهد، وعُرف بهذا الاسم لكثرة العلماء المدفونين فيه وكان يُعرف سابقاً باسم مقام العلماء.
5- تكية البكتاشية: ويقع هذا المبنى في الجهة الغربية من السور الخارجي للمشهد ملاصقاً لمسجد الرأس. والبكتاشية اسم لفرقة صوفية تركية، اما التكية فلفظ أطلق في العهد العثماني على المباني الدينية.
أما أبرز المعالم الاثرية في النجف فهي:
– سور النجف القديم: شيّد السلطان عضد الدولة فناخسروا بن بويه الديلمي سوراً لمدينة النجف حين عمّر المرقد بين سنة 367هـ و372هـ وبنى الحسن بن سهلان وزير عضد الدولة سنة 400 هـ سوراً آخر حول المدينة، فأما أن يكون السور الأول تصدّع فهدمه وأعاد بناءه أو بنى سوراً أوسع من الأول وهدّم الأول. ثم بنى احد ملوك الهند سوراً آخر يقال انه أوسع من السور الثاني الذي شيّده الحسن بن سهلان، ويقال أن نادر شاه حين مجيئه للنجف سنة 1156هـ أمر بتسويرها ولعله أصلح السور السابق. وشيّد نظام الدولة محمد حسين خان العلاف الأصفهاني وزير فتح علي شاه القاجاري سوراً يعتبر أعلى الأسوار التي شيّدت سابقاً واحكمها وهو الذي كان موجوداً حتى سنة 1357هـ (1937م).
– بحر النجف: يوجد عند حافة الهضبة الصحراوية في الجنوب الغربي لمدينة النجف منخفض يسمى ((بحر النجف)) والواقف على رأس الهضبة يشاهد منظراً جميلاً، إذ يمتد أمامه بساط من البساتين والمزروعات على ضفتي جدول صغير ممتد من نهر (أبو صخير. ويذكر الرحالة البرتغالي تكسيراً الذي وصل إلى النجف في 23 ربيع الثاني 1013هـ ( 18 أيلول/ سبتمبر 1605م) إن بحر النجف يستمد ماءه من نهر الفرات ولذلك يلاحظ ازدياد مناسيبه في مواسم الفيضانات. ويقول ان البحيرة كانت شديدة الملوحة ولذلك كان يستخرج منها الملح الذي يباع في بقية المدن العراقية. ومع ملوحتها هذه كان يكثر فيها السمك بأنواعه المختلفة، ولهذا يسميها الناس بحيرة النجف. ثم يذكر ان مدينة النجف كانت تطل من موقعها العالي على بحر النجف نفسه.
– مقبرة النجف: تعتبر مقبرة النجف المعروفة بـ(وادي السلام)من أوسع المقابر في العالم وتاريخها قديم قدم التعرف على مرقد الإمام علي (عليه السلام).
وتنتشر في النجف الكثير من المقامات ومن اهمها:
1- مقام الإمام زين العابدين علي بن الحسين (عليهما السلام): ويروى ان الإمام أدى الصلاة في المكان المذكور عند زيارته لجده الإمام علي (عليه السلام). ويقع المقام في محلة العمارة غربي الروضة بالمكان المعروف اليوم بـ (الثلمة) وشيّد عليه مسجد كبير.
2- مقام الإمام المهدي (عليه السلام): ينسب إلى الإمام محمد بن الحسن المهدي ويقع في وادي السلام وحوله مسجد.
3- مرقد هود وصالح (عليهما السلام): يقع في الجهة الشمالية من مدينة النجف داخل وادي السلام ويقال ان فيه مدفن النبي هود والنبي صالح (عليهما السلام).
4- صافي صفا: مقام للإمام علي (عليه السلام) وفيه مدفن لرجل من اهل اليمن، وحوله مسجد قديم يعود بناؤه إلى القرن السابع الهجري.
5- مرقد كميل بن زياد النخعي صاحب الإمام علي (عليه السلام): وشيّد حول مرقده مسجد واسع، ويقع في منطقة كانت تعرف قديماً بـ(الثوية).
ويذكر تاريخياً ان النعمان والي الكوفة كان يحبس في سجن أقامه هناك من يريد قتله. ومن المعروف ان الثوية مدفن لعدد من الشخصيات الإسلامية مثل: أبي موسى الاشعري، والمغيرة بن شعبة، وخباب بن الارت، والأحنف بن قيس، وعدي بن حاتم الطائي، وزياد بن أبيه.
المعاهد العلمية الاسلامية:
تتمتع مدينة النجف الاشرف بمكانة دينية وثقافية مرموقة، فهي الامتداد الطبيعي للكوفة عاصمة الخلافة الإسلامية أيام الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام). وكانت هجرة الشيخ الطوسي إلى النجف من العاصمة العباسية بغداد، أواسط القرن الخامس الهجري، إيذانا بتأسيس جامعة علمية إسلامية فيها تضم العديد من المدارس والمعاهد الدينية وان كانت قبل ذلك مسكناً لبعض العلماء وزهادهم الذين فضلوا جوار مرقد الامام علي (عليه السلام) بعد ظهور أمره في زمن الخليفة العباسي هارون الرشيد وذلك سنة 170هـ (786م) وبناء قبته البيضاء من قبله.
وبعد سقوط وتدمير بغداد على يد المغول (الايلخانيين) سنة 656هـ (1258م) قدر للنجف – جنباً إلى جنب مع الجامعة العلمية الإسلامية في مدينة الحلة – ان تلعب دوراً روحانياً وثقافياً في العراق ومناطق عدة من العالم الاسلامي، واصبحت داراً للعلم لفقهاء المسلمين من جميع مواطن سكناهم.
وكان اهم ما تميزت به مدينة النجف والمدن الدينية الأخرى في العراق – كربلاء والكاظمية وسامراء – الدراسات الدينية ذات الطابع التقليدي القديم في طريقة التدريس المسماة بنظام الحلقات وهذه الطريقة كانت ولا تزال معتمدة في معظم الحوزات العلمية في المدن الإسلامية.
وكانت الدراسات تتخذ من بعض الجوامع والمساجد في المدينة، كجامع الهندي ومسجد الترك وجامع الطوسي ومسجد الخضراء، وفي صحن وغرف وأروقة الروضة الحيدرية (جامع ومرقد الإمام علي (عليه السلام)) أماكن لها. وكذلك في بيوت كبار العلماء التي غالباً ما كانت تضم قاعات وغرفاً كبيرة أعدت لهذا الغرض. وتخرج عن طريق هذه الدراسات الكثير من العلماء والفقهاء والمراجع ممن تخصصوا في الفقه والاصول والفلسفة والطب والفلك والنحو والأدب وعلوم القرآن.
وأدى تطور الحركة الفكرية والدينية في القرن الثاني عشر الهجري واتساعها، إضافة إلى توافد الكثير من الطلاب على مدينة النجف، إلى انتشار المدارس العلمية الدينية فيها حتى قاربت الاربعين مدرسة ومعهداً، وكانت بمثابة جامعة إسلامية كبيرة ومعظمها يحتوي على غرف لسكنى الطلبة ايضاً، وشيّدت من قبل مراجع دينيين في مراحل زمنية مختلفة وسميت بأسمائهم، كمدرسة كاشف الغطاء ومدرسة اليزدي ومدرسة الآخوند ومدرسة الخليلي وغيرها.
وشيّدت مدارس إسلامية أخرى من قبل بعض البلدان الاسلامية لجالياتها التي كانت توفدها إلى هذه المدينة لدراسة العلوم الدينية، كالمدرسة الهندية والمدرسة الافغانية والمدارس اللبنانية ومدرسة الترك (البادكوبة) الاذربيجانية. وكانت لهذه المدارس والمعاهد الدينية خصائصها وطابعها المعماري المتميز من حيث استقلال البناء وهندسته وإلحاق الأقسام الداخلية للطلبة وتطور مناهج الدراسة فيها، وكانت تختلف عن حلقات المساجد والجلسات العلمية في بيوت العلماء، فصارت هي المكان المخصص للدراسة، كما كان يخصص مكان لسكن الطلبة في وحدة معمارية وإدارية متكاملة.
أما أسلوب الدراسة في المدارس والمعاهد العلمية في النجف فكان يواكب التطور في المقررات، وحاجتها لإدخال بعض المفردات والعلوم المعاصرة في مناهجها، وكانت تمد الأقطار الإسلامية بالكثير من الكوادر العلمية الإسلامية المتفتحة.
ومن المقررات التي كانت تدرس فيها: علوم القرآن، والبلاغة، والحديث، والفقه المقارن، وعلم الكلام، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، والأدب، والعروض، والتأريخ، والاقتصاد، واللغة الانكَليزية، وكذلك بعض العلوم الطبيعية والرياضية كالفلك والهندسة والحساب، بالاضافة إلى أصول الفقه والعقائد واللغة العربية.
ومنذ ان قام الشيخ العالم المجدد محمد رضا المظفر بتأسيس (كلية منتدى النشر) لعام 1957م في خطوة تعتبر مرحلة متطورة للمدارس والمعاهد العلمية الاسلامية في النجف، وقد استمرت في عملها إلى ان قرر الشيخ بتأسيس (كلية الفقه) التي اعترفت بها وزارة المعارف العراقية بعد ثورة 14 تموز العام 1958م، فقد تطورت المناهج في هذه الكلية فافتتحت قسماً عالياً لمنح شهادة الماجستير في العلوم الاسلامية وكادت ان تفتتح قسماً للدكتوراه، لولا تدخل النظام القائم. والمدارس والمعاهد الاسلامية في مدينة النجف تحمل صفات وخصائص معمارية متميزة تتناسب مع الهدف الذي أنشئت من اجله.
ويمثل تخطيطها طرازاً معمارياً معروفاً في العراق يعرف بالطراز الحيري، نسبة إلى مدينة الحيرة عاصمة المناذرة قرب الكوفة، والتي قامت النجف على أعتابها. وهذا الطراز يتمثل بإحلال الصحن (الفناء المكشوف) المكان الأول في التخطيط وتأتي الأروقة المسقوفة المكشوفة القاعات والغرف والمصلى والممرات والمداخل لتحتل مكانها حول تلك الساحة التي تتجه إليها كل مرافق البناء. وهذا التنسيق المتبع في بناء المدارس الاسلامية يشير إلى النظام المتبع في المباني الاسلامية والى أسلوب التخطيط المعماري الذي أكدته البيئة ومتطلبات الحياة الاجتماعية.
وفي أكثر الأحيان يتوسط الصحن حوض فيه نافورة ماء يستعمل أحيانا للوضوء. أما الواجهات الخارجية فتقتصر على الأبواب المؤدية إلى الداخل وأحيانا توجد فيها بعض الشبابيك التي غالباً ما تكون فوق مستوى النظر.
واستخدمت في الواجهات الخارجية لمعظم المدارس والمعاهد الاسلامية في النجف تشكيلات زخرفية من الآجر وعلى مساحات معينة من الجدران بحيث أضفت مسحة جمالية رائعة على هذه الابنية. واستعمل الطابوق (الآجر) والجص في البناء وتم تزيين الجدران الداخلية المطلة على الفناء المكشوف بزخارف آجرية وجصية وقاشانية ملونة تتخللها كتابات من الآيات القرآنية الكريمة، وكذلك الزخارف الخشبية المتنوعة التي تغطي الشبابيك والمطعمة بقطع صغيرة من الزجاج الملون.
وتتميز غالبية أبنية المدارس في النجف بوجود السراديب فيها وهي منخفضة عن مستوى أرضيتها بأمتار عدة وينزل اليها بواسطة سلالم (دراجات)، ويتحول السكن في الصيف من وسط المدرسة إلى هذه السراديب، وتتم فيها المطالعة وتناول طعام الغداء وقد تمسي في الصيف ملاذاً للطلاّب يقضون فيها الليل احياناً، وذلك عند اجتياح العواصف الرملية المدينة. ومنذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة سنة 1921م انشئت مجموعة من المدارس الحكومية اخذت على عاتقها تعليم أبناء النجف جنباً إلى جنب مع المدارس والمعاهد الاسلامية.
أما أشهر المدارس والمعاهد العلمية والاسلامية في النجف فهي:
مدرسة المقداد السيوري (السليمية): تعتبر هذه المدرسة إحدى أقدم مدارس النجف، وكانت تسمى بمدرسة المقداد السيروي نسبة إلى بانيها الأول الشيخ جمال الدين ابي عبد الله المقداد السيروي الاسدي الحلي المتوفى سنة 828هـ (1425م). وقد أعيد بناؤها سنة 1250هـ (1834م) من قبل سليم خان الشيرازي ونسبت إليه وسمّيت بعد ذلك بالمدرسة السليمية. وتقع في محلة المشراق احدى محلات (حارات) مدينة النجف مقابل مسجد الصاغة المعروف، وهي صغيرة الحجم لا تتجاوز مساحتها 100 متر مربع، وتحتوي على 10 غرف.
مدرسة الشيخ عبد الله: يعود تأريخ بناء هذه المدرسة إلى منتصف القرن العاشر الهجري وتعتبر من المدارس القديمة في المدينة. وعرفت بكونها احد أهم المعاهد العلمية، وتنسب إلى الشيخ عبد الله وهو ابن شهاب الدين اليزدي، وكان من كبار العلماء آنذاك. أما موقعها فقد كان في محلة المشراق.
المدرسة الغروية: تأسست في أوائل القرن الحادي عشر الهجري وقبل مدرسة الصحن الكبرى، ويعود بناؤها إلى عهد الشاه عباس الصفوي الاول. وكانت تقع في الجهة الشمالية من صحن الروضة الحيدرية. وفي اوائل القرن الرابع عشر الهجري تهدمت جدرانها فأعيد بناؤها من جديد من قبل السيد هاشم زيني وذلك سنة 1350هـ (1931م) وجعلها دار ضيافة ومنزلاً للزوار.
مدرسة الصحن الكبرى: وكانت هذه المدرسة جزءاً من صحن الروضة الحيدرية، وحين زار الشاه صفي الدين حفيد الشاه عباس الصفوي مدينة النجف سنة 1042هـ (1633م)، أمر بتوسيع صحن الروضة الحيدرية، حيث شيّدت غرف للدراسة تحيط بالصحن موزعة على طابقين تتقدمها الاواوين التي تعلوها الاقواس المدببة وزينت بالبلاط القاشاني الجميل. واعد الطابق الأرضي للدراسة أما الطابق الاول فقد خصص لسكن طلاب العلوم الدينية. ويشغل غرف هذه المدرسة اليوم مَن لهم ارتباط بخدمة زوار الروضة الحيدرية.
مدرسة الصدر: تقع هذه المدرسة في السوق الكبير وهو السوق الطويل المستقيم المتصل بصحن الروضة الحيدرية، وتعد من المدارس العلمية القديمة وتتكون من طابق واحد يحتوي على 30 غرفة، وهي واسعة وتبلغ مساحتها حوالي 900 متر مربع. شيّدها المحسن الكبير الصدر الأعظم نظام الدولة الحاج محمد حسين خان العلاف الاصفهاني وزير السلطان فتحعلي شاه القاجاري بعد اكمال بناء سور مدينة النجف السادس والأخير، وذلك سنة 1226هـ (1806م)، وقد اعيد ترميم هذه المدرسة من قبل الحاج الشيخ نصر الله الخلخالي.
مدرسة المعتمد أو مدرسة الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء: شيّدت هذه المدرسة من قبل العلاّمة الشيخ مهدي بن الشيخ علي آل كاشف الغطاء وبتمويل من معتمد الدولة (عباس قلي خان) وزير محمد شاه القاجاري المتوفى سنة 1249هـ (1833م). تقع هذه المدرسة في محلة العمارة وبجانبها من جهة القبلة مسجد الشيخ موسى، وفي جهة الشرق مراقد الشيخ الكبير جعفر صاحب كتاب ((كشف الغطاء)) وابنائه الاعلام. وتبلغ مساحتها حوالي 800 متر مربع. إن ساحة هذه المدرسة والمسجد والمراقد من موقوفات (أمان الله خان) وهو احد الأمراء الإيرانيين. وتتألف هذه المدرسة من 26 غرفة مع مكتبة وغرفة كبيرة للمطالعة.
المدرسة المهدية: تقع هذه المدرسة في محلة المشراق احدى حارات مدينة النجف مقابل مرقد العالم السيد محمد مهدي بحر العلوم وشيخ الطائفة الشيخ الطوسي، مجاورة لمدرسة (القوام). شيّدها الشيخ مهدي بن الشيخ علي بن الشيخ جعفر الكبير صاحب (كشف الغطاء) سنة 1284هـ (1867م)، كما شيّد مدرسة شبيهة بها في مدينة كربلاء المقدسة سميّت باسمه ايضاً. وتحتوي هذه المدرسة على 22 غرفة. وفي سنة 1365هـ (1946م) مالت إلى الانهدام فأعاد بناءها الشيخ محمد علي بن الشيخ عبد الكريم آل كاشف الغطاء.
مدرسة القوام: تقع هذه المدرسة في محلة المشراق مجاورة للمدرسة المهدية وتقابل مرقد الشيخ الطوسي والسيد بحر العلوم. وتُعرف ايضاً بالمدرسة الفتحية نسبة إلى بانيها (فتح علي خان الشيرازي) قوام الملك، وقد تمّ تشييدها سنة 1300هـ. وكانت تحتوي على 26 غرفة، وقد مالت إلى الانهدام ايضاً، فقام باعادة بنائها الشيخ نصر الله الخلخالي.
مدرسة الايرواني: تقع هذه المدرسة في محلة العمارة بجانب دار المرجع الكبير أبو الحسن الاصفهاني. وتتألف من طابقين وتحتوي على 19 غرفة، وفي الطرف الشمالي من المدرسة تقع مقبرة مؤسسها الحاج مهدي الايرواني، شيّدت سنة 1307هـ من قبل الشيخ ملا محمد الايراوني.
مدرسة الميرزا حسن الشيرازي: تقع هذه المدرسة بجانب ((باب الطوسي)) من أبواب صحن الروضة الحيدرية من جهة الشمال. شيّدت من قبل المرجع الكبير السيد ميرزا حسن الشيرازي الذي كان يقيم في مدينة سامراء وذلك سنة 1310هـ (1893م)، والمدرسة صغيرة الحجم ذات طابقين، يحتوي الطابق الأرضي على مرقد السيد الشيرازي, أما الطابق الأول فيحتوي على عدد من الغرف يسكنها طلبة العلوم الدينية.
مدرسة الحاج ميرزا حسين الخليلي الكبرى: تقع هذه المدرسة في بداية شارع السلام في محلة العمارة، وبجوار مرقد الشيخ خضر شلال. وتعرف عند عامة الناس بمدرسة القطب لأن مؤسسها الحاج ميرزا حسين الخليلي كان قد اشتراها من صاحبها السيد علي القطب. وكانت هذه المدرسة قيصرية في أيام القطب يشغل حوانيتها الخياطون وتتكون من طابقين وتتألف من 50 غرفة واجهاتها التي تطل على الصحن مزينة بزخارف قاشانية رائعة.
مدرسة البخاري: تقع هذه المدرسة في محلة الحويش بجانب مدرسة الآخوند الكبرى، شيّدت سنة 1319هـ (1901م) من قبل محمد يوسف البخاري وهو من أصحاب الوزير (خان ميرزا). وقد جدد بناؤها سنة 1380هـ (1960م) وتحتوي على 18 غرفة وهي على طراز معماري حديث.
مدرسة الشربياني: تقع في محلة الحويش في نهاية الشارع الذي تقع فيه مدرسة محمد كاظم اليزدي والمعروف سابقاً (بشارع الهنود). وتُعد من المدارس الشهيرة في مدينة النجف، شيّدت سنة 1320هـ من قبل الشيخ محمد الشربياني. وتتألف من طابق واحد وتحتوي على 20 غرفة.
مدرسة الخراساني الكبرى: تقع هذه المدرسة في محلة الحويش، وهي مدرسة واسعة وذات مكانة علمية مرموقة، وكانت تضم الكثير من أهل الفكر والعلم. وتحتوي على 48 غرفة موزعة على طابقين، وتحتوي على مكتبة عامرة بالكتب القيمة. شيّدت سنة 1321هـ (1903م) من قبل الوزير الكبير للسلطان عبد الأحد البخاري بأمر من الملا كاظم الخراساني المرجع الكبير في عصره.
مدرسة القزويني: تقع هذه المدرسة في محلة العمارة بالقرب من مسجد الهندي، شيّدت سنة 1324هـ (1906م) على ارض كانت قبل ذلك خاناً للمسافرين. أنفق على بنائها الحاج محمد آغا الأمين القزويني. وتحتوي على 33 غرفة موزعة على طابقين، وقد جدد بناؤها سنة 1384هـ (1964م) من قبل احد المحسنين من أهل الكويت.
مدرسة البادكوبي: تقع هذه المدرسة في محلة المشراق في شارع زين العابدين، وبجانبها مسجد كبير شيّده باني المدرسة الحاج علي نقي البادكوبي وذلك سنة 1325هـ (1907م). وتحتوي على 28 غرفة موزعة على طابقين، ويدرس فيها ويسكنها طلاّب من بخارى وأتراك من قفقاسية.
مدرسة الآخوند الوسطى: تقع هذه المدرسة في محلة البراق في شارع الصادق الحديث. وهي من المدارس العلمية المهمة في النجف وتحتوي على 36 غرفة موزعة على طابقين. وقد سميّت بالوسطى لأنها متوسطة المساحة بين المدرسة الكبرى والصغرى وهذه المدارس الثلاث للمرجع الكبير الملا اظم الخراساني. شيّدت سنة 1326هـ (1908م) وقام بتمويل البناء وزير السلطان البخاري عبد الأحد.
مدرسة السيد كاظم اليزدي: تقع هذه المدرسة في محلة الحويش، وتعد من الناحية المعمارية والجمالية إحدى اشهر المدارس العلمية في النجف وتحتوي على 80 غرفة موزعة على طابقين، وامام كل غرفة إيوان صغير يعلوه قوس مدبب الشكل واجهته مزينة بأروع الزخارف القاشانية. شيّدت من قبل الإمام المرجع السيد محمد كاظم اليزدي وذلك سنة 1327هـ (1909م).
مدرسة الهندي: تقع هذه المدرسة في محلة المشراق، شيّدت من قبل ناصر علي خان من الهند وذلك سنة 1328هـ (1910م) وخصصت للطلاب القادمين من الهند. وتحتوي على 22 غرفة موزعة على طابق واحد.
مدرسة السيد عبد الله الشيرازي: تقع هذه المدرسة في محلة الجديدة، شيّدت سنة 1372هـ (1953م) من قبل السيد عبد الله الشيرازي ومن تبرعات المحسنين من الإيرانيين. تحتوي على 24 غرفة موزعة على طابقين.
مدرسة البروجردي الكبرى: تقع هذه المدرسة في محلة البراق، شيّدت من قبل المرجع السيد حسين البروجردي سنة 1373هـ (1954م)، وكان المشرف على بنائها هو الشيخ نصر الله الخلخالي. وتتألف هذه المدرسة من ثلاث وابق تنتشر فيها 62 غرفة تحيط بالصحن وموزعة على الطوابق.
كلية الفقه: تُعد هذه الكلية من ابرز المعاهد العلمية العالية في مدينة النجف الأشرف، وتقع على طريق الكوفة – النجف، وقد أُجيز فتحها عام 1958م، ويقوم بمهمة التدريس فيها عدد من العلماء والاساتذة، وتمنح طلابها شهادة البكالوريوس بالإضافة إلى شهادة الماجستير في دراسة العلوم الدينية.
وتنتشر في أرجاء مدينة النجف الكثير من المدارس العلمية الاخرى منها: مدرسة الآخون الصغرى، والمدرسة الطاهرية، ومرسة البروجردي الصغيرة، ومدرسة العامليين، ومدرسة الخليلي الصغرى، ومدرسة الرحباوي، ومدرسة الجوهرجي، ومدرسة جامعة النجف الدينية، ومدرسة عبد العزيز البغدادي، ومدرسة الأفغانيين، ومدرسة اليزدي الثانية، ومدرسة الحكيم، ومدرسة الكلباسي، والمدرسة الرشدية العثمانية، والمدرسة العلوية، والمدرسة المرتضوية، ومدرسة الغري الأهلية، ومدارس منتدى النشر، وغيرها من المدارس العلمية الدينية القديمة والحديثة.
البيوت التراثية:
يتميز التخطيط العمراني لمدينة النجف الأشرف منذ نشوئها العام 170هـ (786م) بكثافة البيوت التي تمركزت بصورة رئيسية حول جامع ومرقد الإمام علي (عليه السلام)، ويعود ذلك إلى العلاقة الروحية التي تربط الناس بالجامع، وتزاد كثافة البيوت كلما اقتربت منه وتقل كلما ابتعدت عنه. ولذلك نلاحظ أن أكثر البيوت متلاصقة، أما الممرات والأزقة المؤدية إلى هذه البيوت فتكون في أكثر الأحيان ملتوية وذات أشكال متعرجة، وقد تنتهي بنهايات مسدودة لا مخارج لها. ومن الأسباب الموجبة لإتباع هذا التخطيط في ذلك الوقت – كما يبدو – عمق الروابط الاجتماعية والحفاظ على امن المدينة من علميات السطو والاعتداء وكذلك اتقاء البرد القارص والحر الشديد.
والبيوت النجفية تحمل صفات وخصائص البيوت العربية والإسلامية المنسجمة مع التقاليد الاجتماعية. وكما يقول جون وارن: ((تتميز حياة المسلمين التقليدية بالفصل التام بين حياتهم العامة والخاصة وكذلك بين الرجل والمرأة)).
وتحتوي البيوت التراثية في النجف على مجموعة من عناصر معمارية اساسية اهمها:
الساحة الداخلية المكشوفة (الحوش)
البيوت التراثية في النجف، شأنها شأن البيوت في المدن العراقية الاخرى، تتمزي بخصائص تخطيطية وانشائية ذات طابع معماري واحد يتمثل في احلال الساحة الداخلية المكشوفة التي يُطلق عليها بالعامية (الحوش) المكان الاول في التخطيط، وتأتي الغرف السكنية وبقية المرافق والمداخل والممرات لتأخذ مكانها حول تلك الساحة.
ومن الواضح تماماً انه تقليد بنائي عراقي قديم تعود بداياته إلى فترة العهد البابلي القديم (مطلع الألف الثاني قبل الميلاد) حيث عثر على بقايا دور سكنية في احد أحياء مدينة (أور) الأثرية في جنوب العراق. تظهر الساحة الوسطية المكشوفة في مقدمة العناصر التصميمية. وتعتبر هذه الساحة أيضا من اهم مميزات عمارة المساكن التراثية في البلدان الإسلامية.
وعلى رغم التأثيرات الواضحة التي تركتها تقاليد فنون العمارة الفارسية والتركية والهندية في البيوت النجفية. إلاَّ أن التخطيط الاساسي لها لم يصبه التغيير خلال عصور مختلفة، بل ظل محافظاً على طابعه التقليدي الذي يشبه إلى حد بعيد الطراز المعماري الحيري وهو الطراز المعماري السائد آنذاك. وتكاد هذه البيوت ان تكون شبيهة إلى حد كبير مع البيوت القديمة في مدن وسط العراق وجنوبه من جهة التصميم الهندسي ومواد البناء والزخارف.
ويختلف البيت النجفي في مساحته باختلاف المراتب الاجتماعية للناس، فتتكون البيوت عادة من ساحة مكشوفة تبدأ بمجالس الضيوف ومرافقها وتقع في مقدمة البيت وتعرف بـ (البراني) ثم تنتقل إلى الغرف المخصصة لأفراد العائلة والمرافق الملحقة بها وتحيط بالساحة المكشوفة ويطلق عليها (الدخلاني) ويتراوح شكل الساحة المكشوفة ما بين المربع والمستطيل.
وتعتبر الساحة الوسطية قاعة مكشوفة ومحجوبة عن الانظار في آن واحد، بالاضافة إلى الدور الذي تلعبه في توزيع الإضاءة الطبيعية للغرف المحيطة بها. وتطل الشبابيك الواسعة لهذه الغرف على الساحة الوسطية فتكون في هذه الحال واجهات لغرف الطابق الأول، وتتحقق عن طريقها الاضاءة والتهوية والطبيعيتان. ويتم عادة تبليط أرضية الساحة الداخلية المكشوفة بالطابوق (الآجر) المسطح المعروف بـ(الفرشي). وينعزل السكن عن الشارع أو الزقاق في مثل هذا التكوين الانشائي الذي يحقق ضمن مساحات قليلة مرافق كافية لسكن عائلي متعدد الأشخاص.
المجاز (المدخل المنكسر)
ومن الخصائص المميزة للبيوت التراثية في النجف وجود المدخل المنكسر المعروف بـ(المجاز) الذي يوصل المدخل أو (الباب) بالساحة الداخلية المكشوفة (الحوش). وهو ابتكار إسلامي ظهر للمرة الاولى في دار الإمارة في مدينة الكوفة العام 17 هـ (638م) وكذلك في بعض دور سامراء العباسية. وكان يستهدف غرضاً اجتماعياً بحتاً يتلازم والتقاليد الاسلامية، وهو عزل فضاء الساحة الداخلية المكشوفة عن الشارع او الزقاق، وكذلك ترطيب الهواء عبر اختراقه للمجاز.
الإيوان (الطارمة)
ومن العناصر الاساسية في تصميم البيت النجفي توفير ما يسمى بالايوان أو (الطارمة). وهو بناء له ثلاثة جدران وسقف ويكون مكشوفاً من واجهته الامامية المطلة على الصحن (الفناء المكشوف). ومن المرجح أو الاواوين عرفت في العراق منذ عصور قديمة في شمال مدينة الموصل، ثم ظهرت بعد ذلك في العصر الاسلامي، كدار الامارة في الكوفة وقصر الشعيبة قرب البصرة وقصر المنصور في بغداد وبيوت قصر الاخيضر الشهير الذي يعود بناؤه إلى بداية العصر العباسي ويقع بالقرب من كربلاء. وتُستعمل الطارمة في الطابوق الارضي للنوم صيفاً في حالة عدم وجود السرداب، وكذلك لتناول وجبات الطعام وشرب الشاي.
الخصائص الإنشائية
ومن الخصائص التي امتاز بها البيت النجفي بصورة عامة ارتفاع سقف غرف الطابق الاول بحيث لا يتجاوز اربعة أمتار. وهناك مميزات إنشائية اخرى منها كثرة الشبابيك في الطابق الاول وارتفاعها خصوصاً في الواجهات التي تطل على الأزقة والشوارع. وكذلك الرفوف (الروازين) المتعددة من الداخل لتخفيف سماكة الجدار والاستفادة منها كخزانات او لاستعمالات اخرى. وارتفاع الغرف في الطابق الاول يحقق في بعض الأحيان وجود طابق وسطي توجد فيه غرف صغيرة تستعمل للخزن. وأمام غرف الطابق الأول ممر يطل على الفناء المكشوف يتقدمه حاجز من الخشب او الحديد ذو زخارف جميلة وبارتفاع متر واحد تقريباً يطلق عليه المحجر أو (الدرابزين). واستعملت في البيوت النجفية مواد بناء خفيفة في تسقيف الطابق الاول كالخشب والقَوَغ (جذوع شجر الحور) وخشب جذوع النخيل وحصران القصب (البواري) وغيرها، وذلك للتغلب على مشاكل الثقل في كتل البناء. اما ارتفاع الطابق الأرضي فيكون عادة اقل من الطابق الأول، ويتميز ايضاً بنوافذه التي تكون في الغالب فوق مستوى النظر وهي تطل على الأزقة والشوارع.
السرداب
ويتميز البيت النجفي بوجود مكان للراحة والاستقرار يطلق عليه السرداب وهو اصطلاح فارسي مؤلف من مقطعين (سرد) أي بارد، و(آب) أي ماء، وتقضي فيه العائلة ساعات طويلة في ايام الصيف الحارة. ويتصف بجردانه السميكة وانخفاض مستوى أرضيته عن مستوى ارضية البيت، وقد يصل انخفاضه في بعض الأحيان إلى عشرين متراً مما يساعد في حمايته من الحرارة الشديدة في فصل الصيف.
ومن الظواهر المألوفة في البيوت النجفية ان بعض السراديب فيها يتصل ببعضها الآخر، وجاء ذلك نتيجة الروابط الأسرية العميقة بين أبناء المدينة. وفي بعض البيوت يوجد اكثر من سرداب واحد. وتجري تهوية السرداب بواسطة فتحات صغيرة جانبية تكون عادة في مستوى ارضية الساحة الداخلية المكشوفة، وكذلك من باب مدخل السرداب والدرات (السلالم) المؤدية إليه. وهناك مجار عمودية للتهوية عبارة عن فتحات داخل الجدار وفوهتها في أعلى السطح تنقل الهواء من الأعلى عبر هذه الفتحات إلى مستوى منخفض في أرضية السرداب فيساعد الماء الذي يرش على أرضية السرداب بترطيب الهواء الخارجي الجاف الآتي من السطح عبر هذه الفتحات، وتسمى هذه الفتحات او المجاري العمودية بالملقف الهوائي، ويطلق عليه محلياً (البادكَير) وهي كلمة فارسية مؤلفة من مقطعين (باد) أي هاء، و(كَير) أي جالب او ساحب. وفي اكثر الاحيان يتم بناء السرداب من عقود وقباب مبنية من الطابوق (الآجر) والجص، أما الارضية فتبلط عادةً بالآجر المسطح (الطابوق الفرشي) وهي تحتفظ بالرطوبة والبرودة عن طريق رشها بالماء باستمرار. وفي الشتاء تستعمل السراديب مخزناً لحفظ الحبوب والغلال وبعض الحاجيات المنزلية الأخرى.
المساند الخشبية (الدلكَـ):
وتستعمل في البيوت النجفية أعمدة الخشب التي تسند الممرات في الطابق الأول، وفي بعض الأحيان تسند الطارمات والغرف في الطابق الأول ايضاً وتنتهي هذه الاعمدة بتاج مقرنص متدرج يساعد في تقليل مقطع الجسر الخشبي الذي يعلو عدداً من هذه الاعمدة.
مواد البناء المحلية
ومن أهم المواد الاولية المصنعة محلياً والمستعملة في بناء البيوت النجفية الطابوق الطيني المفخور (الآجر) الذي يعتبر العنصر الرئيسي في البناء، وذلك لوفرة مادته الاولية ولسهولة صناعته وكذلك استخدامه في البناء وقلة تكلفته. ويمتاز ايضاً بمقاومة جيدة وقدرة كبيرة على عزل الحرارة والصوت.
أما عملية تماسك الطابوق (الآجر)، فتعتمد بالدرجة الأولى على مادة محلية أخرى هي الجص، ولهذه المادة ميزات خاصة لها اثر كبير في عمليات البناء، كونها تمتلك قالية على الجفاف بسرعة فائقة بعد انتهاء البناء مباشرة.
وساعدت هذه المواصفات في بناء القباب والأقبية والعقود (الاقواس) من دون الحاجة إلى استعمال القوالب الخشبية. واستمل في أسس بناء البيوت التراثية في النجف مخلوط مسحوق النورة والرماد كمانع للرطوبة، وتستعمل في الاساسات (كِسَر) من الطابوق (الآجر) الخضراوي المصخرج. ومن المواد الاخرى المستعملة القير (القار الاسود) كمانع للرطوبة في تغليف جدران الأسس وأحواض المياه وبعض مجاري التصريف، وكذلك فرشه على السطوح قبل تبليطها لمنع تسرب المياه والرطوبة إلى الطوابق السفلية.
الاكساءات والزخارف
تستعمل مادتا الجبص والبورق في الاكساءات الداخلية في تبييض الجدران لاعطائها وجهاً مصقولاً يستغنى به عن اللبخ (البلاستر) ودهان الجدران.
ولم تقتصر الزخارف الهندسية والبنائية في البيوت النجفية على الآجر والجبص، بل شملت الاعمال الخشبية في البناء، واظهر النجارون براعة في الدقة والمهارة في الاعمال الخشبية للأبواب والمشبكات والنوافذ الزجاجية التي تطل على الساحة الداخلية المكشوفة، والمزينة بنقوش جميلة رائعة ومطعمة بقطع صغيرة من الزجاج الملون، ويمكن فتح قسم من هذه الشبابيك لدخول الضوء والهواء إلى الغرفة.
ومن الظواهر المألوفة في البيوت النجفية التراثية ما يعرف بالشناشيل (المشربيات) وهي الشرفات البارزة عن مستوى البناء في غرف الطابق الاول، إذ يكون بناء هذه الشرفة من الخشب وتكون ذات زخارف رائعة بدلاً من الآجر والحديد للتغلب على مشاكل الثقل في توسعة البناء، وكذلك مساعدة الخشب في تحقيق برودة الجو الداخلي للغرفة، وتوفير مظلة طويلة يحتمي بها المشاة من شمس الصيف وأمطار الشتاء.
ومن الظواهر المألوفة الأخرى في البيوت النجفية ما يعرف بالأرسي (الشبابيك الخشبية المزخرفة) التي تفتح وتغلق برفعها إلى الاعلى والاسفل. وتتخلل الأُرسي احياناً الابجورات وهي شبابيك صغيرة شبيهة بالأبواب تغطيها مقاطع من الخشب الماثل المشبك لدخول الهواء وحجب النور.
————————————————————————————
المصادر والمراجع
1- موسوعة العتبات المقدسة – قسم النجف: جعفر الخليلي.
2- ماضي النجف وحاضرها: الشيخ جعفر محبوبة.
3- أعيان الشيعة: السيد محسن الأمين.
4- أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث: مستر ستيفن لونكَريك.
5- كَلشن خلفا: مرتضى نظمي زاده.
6- تاريخ الطبري (تاريخ الرسل والملوك): لابن جرير.
7- بحار الأنوار: محمد باقر المجلسي.
8- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك: لأبن الجوزي.
9- دائرة المعارف الاسلامية: أي. جي. برل.
10- مروج الذهب: للمسعودي.
11- نزهة أهل الحرمين في عمارة المشهدين: السيد حسن الصدر.
12- الكامل في التاريخ: ابن الأثير.
13- دليل العتبات المقدسة في لواء كربلاء – سنة 1967م.
14- مجلة سومر: عن المؤسسة العامة للآثار في العراق.
15- المساجد: الشيخ طه الولي.
16- معجم البلدان: ياقوت الحموي.
17- العوامل التاريخية لنشأة وتطور المدن العربية الاسلامية: مصطفى عباس الموسوي.
18- دائرة المعارف الإسلامية الشيعية: حسن الأمين.
19- صحيفة الحياة في لندن، الأعداد: 11622، 12458، 12784: د. رؤوف محمد علي الأنصاري.
20 المعجم الذهبي/ فارسي – عربي: محمد التونجي.
21- معجم اللغة العامية البغدادية: جلال الحنفي.
22- مجلة أور لعام 1983م عن المركز الثقافي العراقي في لندن – البيوت البغدادية: مستر جون وارن.
23- رحلة ابن بطوطة: لابن بطوطة – شرح طلال حرب.
24- رحلة بيدرو تكسيرا: للرحالة البرتغالي بيدرو تكسيرا.
25- مشهد الإمام علي في النجف وما به من الهدايا والنحف: د. سعاد ماهر محمد.