أرض النجف التاريخ والتراث الجيولوجي والثروات الطبيعية القسم – 1 –
أرض النجف
التاريخ والتراث الجيولوجي والثروات الطبيعية
(القسم الأول)
الشهيد الدكتور موسى جعفر العطية
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
في تاريخ العراق على امتداد حضاراته القديمة والحديثة تبرز محافظة النجف من بين محافظات العراق مميزة بثراء سجلها الحضاري الذي خلدته مدن شاخصة من بين مدنها كالحيرة التي أنشأت عام 274ق.م عاصمة لدولة المناذرة اللخمينين ومدينة الكوفة التي أنشأت عام 17 هجرية (638م) وأصبحت عاصمة للدولة الإسلامية عام 36 هجرية (644م) في زمن خلافة أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(ع) والذي استشهد فيها وتشرفت بتوسد جسده الطاهر تربة النجف التي كانت ولازالت حاضرة للعلم ومنتدى الأدب، اتسع محيط إشعاعها المقتبس من أنوار شخصية من توسدته تربتها، ذلك هو باب مدينة العلم كما وصفه نبينا الأكرم محمد(ص) حتى أصبحت هذه المدينة وعلى امتداد تاريخها الحيدري المدينة الكبيرة بين المدن الكبرى في قدسيتها الدينية وخصوصيتها العلمية والأدبية والسياسية ومواقفها النضالية الوطنية والعربية والإسلامية فضلاً عن تميز دورها الحضاري بكل معانيه العلمية والأدبية والسياسية عن بقية مدن المحافظة ونواحيها بل عن بقية مدن العراق لتصبح حاضرة من حواضر العالم الإسلامي.
لقد كتب الكثير عن مدينة النجف الأشرف من كتب ودراسات تناولت ماضيها وحاضرها في مختلف الجوانب وقد آثرت أن أكتب عنها وعن توابعها من مدن وقصبات التي تشكل الحدود الإدارية لمحافظة النجف توثيقاً جديداً يضاف إلى أرشيف الكتب التي كتبت عنها أتناول فيه أرض هذه المدينة ورقعة محافظاتها من زوايا علم الأرض (الجيولوجيا) ومباحثه المختلفة وقد وجدت في ذلك فرصة منحها لي الكتاب والباحثين الذي لم يتناولوا هذا الجانب من قبل في كتبهم التي صدرت حول هذه المدينة وما يحيط بها من أرض التي اتخذت منها محافظة النجف أسماً لها.
وأخيراً كما بدأت باسم الله فاتحة لهذه المقدمة أختمها بالحمد على توفيه بإنجازه سبحانه الذي لا يحصي نعمه العادون كما يعبر إمام البلغاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) في تسبيحاته بحمد الله وشكره.
والله الموفق.
الدكتور موسى جعفر العطية
رمضان المبارك 1426هـ/ تشرين الثاني 2005م
مفاهيم جيولوجية:
في هذه الفقرة نستعرض معاني ومضامين بعض المصطلحات والمفاهيم الجيولوجية التي سوف ترد في الفصول القادمة خلال عرض الأطر والخصائص الجيولوجية لمحافظة النجف بغية استفادة غير المتخصصين في علوم الأرض من استيعاب مضامينها لمتابعة هذه الرحلة الجيولوجية في أرض محافظة النجف ولذلك نستعرض المفاهيم التالية:
مقياس الزمن الجيولوجي:
مقياس الزمن الجيولوجي هو تسلسل العصور (من الأقدم حتى الأحدث) التي مرت على نشوء صخور القشرة الأرضية ويقاس زمن تلك العصور بملايين السنين ولها مسمياتها الخاصة ويقسم مقياس الزمن الجيولوجي إلى دهور (Era) وعصور (Period) وحقب (Epoch) ومراحل (Stage).
التكوين (Formation):
التكوين في المفهوم الجيولوجي وبتعريف مبسط هو وحدة صخرية متميزة عن الوحدات الصخرية التي تعلوها أو التي تسفلها بخصائص معينة مثل طبيعة المكونات وبيئة الترسيب وزمن النشوء وأن فكرة مفهوم التكوين مستندة على متطلبات تصنيف الطبقات الصخرية للقشرة الأرضية وهي وسيلة تستهدف دراسة ومضاهات الطبقات الصخرية من موقع لآخر وبعبارة أخرى أن (التكوين) هو الوحدة البنائية لسجل طبقات القشرة الأرضية مثله في ذلك مثل تسلسل محتويات الكتاب الذي يتكون من أجزاء وفصول وأقسام وفقرات.
المتحجرات (Fossils):
وهي حيوانات ونباتات عاشت في الزمن السحيق في بيئتها الخاصة ثم طمرت بعد موتها وحفظت هياكلها كاملة أو جزء منها في الرسوبيات التي تصلبت وأصبحت ضمن مكونات الصخور في منظور الزمن الجيولوجي ويؤرخ تاريخ حياة تلك الحيوانات عمر الصخور التي حفظت فيها بعد موتها.
يسمى العلم الذي يتناول دراسة المتحجرات أو الأحافير أو المستحثات بعلم المتحجرات (paleontology) وهو أحد العلوم المتفرعة من علم الأرض أيضاً.
الوضع البنيوي (Tectonic Setting):
ما يقصد بالوضع البنيوي لإقليم أو منطقة معينة هو حالة تأثر صخور القشرة الأرضية لتلك المنطقة أو الإقليم بالحركات الأرضية خلال زمن معين وما ينتج عنها من زحف للطبقات ونشوء تراكيب (Structures) جيولوجية مثل الفوالق (faults) والطيات (folds) وكذلك نشوء الجبال وسلاسلها التي تتكون نتيجة تصادم الكتل الأرضية الزاحفة عكسياً وكذلك انفصال أجزاء من القشرة الأرضية وتباعدها نتيجة الزحف التباعدي ونشوء القارات والجزر ويسمى العلم الذي يبحث في تراكيب الأرض ومظاهرها بعلم الجيولوجيا التركيبية (Structural geology).
التجويه والتعرية (Weathering and Erosion):
ما يقصد بالتجويه (Weathering) هو تكسر أو تفتت الصخور وتحلل مكوناتها بتأثير بعض عوامل الطبيعة مثل الحرارة والرطوبة ومياه الأمطار والأنهار أو تراكم الجليد أو بتأثير الفعاليات الحياتية للنباتات.
إن نواتج تجوية الصخور بفعل تلك العوامل تبقى مكيثة في موقع الصخور أو قريبة منها ولكن عندما تنتقل تلك النواتج بفعل عوامل للنقل مثل الرياح والمياه والجليد فإن العملية تعرف في هذه الحالة بالتعرية (Erosion) أي أن التعرية هي تجوية الصخور ونقل نواتج التجوية إلى موقع آخر لتشكل مواداً لرسوبيات جديدة.
العملية الترسيبية (Sedimentary Processes):
إن نواتج عمليات التجوية والمتمثلة بفتاتيات الصخور والمعان المحمولة بواسطة المياه والرياح والعناصر والمركبات الذائبة المحمولة أيضاً بوساطة المياه لابد أن تستقر (تترسب) في نهاية المطاف في مواقع أخرى بعيدة عن موقع الصخور المجواة ويؤدي ذلك إلى ترسيبه على شكل ترسبات تتماسك مع مرور الزمن مكونة صخور جديدة تعرف بالصخور الرسوبية وهي على عدة أنواع مثل صخور المدلمكات والصخور الرملية والطينية والمارلية والجيرية
الترسبات المعدنية (Mineral Deposits):
الترسبات المعدنية هي تجمعات معادن الخامات أو المعادن والصخور الصناعية التي تشغل حيزاً في القشرة الأرضية وتشكل مصدراً للمواد الأولية المختلفة لمختلف المتطلبات الصناعية.
تتكون الترسبات المعدنية حصيلة لفعاليات وأنشطة جيولوجية تعرضت لها القشرة الأرضية ضمن منظور الزمن الجيولوجي.
جغرافية محافظة النجف
محافظة النجف من محافظات العراق الثمانية عشر يعود تاريخ تشكيلها الإداري كمحافظة عام 1974م عندما أعيد التشكيل الإداري لمحافظات العراق وتحتل التسلسل السابع بينها من ناحية المساحة التي تبلغ 28824 كيلو متر مربع وهي تقع وسط العراق وتعتبر من محافظات منطقة الفرات الأوسط وتحيط بها محافظتي كربلاء وبابل من الشمال ومحافظتي القادسية والمثنى من الشرق ومحافظة الأنبار من الغرب والحدود الدولية مع المملكة العربية السعودية من الجنوب وبذلك تعتبر محافظة النجف أيضاً من محافظات البادية الجنوبية إضافة إلى كونها من محافظات الفرات الأوسط كما أسلفنا وامتدادات رقعتها محددة بخطوط الطول والعرض التالية:
خطوط الطول
شرقاً 00 48 44
غرباً 00 47 42
خطوط العرض
شمالاً 00 20 32
جنوباً 00 51 29
الاستيطان السكاني في محافظة النجف محصور في الأجزاء الشمالية من رقعة المحافظة أما بقية مناطق المحافظة فهي صحراء قاحلة من الكلأ والملأ.
تتمثل مراكز الاستيطان في ثلاث مدن رئيسية في الحيرة والكوفة والنجف الأشرف وفق التسلسل التاريخي لنشوئها فضلاً عن بعض النواحي والقصبات الأخرى كناحية القادسة
تعتبر مدينة النجف الأشرف مركز المحافظة وأكبر مدنها وتقع في أقصى شمال رقعة المحافظة مطلة على البادية من طرفها الجنوبي لذلك سميت بحاضرة البادية إضافة إلى مسمياتها الأخرى مثل الغري نسبة إلى الغريان(1) الذي بناهما في النجف أحد ملوك الحيرة وكوفان التي ذكرها النبي محمد(ص) في حديثه إلى الإمام علي(ع) حينما قال له والمشهد نسبة إلى مشهد الإمام علي(ع) وكذلك وادي السلام وخد العذراء وغيرها.
ومدينة النجف الأشرف غنية عن التعريف بتاريخها الحيدري وقدسيتها ومكانتها العلمية والأدبية في العالمين العربي والإسلامي منذ استيطانها وتأسيس الحوزة العلمية الشريفة منذ أكثر من أحد عشر قرناً من الزمن.
من أهم المدن الأخرى في المحافظة مدينة الكوفة عاصمة الدولة الإسلامية في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) ومن المدن الرئيسية في الدولة الإسلامية منذ صدارة نشوئها مدينة العلم والنحو والسياسة وتشتهر بمسجدها (مسجد الكوفة) وهو رابع المساجد الأربعة في الإسلام استشهد فيه الإمام علي(ع) وكان بيت النبي نوح(ع) عندما رست سفينته على الجودي كما تفيد الروايات من أخبار آل البيت(ع).
تقع الكوفة على نهر الفرات وتبعد عن النجف عشرة كيلومترات وتقع إلى شمالها الشرقي ومن الناحية الجغرافية فهي مترابطة مع النجف التي كانت تسمى بظهر الكوفة أو نجف الكوفة أو كوفان.
اسم الكوفة ربما هو ترجمة لكلمة عاقولا والتي تعني حلقة أو دائرة بالسريانية أما في اللغة العربية الكوفة تعني الاستدارة أو حبة الرمل المدورة ويقال تكوف أي تجمع واستدار.
مدينة الكوفة كانت عامرة حتى القرن الثامن الهجري ثم توالى عليها التدهور والخراب وهجرها أهلها وأصبحت مقفرة ثم عاد إليها العمران وأصبحت قرية صغيرة عام 1863 ثم ناحية تابعة لقضاء النجف عام 1882 وفي عام 1884 سميت بناحية التاجية والكوفة وأعيدت إلى وضعها السابق عام 1891 واستمرت كذلك حتى عام 1962 وأصبحت قضاء يتبع إلى محافظة كربلاء ثم ألحقت بمحافظة النجف عام 1974.
المدينة الثالثة من مدن محافظة النجف هي الحيرة وتسمى المناذرة وتقع إلى الجنوب الغربي من مدينة النجف وتبعد عنها بمسافة ثمانية عشر كيلومتراً ومن عمق التاريخ امتدت نشأتها عام 274ق.م عاصمة لدولة المناذرة اللخميين دولة الخورنق والسدير وهي إمارة عربية كانت تدين بالنصرانية تحالفت مع الفرس كما تحالفت إمارة الغساسنة في بادية الشام مع الروم في خضم الصراعات بين الروم والفرس قبل ظهور الإسلام.
مدينة الحيرة التي تعني في اللغة الآرامية مضارب الخيم كان لها أثر كبير في الجزيرة العربية في التجارة والوساطة للتقريب بين الفرس والعرب وقد حكم الحيرة العديد من الملوك كان أولهم عمرو بن عدي وآخرهم المنذر بن النعمان واستمر حكم ملك هذه الإمارة أربعة قرون وعلى رواية أخرى ستة قرون.
المدينة الرابعة من مدن المحافظة مدينة القادسية التي تقع على نهر الفرات إلى جنوب من مدينة المشخاب وقد خلدها التاريخ بمعركة القادسية من معارك المسلمين المشهورة التي انتصروا فيها على الفرس عام 14 هجرية وهكذا نجد ثراء محافظة النجف في مدنها وبالرغم من قلة عددها إلا أن لكل منها سفراً تاريخياً خاصاً متواصلاً مع بعضه على امتداد فترات التاريخ الإسلامي ولولا حرصنا على الالتزام بتمهيد مقتضب لموضوع الكتاب لأسهبنا في عرض تاريخ هذه المحافظة المستمد من تاريخ مدنها وهو أمر أغنانا عنه العديد من الكتاب والباحثين.
من المدن والقصبات الأخرى ضمن التنظيم الإداري لمحافظة النجف مدن المشخاب والحرية والحيدرية وكذلك الشبجة التي تقع في أقصى الطرف الجنوبي الغربي للمحافظ وهي قريبة من الحدود مع المملكة العربية السعودية وفيما عدا هذه القصبة فإن جميع مدن المحافظة التي أشرنا إليها تتجمع في الطرف الشمالي للمحافظة ضمن الشريط الفيضي لنهر الفرات.
تتصل مدن محافظة النجف ونواحيها بشبكة من الطرق المعبدة فيما عدا طريق صحراوي غير مبلط يربط مدينة النجف الأشرف بالحدود العراقية السعودية والذي يعرف بطريق الحج البري وهو طريق قديم جداً كانت تسلكه قوافل الحجيج من العراق إلى مكة المكرمة يمر بقصبات الحبة والشبجة ثم يدخل الحدود السعودية عن طريق مدينة رفح وكان يعرف هذا الطريق بطريق زبيدة الذي سنفرد له فقرة خاصة في الفصل الثالث من الكتاب.
يبلغ عدد سكان محافظة النجف وفق الإحصاء العام المستند على إحصاءات وزارتي التجارة والتخطيط عام 2003 حوالي 946251 وبذلك يبلغ ترتيب محافظة النجف أحد عشر بين محافظات القطر من ناحية عدد السكان ويتجمع معظم سكان محافظة النجف في مدينة النجف الأشرف.
التضاريس الأرضية لسطح محافظة النجف منبسطة في معظم أرجائها ويشكل جزءاً منه امتدادات السهل الرسوبي للعراق والجزء الآخر وهو الجزء الأكبر يعتبر من امتدادات الصحراء الجنوبية للعراق كما تبرز في محافظة النجف ظاهرة التهضب متمثلة في هضبة النجف التي تشكل الجزء الأكبر من هضبة كربلاء ـ النجف ويبلغ ارتفاع هضبة النجف حوالي 130 متراً من سطح البحر وحوالي 40 متراً من مستوى نهر الفرات عند مروره في مدنية الكوفة.
تطل هضبة النجف من طرفها الغربي على منخفض كبير يسمى (بحر النجف) ويعتبر من المظاهر الجيولوجية الرئيسة في المحافظة وفي منطقة الفرات الأوسط وكانت تمخره السفن في الماضي قادمة من الخليج العربي وهي تحمل تجارة الصين والهند كما تشير الروايات التاريخية وسوف نتطرق بإسهاب إلى أصل نشوء هذا البحر في الفصل الثالث من هذا الكتاب.
يوجد في محافظة النجف عدد من الأهوار أهمها هور أبو نجم الذي يفصل محافظة النجف عن محافظة بابل كما توجد بعض الأهوار منتشرة على الحافات الجنوبية لبحر النجف مثل هور الجبسة والصليبات.
من مظاهر التضاريس الأخرى في محافظة النجف الوديان التي تنحدر غرباً من الأراضي السعودية ويبلغ أطوالها مئات الكيلومترات وأهمها وادي (شعب) حسب ووادي الخر ووادي الجل وأبو طلحة والحويمي وتسيل مياه هذه الوديان في فصل الشتاء ويصب معظم مياهها في بحر النجف.
مناخ النجف صحراوي حار صيفاً وبارد شتاءً وتبلغ معدلات درجة الحرارة في الصيف حوالي 35 درجة مئوية في شهر تموز من السنة كما تبلغ أدنى معدلاتها حوالي 10 درجات مئوية في شهر كانون الثاني وذلك بالاستناد على معدلات معطيات سجلات الأنواء الجوية للفترة من عام 1980 لغاية 1993 أما بالنسبة للأمطار فإن معدلات سقوطها واطئة في فصل الشتاء شأنها في ذلك شأن طبيعة المناخ الصحراوي حيث تبلغ معدلها حوالي 20ملم في السنة.
الفصل الثاني التاريخ الجيولوجي لمحافظة النجف
مقدمة:
التاريخ الجيولوجي ضمن مفهوم علم الأرض هو سجل العمليات والأنشطة الجيولوجية لسطح الكرة الأرضية منذ بداية نشوء هذا السطح وحتى الوقت الحاضر ضمن أماد زمنية طويلة جداً تقاس بملايين السنين وإن هذا السجل التاريخي قد وثقته الطبيعة أدق توثيق في صخور قشرة الأرض وفي مظاهر وظواهر سطحها وتركت للإنسان مهمة قراءته وفك رموزه بما يمتلك من معارف ووسائل توصله إلى هذه الغاية.
لقد استقرأ الجيولوجيون التاريخ الجيولوجي للعراق ووضعوا خرائط لجغرافيته القديمة بالاستناد على معطيات المسوحات والدراسات الجيولوجية المختلفة التي أجريت في العراق خلال أكثر من ستة عقود من الزمن وهي موثقة في كتاب جيولوجية العراق الذي أصدرته الشركة العامة للمسح الجيولوجي والتعدين عام 1980م.
بالنسبة للتاريخ الجيولوجي لمحافظة النجف فإن هذا الموضوع نتناوله في هذا الفصل من زاويتين:
ـ الوضع الطباقي ضن امتدادات رقعة المحافظة.
ـ الجغرافية القديمة لموقع المحافظة ضمن الإطار العام للجغرافية القديمة للعراق.
الوضع الطباقي لسطح محافظة النجف:
ما نقصده بالوضع الطباقي لسطح محافظة النجف هو عائدية التكاوين الجيولوجية للصخور المتكشفة ضمن تسلسل العمود الطباقي لجيولوجية العراق التي تظهره الخارطة الجيولوجية الإقليمية لمحافظة النجف والتي يلاحظ فيها أن الصخور المتكشفة على سطح محافظة النجف تعود إلى عدة تكاوين جيولوجية تمتد أعمارها من حقبة الباليوسين (قبل 65 مليون سنة) وحتى حقبة الهولوسين (100 ألف سنة).
تكوين أم رضمة:
وهو أقدم تكوين جيولوجي منكشف على السطح في محافظة النجف ويعود عمره إلى 65 مليون سنة وهو من حقبة الباليوسين (Paleocene) التي تعود إلى العصر الثلاث (الباليوجين) وتمتد تكشفاته من الحدود العراقية السعودية وتغطي مناطق الصفاوي، جال الباطن، اللبثثين، والمعاينة وتنتهي إلى منطقة الواكصة… يعود اسم التكوين (أم الرمضة) إلى اسم موقع في السعودية حفر فيه بئر ظهرت فيه صخور هذا التكوين واعتبر المقطع الموقعي النوعي (Type Locality) لصخوره التي لها امتدادات واسعة في الصحراء الغربية والصحراء الجنوبية للعراق.
يتكون من صخرو رسوبية جيرية دولوماتية ومارلية وأحياناً متسلكنة في بعض أجزائه العليا وتتبدل أحياناً إلى طبيعة صوانية (Cherty) كما تتغير سحناته في الأجزاء العلوية أيضاً إلى صخور جيرية انهايدرايتية.
تحتوي صخور التكوين الكثير من المتحجرات لحيوانات بحرية دقيقة ترسبت في بيئة بحرية ضحلة ولاغونية (حوضية مغلقة).
من السحنات المهمة لصخور هذا التكوين هي سحنات الصخور الفوسفاتية التي تم فرزها مؤخراً تكويناً مستقلاً أطلق عليه اسم تكوين عكاشات الذي تظهر صخوره في مناطق عكاشات (شمال غرب الرطبة) حيث تستخرج منها خامات الفوسفات من منجم عكاشات ولا يوجد تكشفات لهذه السحنات في مناطق محافظة النجف أما السحنات الأخرى لتكوين أم رضمة والممتدة في محافظة النجف فهي ذات محتوى قليل من الفوسفات.
يغطي تكوين (أم رضمة) بصورة توافقية تكوين الطيارات من العصر الطباشيري الأعلى الذي لا تظهر له تكشفات سطحية في مناطق محافظة النجف، أما الحدود الطباقية العليا لهذا التكوين فهي مع تكوين الجل وهي حدود غير توافقية. تكشفات صخور هذا التكوين محصورة في الأجزاء الجنوبية لحدود محافظة النجف كما موضح في الخارطة الجيولوجية لمحافظة النجف.
تكوين الجل:
وهو التكوين الآخر في العمود الطباقي لمناطق محافظة النجف ويعود إلى حقبة الأيوسين المبكر (L. Eocene) والذي ترسب قبل 53 مليون سنة (أحدث عمراً من تكوين أم رمضة) وان مناطق امتداداته المتكشفة محدودة في العراق وتقع معظمها في محافظة النجف وبالتحديد في مناطق الجل وشرف والشبجة والكبريتية وتمتد تكشفاته حتى اللصف.
إن تسمية هذا التكوين (الجل) من المسميات الحديثة في العمود الطباقي للعراق وإن مقطعه النوعي في منطقة الجل وبالتحديد في منطقة آبار الجل المحفورة يدوياً لأغراض المياه قرب (طار واكصة) وقبل ذلك كانت تصنف صخور هذا التكوين ضمن الجزء الأسف لتكوين الدمام وقد اعتمدت تسميته عام 1997 لأغراض المسوحات الجيولوجية وهو يتكون من صخور جيرية طباشيرية وصخور المارل الذي يحتوي على عقد من البلورات الخشنة لمعدن الكلسايت. يتراوح سمك التكوين بين 88 إلى 60 متراً ويغطي بصورة غير توافقية تكوين (أم رضمة) حيث تنتشر على سطح تماسهما حبيبات فوسفاتية وإن البيئة الترسيبية لتكوين الجل هي البيئة البحرية الضحلة التي تعيش فيها الحيوانات البحرية من نوع النيوميلايت وتزداد الضحالة باتجاه الشرق حيث تزداد الملوحة للمياه البحرية وتتداخل سحناته مع تكوين الرس (Rus) الذي يتكون من صخور المتبخرات (انهايدرايت) حيث تغطي امتداداته مناطق غرب الفرات وهو يعتبر التكوين المكافئ لتكوين الجل وتكشفات صخور هذا التكوين محصور في الأجزاء الجنوبية والغربية لحدود محافظة النجف.
تكوين الدمام:
وهو التكوين الأوسع تكشفاً في امتداداته على سطح رقعة محافظة النجف كما يلاحظ ذلك في الخارطة الجيولوجية. تغطي تكشفات صخور هذا التكوين وسط وشرق المحافظة مناطق رحيماوي، شعيب حسب، شعيب أبو طلحة، شعيب الحويمة وهو من التكاوين المعروفة في مناطق الصحراء الغربية والجنوبية في العراق والدول المجاورة حيث تغطي تكشفاته مناطق واسعة في كل من سوريا والأردن والسعودية. تعود تسمية تكوين الدمام إلى قبة الدمام النفطية في السعودية ويعود عمر التكوين إلى حقبة الأيوسين الأوسط (M. Eocene) وإن سطح تماسه السفلي مع تكوين الجل غير توافقي وكذلك مع سطح تماسه العلوي مع تكوين الفرات فهو غير توافقي أيضاً.
يتكون تكوين الدمام من صخور جيرية وطباشيرية في قسم منها وكذلك من صخور جيرية دولوماتية ومارل وطفل وتشكيلة صخور هذا التكوين مترسبة في بيئة بحرية ضحلة وتحتوي على متحجرات معروفة من نوع النيوملايت وكما هو الحال بالنسبة لتكوين أم رضمة فإن امتدادات تكشفات تكوين الدمام واسعة في العراق والدول المجاورة له أيضاً وخاصة السعودية والأردن والكويت.
تكوين الفرات:
يعود تكوين الفرات إلى حقبة المايوسين الأسفل الأوسط (L/M.Miocene) وهو من أقدم التكاوين التي وثقت في الدراسات الجيولوجية للعراق. تظهر تكشفات تكوين الفرات في أجزاء محدودة على السطح في محافظة النجف وعلى شكل شريط بموازاة نهر الفرات كما هو موضح في الخارطة الجيولوجية للمحافظة وتتكون قاعدته من صخور جيرية معادة التبلور ومدملكة (conglomertic limestone) إضافة إلى صخور جيرية طباشيرية تحتوي على أصداف لحيوانات بحرية وكذلك تتكون من صخور جيرية متسلكنة ومارل ومارل رملي.
يغطي هذا التكوين بصورة غير توافقية تكوين الدمام ولكن سطح تماسه العلوي مع تكوين النفايل فهو توافقي.
تكوين النفايل:
وهو من التكاوين المستحدثة في العمود الطباقي للعراق ويعود لعصر المايوسين الأوسط (M. Miocene) واعتبر سابقاً ضمن تكوين الفرات ثم ضمن تكوين الفتحة وأخيراً سمي بتكوين النفايل نسبة إلى موقع غارة النفايل قرب مدينة حديثة وقد اعتبرت تكشفاته فيها المقطع النوعي لهذا التكوين. يتكون تكوين النفايل من صخور المارل الخضراء وصخور غرينية ورملية رمادية وقهوائية اللون وتظهر تكشفاته في مناطق محدودة في محافظة النجف تقع إلى الجنوب من طار النجف ووادي الخر ويغطي التكوين توافقياً سطح تكوين الفرات وإن البيئة الترسبية لهذا التكوين هي بيئة بحرية ضحلة إلى ضحلة جداً عالية الملوحة.
تكوين أنجانة:
وهو أيضاً من التكاوين الجيولوجية المستحدثة التسمية في سياق مراجعة مسميات بعض التكاوين الجيولوجية في العمود الطباقي للعراق حيث كان يعرف سابقاً بتكوين الفارس الأعلى وهو يعود إلى حقبتي المايوسين الأعلى (U. Miocene) والبلايوسين (Pliocene) وتظهر تكشفاته في مناطق عديدة من العراق من بينها مناطق في محافظة النجف وبالتحديد تظهر مكاشفه في (طار النجف) ويتألف من عدسات لصخور رملية وغرينية وطينية ذات ألوان مختلفة بنية وخضراء ويتألف كذلك من صخور جيرية التي تحتوي على أصداف بحرية وتفصل أيضاً الطبقات قشرة نحيفة من الجسم أو الهالايت اللذان يملآن الشقوق العمودية، سماكات صخور التكوين ويبلغ السمك الظاهر لتكوين أنجانة في طار النجف حوالي 27 متر ويقل باتجاه الجنوب الشرقي حيث يبلغ 9 متر.
يغطي تكوين أنجانة في محافظة النجف تكوين الفتحة لا تظهر مكاشفة في المنطقة، البيئة الترسبية لرسوبيات تكوين أنجانة هي بيئة نهرية والبحرية (Fluviolacustrine) وبذلك يمثل هذا التكوين مرحلة الانتقال من البيئة البحرية التي ترسبت فيها رسوبيات تكوين الفتحة إلى البيئة القارية التي ترسبت فيها رسوبيات تكوين أنجانة.
تكوين الزهرة:
تظهر تتكشفات هذا التكوين في مناطق متفرقة من محافظة النجف وفي الجزء الجنوبي الغربي منها في مناطق المعانية والبثثين والشبجة ووادي الخر ويعود عمر هذا التكوين إلى عصر البلايوسين (Pliocene) ويتكون من تتابعات من صخور جيرية وصخور فتاتية (طينية ورملية) في الأسفل ويبلغ سمك التكوين 31 متراً في موقع مقطعه المثالي في فيضة الزهرة (جنوب السماوة) وصخور هذا التكوين مترسبة في بيئة مياه عذبة. يغطي هذا التكوين بصورة توافقية سطح أنجانة.
تكوين الدبدبة:
تغطي تكشفات تكوين الدبدبة في العراق منطقتين: الأولى تشكل أجزاء من محافظتي البصرة وذي قار وتمتد جنوباً إلى الأراضي السعودية والكويت، أما منطقة التكشف الثانية لتكوين الدبدبة فهي في هضبة النجف كربلاء والذي يتبين أن هنالك مناطق شاسعة تفصل بين مناطق التكشفين المذكورين وهو ما يثير التساؤل حول طبيعة الظروف الجيولوجية التي أدت إلى ذلك وهو ظاهرة تتطلب البحث والدراسة.
يعود عمر تكوين الدبدبة إلى الفترة الممتدة من عصر المايوسين الأعلى وحتى عصر البلايستوسين وهو يغطي لا توافقياً تكوين الفتحة في المناطق الجنوبية للعراق في حين يغطي توافقياً تكوين أنجانة في مناطق هضبة النجف. يتكون تكوين الدبدبة في هضبة النجف كما في المناطق الجنوبية من العراق من خليط من الرمال والحصى بحجوم مختلفة ويتكون الحصى من أنواع مختلفة ن الصخور النارية والمتحولة والرسوبية (رملية وجيرية) وهي مشتقة من تعرية صخور الدرع العربي في شبه الجزيرة العربية حيث انتقلت بواسطة الأنهار والوديان لتستقر حمولتها الرسوبية على هيئة مراوح (Fans) التي تعرف بترسبات الدلتا وهي ترسبات نهرية فيضية.
يبلغ سمك تكوين الدبدبة الظاهر في منطقة هضبة النجف حوالي 13 متر في الجزء الشمالي الغربي منها ويقل باتجاه الجنوب الشرقي ليصل إلى مترين وهو يتكون من صخور رملية حصوية صلبة تتماسك حبيباتها بملاط كاربوني وأحياناً يتكون من رمال هشة بيضاء إلى بنية اللون تحتوي على حصى أيضاً كما يلاحظ وجود كرات طينية ضمن الرمال على سطح تماسه مع تكوين أنجانة في الجزء الشمالي الغربي يتضمن التكوين طبقات رملية متصلبة متعاقبة مع طبقات غرينية وطبقات نحيفة من الجسم أو الانهايدرايت.
يعتبر تكوين الدبدبة من التكاوين المهمة في محافظة النجف من الناحية الاقتصادية حيث يعتبر مصدراً مهماً من مصادر الرمال لأغراض الإنشاءات أو لأغراض صناعي حيث يمكن استخدامه في صناعة الزجاج بعد إجراء بعض التحسينات عليه كما أن أهميته تمتد إلى الخصوصية الحضرية لمدينة النجف الأشرف المتمثلة ببناء السراديب كنمط للمعيشة يتلائم مع طبيعة المناخ الصحراوي الحال السائد في المنطقة فضلاً عن جوانب حضرية أخرى سوف نتناولها في الفصل القادم.
الترسبات الحديثة:
الترسبات الحديثة (Recent) والتي تعود إلى العصر الرباعي (Quaternary) تغطي امتداداتها عدة مناطق في محافظة النجف, وأن هذه الترسبات الذي يعود عمرها إلى 1.75 مليون سنة على عدة أنواع وفق تقسيمات الخارطة الجيولوجية الإقليمية للعراق وهذه الأنواع هي: الترسبات الفيضية (Fluvial sediments) والسباخ (Sabakha) والكثبان الرملية (Sanddunes) والترسبات الريحية (Eoline sediments) وفيما يلي عرضاً لأنواع الترسبات الحديثة السائدة في محافظة النجف:
1. الترسبات الريحية: وهي على نوعين الكثبان الرملية والألواح الرملية وتنتشر الترسبات جنوب هضبة النجف وبموازاة نهر الفرات والكثبان الرملية من نوع البرخان (Burchan) وفق تصنيفات الكثبان الرمتية وهي بأحجام وارتفاعات مختلفة وتنتشر عليها علامات تسمى بالنيم (Ripple Marks) أما الألواح الرملية فيتراوح سمكها بين عشرة إلى خمسين سنتمتراً وتنتشر في مناطق مختلفة من هضبة النجف.
2. ترسبات السبخة: وهي ترسبات طينية مغطاة بطبقة ملحية تكونت نتيجة عمليات تبخر المياه المالحة وتوجد هذه الترسبات في المواقع المنخفضة التي يتجمع فيها مياه البزل أو مياه العيون وكذلك في مناطق بحر النجف حيث تزداد ملوحة المياه بفعل عدم الموازنة بين معدلات التبخر وتجديد التغذية.
3. الترب الجبسية: الترب الجبسية في محافظة النجف تنتشر بصورة رئيسة في مناطق من هضبة النجف وهي عبارة عن رمال هشة تحتوي على نسبة من الجبس الثانوي النشأة.
الوضع الطباقي تحت السطحي لمحافظة النجف:
في الفقرة السابقة استعرضنا الوضع الطباقي للتكاوين المتكشفة على السطح في مناطق محافظة النجف وتناولنا فيها امتدادات تكشفها الموضحة في الخارطة الجيولوجية الإقليمية لمحافظة النجف, وأشرنا إلى أن طباقية التكاوين الجيولوجية المتكشفة تمتد من الحقبة المبكرة للعصر الثلاثي إلى حقبة الباليوسين ولكن ماذا عن الوضع الطباقي للتكاوين الجيولوجية تحت السطحية على امتدادات رقعة محافظة النجف والتي يقصد بها تتابع التكاوين الجيولوجية غير المتكشفة على السطح أو الطباقية تحت السطحية.
إن الوضع الطباقي تحت السطحي في محافظة النجف يمكن تحديده من معطيات البئر كفل ـ1 الذي تم حفره من منطقة الكفل لأغراض الاستكشافات النفطية ويقع على طريق كربلاء ـ نجف ويبلغ عمق البئر 846.2 متر واخترق عدد من التكاوين الجيولوجية حتى تكوين شرانش الذي يعود للعصر الطباشيري الأعلى , مع الأخذ بنظر الاعتبار أنه هنالك مئات الآبار المحفورة في مناطق محافظة النجف لأغراض مختلفة لكن بئر كفل ـ1 أعمق بئر محفور في المحافظة لحد الآن أما بقية الآبار فإن مدى اختراقاتها لم يتجاوز 150 متراً وبذلك اخترقت جزء من تكوين الدمام.
ملاحظة: يبدو أن تكوين أنجانة (الفارس الأعلى) قد تم دمجه مع تكوين الدبدبة بدلالة السمك الظاهر للوحدة الطباقية الأولى (93 متر) والذي يمثل سمك تكوين الدبدبة وأنجانة وكذلك غطاء التربة وفق المعطيات الطباقية لهضبة النجف (النجف).
الوضع البنيوي والتركيبي لمحافظة النجف:
ما يقصد بالوضع البنيوي (Tectonic Setting) وبتعبير مبسط هو تأثير الحركات الأرضية على سطح الكرة الأرضية التي سادت خلال فترات متعاقبة من التاريخ الجيولوجي لسطح الأرض وأدت إلى نشوء الجبال والبحار وتوزيع مناطق اليابسة والمياه (البحار) على سطح الأرض وما يترتب على تأثيراتها من عمليات جيولوجية بنائية لقشرة الأرض تتطور مع تطور تلك الحركات في الزمن الجيولوجي.
أما الوضع التركيبي (Structural Setting) فيقصد به المظاهر والأشكال التركيبية السائدة في المنطقة والناتجة من تأثير الحركات البنيوية كنشوء الطيات (Folds) والفوالق (Faults) والفواصل (Joints) المختلفة.
الوضع البنيوي للعراق وتاريخ تطوره والتوصل إلى إطاره التفصيل من معطيات المسوحات الجيولوجية والجيوفيزيائية وأعدت على أساس ذلك خرائط إقليمية بنيوية وتركيبية إقليمية توضح الأنطقة البنيوية والتراكيب الرئيسة السائدة وعلى أساس تلك الخرائط فإن الوضع البنيوي والتركيبي لمحافظة النجف والذي يشكل جزء من الإطار البنيوي والتركيبي العام للعراق يمكن أن نوجزه كما يلي:
تقع محافظة النجف ضمن تقسيمات الأنطقة البنيوية للعراق في الرصيف المستقر (Stable Shalf) وبالتحديد ضمن نطاقي السلمان ـ الحضر ونطاق المعاينة ـ الرطبة وتقع معظم امتدادات رقعة محافظة النجف وفق التقسيمات البنيوية المذكورة ضمن حزام السلمان ـ الحضر بينما تندرج هضبة النجف ضمن حزام النجف ـ أبو الجير ـ الحضر والذي يشكل منطقة انتقالية بين الرصيف المستقر والرصيف غير المستقر (نطاق ما بين النهرين أو نطاق السهل الرسوبي) أما نطاق المعانية ـ الرطبة فإنه يغطي جزء محدود من الطرف الجنوبي لرقعة امتداد المحافظة بين منطقة المعانية وجال الباطن كما هو موضح في الشكل رقم (5) الذي يمثل الخارطة البنيوية والتركيبية الإقليمية لمحافظة النجف.
إن عمق صخور معقد القاعدة على امتداد رقعة محافظة النجف فإنه يعتبر ضحل نسبياً ويتراوح بين 3 إلى 5 كيلومتر ويتكون من صخور الغرانيت والصخور المتحولة وفق معطيات المسوحات المغناطيسية الإقليمية الجوية للعراق الذي أنجز عام 1974.
الوضع التركيبي الجيولوجي لمحافظة النجف فإنه يتمثل بمجموعة من الفوالق والطيات التي نشأت وتطورت مع التطور البنيوي للمنطقة وهنالك نظامين رئيسيين للفوالق الرئيسية سائدين في مناطق محافظة النجف وكما هو موضح في الشكل رقم (5).
1. النظام الأول: يعرف بفالق هيت ـ أبو الجير ويتكون من مجموعة من الفوالق مترابطة تشكل نظاماً من الفوالق يمتد بموازاة نهر الفرات (شمال غرب ـ جنوب شرقي) وتتغير تسمية هذه المجموعة من الفوالق من هيت ـ أبو جير إلى فالق الفرات وذلك عندما تصبح مجموعة الفوالق فالقاً واحداً وذلك في جنوب النجف في المنطقة الواقعة بين مدينتي الديوانية والسماوة.
إن عمر نشوء هذه الفوالق قديم يمتد إلى العصر ما قبل الكامبري وقد أثر على صخور القاعدة واستمر تأثيره منذ ذلك العصر حتى عصر الحياة الحديثة. أوضحت المعطيات الجيوفيزيائية أن الإزاحة العمودية (الهابطة) لمجموعة فوالق هيت ـ أبو الجير هي باتجاه شرق مضرب الفوالق وأن الإزاحة العمودية الصاعدة (المرتفعة) هي باتجاه الغرب وتطورت بامتداداتها بعض التراكيب الجيولوجية (طيات محدبة).
2. النظام الثنائي: وهو مجموعة من الفوالق المستعرضة باتجاه شمال شرق ـ جنوب غرب ذات امتداداتها طويلة تقطع مجموعة فوالق هيت ـ أبو جير ولها مسميات هي:
فالق رحيماوي ـ الحلة، فالق بدرة ـ النجف ـ الشبجة وفالق بعقوبة ـ كربلاء.
أن عمر نشوء الفوالق المستعرضة وفق التفسيرات الجيوفيزيائية يمتد إلى العصر الطباشيري وحتى العصر الحديث وامتد تأثيره على صخور الغطاء الرسوبي وبذلك فهي أحدث عمراً من فوالق النظام الأول ويتضح ذلك جلياً من الخارطة البنيوية لمحافظة النجف (شكل رقم 5). ترتب على الوضع التركيبي المذكور نشوء عيون مائية مرتبطة بمواقع الفوالق المذكورة وسوف نتناول مواضعها وهيدروكيميائياتها في الفصل الخامس.
الجغرافية القديمة لسطح محافظة النجف:
يقصد بالجغرافية القديمة (Paleogeography) ضمن المفهوم الجيولوجي لأية منطقة هو توزيع اليابسة والبحار وحدود السواحل في تلك المنطقة ضمن عصر معين من العصور الجيولوجية التي سادت في تلك المنطقة وقد يختلف الوضع الجغرافي للمناطق باختلاف العصور الجيولوجية التي سادت في تلك المنطقة وقد يختلف الوضع الجغرافي للمناطق باختلاف العصور الجيولوجية نتيجة لاختلاف أو تطور الحركات البنيوية (Tectonic) أو التركيبية التي تشهدها تلك المناطق والتي تؤدي إلى تقدم أو انحسار سواحل البحار أو تهضب وهطول الكتل الصخرية التي تشكل المنطقة.
الجغرافية القديمة للأقاليم والمناطق من المواضيع التي تستدرج الاهتمام الجيولوجي لما لها من تطبيقات عملية في تقييم مكامن الترسبات المعدنية والنفطية فضلاً عن جوهرها العلمي الذي يرتبط بتاريخ دراسات الأرض وتطور نشؤها وفي هذه الفقرة نتساءل في هذه الفقرة كيف كانت جغرافية سطح محافظة النجف في العصور الجيولوجية المتعاقبة التي مرت على رقعة محافظة النجف ضمن المفهوم البسيط للجغرافية القديمة الذي أشرنا لقد وضعت خرائط للجغرافية القديمة لسطح العراق عبر العصور الجيولوجية المختلف وقد استند في وضع تلك الخرائط على ما هو متوفر من معطيات جيولوجية سطحية وتحت سطحية (حفر الآبار) التي أفرزتها عمليات المسوحات الجيولوجية للعراق من مصادرها المختلفة (مسوحات جيولوجية ومعدنية واستكشافات نفطية).
إن تناول موضوع الجغرافية القديمة لسطح محافظة النجف عبر العصور الجيولوجية ينحصر ضمن إطار طباقية التكاوين الجيولوجية المتكشفة على السطح في محافظة النجف الممتدة إنجازها من بداية العصر الثلاثي وحتى العصر الرباعي والتي تطرقنا إليها في الفقرة الأولى من هذا الفصل وسوف نعرض الوضع الجغرافي القديم لرقعة امتدادات محافظة النجف وفق تسلسل الحقب الجيولوجية للتكاوين المتكشفة التي تشكل الإطار الطباقي السطحي لمحافظة النجف.
إن الحركات الأرضية القوية المعروفة بالحركات اللارمايدية (Laramide orogenic movements) التي تعرضت لها القشرة الأرضية في الحقب المتأخرة (Maastrichtian-Paleocene) من العصر الطباشيري (Cretaceous) أثرت أيضاً على العراق وترتب عليها نشوء وضع جديد لجغرافية العراق في نهاية العصر الطباشيري وبداية العصر الثلاثي. الجغرافية القديمة لمحافظة النجف في بداية العصر الثلاثي وتطورها حتى العصر الحديث يمكن عرضها كما يلي على أساس ما توصل إليه من دراسات مختلفة حول جيولوجية العراق.
في حقبة الباليوسين وهي الحقبة التي ابتدأ فيها العصر الثلاثي كان البحر يغطي معظم مناطق العراق وكانت سواحل ذلك البحر الكبير تقع في الجزء الغربي من العراق وتمتد جنوباً داخل الأراضي السعودية وكانت مناطق محافطة النجف تشكل جزءاً من رصيف (Platform) بحري شاطئ (Neritic) وعلى امتدادات ذلك البحر ترسبت الصخور الجيرية لتكوين أم رضمة وفي الطور الأول من مرحلة الترسيب كانت المنطقة جزءاً من بحيرة شاطئية (Lagoonal) وقد انفتحت هذه البحيرة في نهاية حقبة الباليوسين وأدى استمرارية الترسيب إلى نشوء حيد (Shoal) كبير (وهو عبارة عن شعاب عضوية) في الأطراف الشمالية لسواحل البحر مع حيد صغير في أطرافه الغربية ومع تقدم الترسيب في الحقبة اللاحقة (الأيوسين) بدأ البحر ينحسر من سواحله الغربية ولكن بقيت مناطق محافظة النجف مغطاة بمياه البحر التي ازدادت ضحالتها بالمقارنة مع العصر السابق وشكلت جزء من رصيفه بحيرة شاطئية شبه مغلقة تحيط بها الشعاب العضوية (الحيد) الغزيرة بالمتحجرات من نوع (النيوميلات) واستمر البحر بالانحسار في نهاية حقبة الأيوسين نتيجة استمرار الحركات الأرضية المتعاقبة والتي أدت إلى نهوض (UPLIFT) المنطقة مما أدى إلى انقطاع الترسيب في مناطق غرب الفرات وذلك في حقبة الأليغوسين عاد بعدها البحر ليتقدم نحو الغرب ويغطي مناطق من غرب الفرات من بينها مناطق محافظة النجف التي شكلت جزءاً من الرصيف الداخلي (inner shelf) للبحر وبدلالة ترسيب تشكيلة الصخور الجيرية لتكوين الفرات الذي يعود لحقبة المايوسين الأسفل/ الأوسط.
كانت بعض مناطق النجف في حقبة المايوسين الأسفل ـ الأوسط أيضاً جزء من منطقة تداخل بحري ـ نهري ممثلة بترسيب صخور تكوين الغار ذات السحنة الفتاتية الجيرية ومع تقدم الزمن تطورت منطقة الرصيف الداخلي للبحر لتصبح لتصبح بحيرة شاطئية شبه مغلقة حتى انغلقت في الحقبة المايوسين الأوسط المتأخر حيث ترسبت صخور تكوين الفتحة واستمر تطورها لتصبح بحيرية (Lacustrine) في نهايات حقبة المايوسين حيث ترسبت صخور تكوين أنجانة.
وفي نهاية عصر المايوسين وبداية العصر اللاحق (البلايوسين) أي قبل 5.3 مليون سنة تطور نهوض الأرض وانحسر البحر عن معظم مناطق العراق ومن بينها مناطق الصحراء الغربية والجنوبية ومناطق محافظة النجف وأصبحت الأرض يابسة تشقها شبكات من الأنهار والوديان التي تغذيها مياه وفيرة مصدرها ذوبان الجليد في الفترات المتعاقبة للعصور الجليدية التي امتدت بشكل مؤكد إلى المناطق الشمالية للعراق وفق دراسة (رايت) الجيولوجي الألماني الذي استطاع أن يجمع مؤشرات جيولوجية رصينة حول تأثر المناطق الشمالية للعراق بالعصور الجليدية كما كانت تغذي تلك الوديان والأنهار مياه متدفقة من المناطق المرتفعة في الأراضي السعودية والتي كانت تنقل منها كميات كبيرة جداً من الرسوبيات الفتاتية مثل الحصى والرمال والأطيان ترسبت في نهاية حقبة البلايوسين وبداية البلايستوسين على شكل صخور فتاتية تعود إلى تكاوين الدبدبة التي تغطي مناطق هضبة النجف ـ كربلاء وما حولها وفي حقبة البلايستوسين تكون خلالها نهر الفرات ومن ثم نشأ بحر النجف وهضبة النجف والتي سوف نعرض تفاصيلها في فقرات لاحقة من الفصل الثالث.
نشوء بحر النجف.
————————————————————————————
(1) الغريان بنائان كالصومعتين بظاهر الكوفة بناهما المنذر بن امرئ القيس بن ماء السماء وكان سبب بنائهما أن كان له نديمان من بني أسد ثملا وفي معجم البلدان الغري الذي يطلى به والغري الحسن من كل شيء ويقال غري الوجه إذا كان حسناً مليحاً والغري حجر ينصب وينصب ويذبح عليه حتى يحمر بالدم فراجعا الملك في بعض كلامه فأمر وهو سكران أن يحفر لهما حفيرتان ودفنهما وهما حيين فلما أصبح استدعاهما فأخبر بالذي أمضاه فيهما فغمه ذلك وقصد حفيرتهما وأمر ببناء صومعتين وقال المنذر ما أنا بملك إذا خالف الناس أمري لا يمر أحد من وفود العرب إلا بينهما وجعل لهما في السنة يوم بؤس ويوم نعيم يذبح في يوم بؤسه كل من يلقاه ويغري بدمعه الصومعتين.