أرض النجف
التاريخ والتراث الجيولوجي والثروات الطبيعية
(القسم الأول)
الشهيد الدكتور موسى جعفر العطية
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
في تاريخ العراق على امتداد حضاراته القديمة والحديثة تبرز محافظة النجف من بين محافظات العراق مميزة بثراء سجلها الحضاري الذي خلدته مدن شاخصة من بين مدنها كالحيرة التي أنشأت عام 274ق.م عاصمة لدولة المناذرة اللخمينين ومدينة الكوفة التي أنشأت عام 17 هجرية (638م) وأصبحت عاصمة للدولة الإسلامية عام 36 هجرية (644م) في زمن خلافة أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(ع) والذي استشهد فيها وتشرفت بتوسد جسده الطاهر تربة النجف التي كانت ولازالت حاضرة للعلم ومنتدى الأدب، اتسع محيط إشعاعها المقتبس من أنوار شخصية من توسدته تربتها، ذلك هو باب مدينة العلم كما وصفه نبينا الأكرم محمد(ص) حتى أصبحت هذه المدينة وعلى امتداد تاريخها الحيدري المدينة الكبيرة بين المدن الكبرى في قدسيتها الدينية وخصوصيتها العلمية والأدبية والسياسية ومواقفها النضالية الوطنية والعربية والإسلامية فضلاً عن تميز دورها الحضاري بكل معانيه العلمية والأدبية والسياسية عن بقية مدن المحافظة ونواحيها بل عن بقية مدن العراق لتصبح حاضرة من حواضر العالم الإسلامي.
لقد كتب الكثير عن مدينة النجف الأشرف من كتب ودراسات تناولت ماضيها وحاضرها في مختلف الجوانب وقد آثرت أن أكتب عنها وعن توابعها من مدن وقصبات التي تشكل الحدود الإدارية لمحافظة النجف توثيقاً جديداً يضاف إلى أرشيف الكتب التي كتبت عنها أتناول فيه أرض هذه المدينة ورقعة محافظاتها من زوايا علم الأرض (الجيولوجيا) ومباحثه المختلفة وقد وجدت في ذلك فرصة منحها لي الكتاب والباحثين الذي لم يتناولوا هذا الجانب من قبل في كتبهم التي صدرت حول هذه المدينة وما يحيط بها من أرض التي اتخذت منها محافظة النجف أسماً لها.
وأخيراً كما بدأت باسم الله فاتحة لهذه المقدمة أختمها بالحمد على توفيه بإنجازه سبحانه الذي لا يحصي نعمه العادون كما يعبر إمام البلغاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) في تسبيحاته بحمد الله وشكره.
والله الموفق.
الدكتور موسى جعفر العطية
رمضان المبارك 1426هـ/ تشرين الثاني 2005م
مفاهيم جيولوجية:
في هذه الفقرة نستعرض معاني ومضامين بعض المصطلحات والمفاهيم الجيولوجية التي سوف ترد في الفصول القادمة خلال عرض الأطر والخصائص الجيولوجية لمحافظة النجف بغية استفادة غير المتخصصين في علوم الأرض من استيعاب مضامينها لمتابعة هذه الرحلة الجيولوجية في أرض محافظة النجف ولذلك نستعرض المفاهيم التالية:
مقياس الزمن الجيولوجي:
مقياس الزمن الجيولوجي هو تسلسل العصور (من الأقدم حتى الأحدث) التي مرت على نشوء صخور القشرة الأرضية ويقاس زمن تلك العصور بملايين السنين ولها مسمياتها الخاصة ويقسم مقياس الزمن الجيولوجي إلى دهور (Era) وعصور (Period) وحقب (Epoch) ومراحل (Stage).
التكوين (Formation):
التكوين في المفهوم الجيولوجي وبتعريف مبسط هو وحدة صخرية متميزة عن الوحدات الصخرية التي تعلوها أو التي تسفلها بخصائص معينة مثل طبيعة المكونات وبيئة الترسيب وزمن النشوء وأن فكرة مفهوم التكوين مستندة على متطلبات تصنيف الطبقات الصخرية للقشرة الأرضية وهي وسيلة تستهدف دراسة ومضاهات الطبقات الصخرية من موقع لآخر وبعبارة أخرى أن (التكوين) هو الوحدة البنائية لسجل طبقات القشرة الأرضية مثله في ذلك مثل تسلسل محتويات الكتاب الذي يتكون من أجزاء وفصول وأقسام وفقرات.
المتحجرات (Fossils):
وهي حيوانات ونباتات عاشت في الزمن السحيق في بيئتها الخاصة ثم طمرت بعد موتها وحفظت هياكلها كاملة أو جزء منها في الرسوبيات التي تصلبت وأصبحت ضمن مكونات الصخور في منظور الزمن الجيولوجي ويؤرخ تاريخ حياة تلك الحيوانات عمر الصخور التي حفظت فيها بعد موتها.
يسمى العلم الذي يتناول دراسة المتحجرات أو الأحافير أو المستحثات بعلم المتحجرات (paleontology) وهو أحد العلوم المتفرعة من علم الأرض أيضاً.
الوضع البنيوي (Tectonic Setting):
ما يقصد بالوضع البنيوي لإقليم أو منطقة معينة هو حالة تأثر صخور القشرة الأرضية لتلك المنطقة أو الإقليم بالحركات الأرضية خلال زمن معين وما ينتج عنها من زحف للطبقات ونشوء تراكيب (Structures) جيولوجية مثل الفوالق (faults) والطيات (folds) وكذلك نشوء الجبال وسلاسلها التي تتكون نتيجة تصادم الكتل الأرضية الزاحفة عكسياً وكذلك انفصال أجزاء من القشرة الأرضية وتباعدها نتيجة الزحف التباعدي ونشوء القارات والجزر ويسمى العلم الذي يبحث في تراكيب الأرض ومظاهرها بعلم الجيولوجيا التركيبية (Structural geology).
التجويه والتعرية (Weathering and Erosion):
ما يقصد بالتجويه (Weathering) هو تكسر أو تفتت الصخور وتحلل مكوناتها بتأثير بعض عوامل الطبيعة مثل الحرارة والرطوبة ومياه الأمطار والأنهار أو تراكم الجليد أو بتأثير الفعاليات الحياتية للنباتات.
إن نواتج تجوية الصخور بفعل تلك العوامل تبقى مكيثة في موقع الصخور أو قريبة منها ولكن عندما تنتقل تلك النواتج بفعل عوامل للنقل مثل الرياح والمياه والجليد فإن العملية تعرف في هذه الحالة بالتعرية (Erosion) أي أن التعرية هي تجوية الصخور ونقل نواتج التجوية إلى موقع آخر لتشكل مواداً لرسوبيات جديدة.
العملية الترسيبية (Sedimentary Processes):
إن نواتج عمليات التجوية والمتمثلة بفتاتيات الصخور والمعان المحمولة بواسطة المياه والرياح والعناصر والمركبات الذائبة المحمولة أيضاً بوساطة المياه لابد أن تستقر (تترسب) في نهاية المطاف في مواقع أخرى بعيدة عن موقع الصخور المجواة ويؤدي ذلك إلى ترسيبه على شكل ترسبات تتماسك مع مرور الزمن مكونة صخور جديدة تعرف بالصخور الرسوبية وهي على عدة أنواع مثل صخور المدلمكات والصخور الرملية والطينية والمارلية والجيرية
الترسبات المعدنية (Mineral Deposits):
الترسبات المعدنية هي تجمعات معادن الخامات أو المعادن والصخور الصناعية التي تشغل حيزاً في القشرة الأرضية وتشكل مصدراً للمواد الأولية المختلفة لمختلف المتطلبات الصناعية.
تتكون الترسبات المعدنية حصيلة لفعاليات وأنشطة جيولوجية تعرضت لها القشرة الأرضية ضمن منظور الزمن الجيولوجي.
جغرافية محافظة النجف
محافظة النجف من محافظات العراق الثمانية عشر يعود تاريخ تشكيلها الإداري كمحافظة عام 1974م عندما أعيد التشكيل الإداري لمحافظات العراق وتحتل التسلسل السابع بينها من ناحية المساحة التي تبلغ 28824 كيلو متر مربع وهي تقع وسط العراق وتعتبر من محافظات منطقة الفرات الأوسط وتحيط بها محافظتي كربلاء وبابل من الشمال ومحافظتي القادسية والمثنى من الشرق ومحافظة الأنبار من الغرب والحدود الدولية مع المملكة العربية السعودية من الجنوب وبذلك تعتبر محافظة النجف أيضاً من محافظات البادية الجنوبية إضافة إلى كونها من محافظات الفرات الأوسط كما أسلفنا وامتدادات رقعتها محددة بخطوط الطول والعرض التالية:
خطوط الطول
شرقاً 00 48 44
غرباً 00 47 42
خطوط العرض
شمالاً 00 20 32
جنوباً 00 51 29
الاستيطان السكاني في محافظة النجف محصور في الأجزاء الشمالية من رقعة المحافظة أما بقية مناطق المحافظة فهي صحراء قاحلة من الكلأ والملأ.
تتمثل مراكز الاستيطان في ثلاث مدن رئيسية في الحيرة والكوفة والنجف الأشرف وفق التسلسل التاريخي لنشوئها فضلاً عن بعض النواحي والقصبات الأخرى كناحية القادسة
تعتبر مدينة النجف الأشرف مركز المحافظة وأكبر مدنها وتقع في أقصى شمال رقعة المحافظة مطلة على البادية من طرفها الجنوبي لذلك سميت بحاضرة البادية إضافة إلى مسمياتها الأخرى مثل الغري نسبة إلى الغريان(1)
الذي بناهما في النجف أحد ملوك الحيرة وكوفان التي ذكرها النبي محمد(ص) في حديثه إلى الإمام علي(ع) حينما قال له والمشهد نسبة إلى مشهد الإمام علي(ع) وكذلك وادي السلام وخد العذراء وغيرها.
ومدينة النجف الأشرف غنية عن التعريف بتاريخها الحيدري وقدسيتها ومكانتها العلمية والأدبية في العالمين العربي والإسلامي منذ استيطانها وتأسيس الحوزة العلمية الشريفة منذ أكثر من أحد عشر قرناً من الزمن.
من أهم المدن الأخرى في المحافظة مدينة الكوفة عاصمة الدولة الإسلامية في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) ومن المدن الرئيسية في الدولة الإسلامية منذ صدارة نشوئها مدينة العلم والنحو والسياسة وتشتهر بمسجدها (مسجد الكوفة) وهو رابع المساجد الأربعة في الإسلام استشهد فيه الإمام علي(ع) وكان بيت النبي نوح(ع) عندما رست سفينته على الجودي كما تفيد الروايات من أخبار آل البيت(ع).
تقع الكوفة على نهر الفرات وتبعد عن النجف عشرة كيلومترات وتقع إلى شمالها الشرقي ومن الناحية الجغرافية فهي مترابطة مع النجف التي كانت تسمى بظهر الكوفة أو نجف الكوفة أو كوفان.
اسم الكوفة ربما هو ترجمة لكلمة عاقولا والتي تعني حلقة أو دائرة بالسريانية أما في اللغة العربية الكوفة تعني الاستدارة أو حبة الرمل المدورة ويقال تكوف أي تجمع واستدار.
مدينة الكوفة كانت عامرة حتى القرن الثامن الهجري ثم توالى عليها التدهور والخراب وهجرها أهلها وأصبحت مقفرة ثم عاد إليها العمران وأصبحت قرية صغيرة عام 1863 ثم ناحية تابعة لقضاء النجف عام 1882 وفي عام 1884 سميت بناحية التاجية والكوفة وأعيدت إلى وضعها السابق عام 1891 واستمرت كذلك حتى عام 1962 وأصبحت قضاء يتبع إلى محافظة كربلاء ثم ألحقت بمحافظة النجف عام 1974.
المدينة الثالثة من مدن محافظة النجف هي الحيرة وتسمى المناذرة وتقع إلى الجنوب الغربي من مدينة النجف وتبعد عنها بمسافة ثمانية عشر كيلومتراً ومن عمق التاريخ امتدت نشأتها عام 274ق.م عاصمة لدولة المناذرة اللخميين دولة الخورنق والسدير وهي إمارة عربية كانت تدين بالنصرانية تحالفت مع الفرس كما تحالفت إمارة الغساسنة في بادية الشام مع الروم في خضم الصراعات بين الروم والفرس قبل ظهور الإسلام.
مدينة الحيرة التي تعني في اللغة الآرامية مضارب الخيم كان لها أثر كبير في الجزيرة العربية في التجارة والوساطة للتقريب بين الفرس والعرب وقد حكم الحيرة العديد من الملوك كان أولهم عمرو بن عدي وآخرهم المنذر بن النعمان واستمر حكم ملك هذه الإمارة أربعة قرون وعلى رواية أخرى ستة قرون.
المدينة الرابعة من مدن المحافظة مدينة القادسية التي تقع على نهر الفرات إلى جنوب من مدينة المشخاب وقد خلدها التاريخ بمعركة القادسية من معارك المسلمين المشهورة التي انتصروا فيها على الفرس عام 14 هجرية وهكذا نجد ثراء محافظة النجف في مدنها وبالرغم من قلة عددها إلا أن لكل منها سفراً تاريخياً خاصاً متواصلاً مع بعضه على امتداد فترات التاريخ الإسلامي ولولا حرصنا على الالتزام بتمهيد مقتضب لموضوع الكتاب لأسهبنا في عرض تاريخ هذه المحافظة المستمد من تاريخ مدنها وهو أمر أغنانا عنه العديد من الكتاب والباحثين.
من المدن والقصبات الأخرى ضمن التنظيم الإداري لمحافظة النجف مدن المشخاب والحرية والحيدرية وكذلك الشبجة التي تقع في أقصى الطرف الجنوبي الغربي للمحافظ وهي قريبة من الحدود مع المملكة العربية السعودية وفيما عدا هذه القصبة فإن جميع مدن المحافظة التي أشرنا إليها تتجمع في الطرف الشمالي للمحافظة ضمن الشريط الفيضي لنهر الفرات.
تتصل مدن محافظة النجف ونواحيها بشبكة من الطرق المعبدة فيما عدا طريق صحراوي غير مبلط يربط مدينة النجف الأشرف بالحدود العراقية السعودية والذي يعرف بطريق الحج البري وهو طريق قديم جداً كانت تسلكه قوافل الحجيج من العراق إلى مكة المكرمة يمر بقصبات الحبة والشبجة ثم يدخل الحدود السعودية عن طريق مدينة رفح وكان يعرف هذا الطريق بطريق زبيدة الذي سنفرد له فقرة خاصة في الفصل الثالث من الكتاب.
يبلغ عدد سكان محافظة النجف وفق الإحصاء العام المستند على إحصاءات وزارتي التجارة والتخطيط عام 2003 حوالي 946251 وبذلك يبلغ ترتيب محافظة النجف أحد عشر بين محافظات القطر من ناحية عدد السكان ويتجمع معظم سكان محافظة النجف في مدينة النجف الأشرف.
التضاريس الأرضية لسطح محافظة النجف منبسطة في معظم أرجائها ويشكل جزءاً منه امتدادات السهل الرسوبي للعراق والجزء الآخر وهو الجزء الأكبر يعتبر من امتدادات الصحراء الجنوبية للعراق كما تبرز في محافظة النجف ظاهرة التهضب متمثلة في هضبة النجف التي تشكل الجزء الأكبر من هضبة كربلاء ـ النجف ويبلغ ارتفاع هضبة النجف حوالي 130 متراً من سطح البحر وحوالي 40 متراً من مستوى نهر الفرات عند مروره في مدنية الكوفة.
تطل هضبة النجف من طرفها الغربي على منخفض كبير يسمى (بحر النجف) ويعتبر من المظاهر الجيولوجية الرئيسة في المحافظة وفي منطقة الفرات الأوسط وكانت تمخره السفن في الماضي قادمة من الخليج العربي وهي تحمل تجارة الصين والهند كما تشير الروايات التاريخية وسوف نتطرق بإسهاب إلى أصل نشوء هذا البحر في الفصل الثالث من هذا الكتاب.
