فارس رزاق الحريزي
كاتب وباحث إسلامي
أحلى ما يخط القلم على القرطاس، التحدث عن الملأ العظماء ذوي الشأن والبأس، وينتج عنه ذكر سجايا وبطولات احتل أصحابها سنام القمة، واجتبوا الوسيلة الصالحة والحكمة، دلّتهم على ذلك سنخيتهم، وأوصلتهم إلى صهوة الحلم والشرف، وامتطاء الخطوب، لذا دنّوا تواضعاً وعلواً مجيداً بعد أن صبروا على مضض الحسود وجَنوْا دلائل النبل والبلوغ بشمائلهم غير المرتاعة وعقولهم الوثابة، غير مكترثين بعد أن انجلت أمامهم الأمور ووضحت البُهم، وتبين لديهم من هو الألأم ومن هو الأكرم، ومن هو الدليل الساطع ومن هو المجرم، فاختاروا بقلب مقبل على طاعة الله ذوي الرأفة والرحمة وطريق الهدى والسداد، والأسوة الحسنة غير وجلين بعد أن لاح لهم الطريق الواضح بغير اعوجاج، وهكذا كان ديدنهم وطريقهم الأمثل.
أجل كان ذلك للشهيد حجر بن عدي وأصحابه الذين أبوا إلا أن يكونوا من صفوة المؤمنين بالله ورسوله(صلى الله عليه وآله) ووصيه(عليه السلام) لأنه الصراط المستقيم والطريق الواضح والسبيل الأقوم. طلبوا من حجر البراءة من إمامه علي(عليه السلام) لينجو بنفسه فأبى وقال: دعوني أصلي ركعتين قبل موتي لتكون آخر عمل لي في حياتي.
فلقد ذابوا في حب مولاهم وإمامهم ليصلوا إلى أعلى درجات الإيمان ومن ثم التضحية بأعز ما يملكون بعد ثباتهم على مبادئهم، إذ سمعوا ووعوا قول الرسول(صلى الله عليه وآله):
(يا علي لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق)(1)، والرسول(صلى الله عليه وآله) هو الذي نصّب علياً بأمر من الله، فالويل لمعاوية من حجر وأصحابه. وقد قال الحسن البصري: (أربعة خصال في معاوية لو لم تكن فيه إلا واحدة منها لكانت موبقة: انتزاؤه على هذه الأمة بالسيف، واستخلافه من بعده سكيراً خميراً، وادعاؤه زياد، وقد قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) الولد للفراش وللعاهر الحجر، وقتله حجر بن عدي وأصحابه(2).. ولم يكتف الخط الأموي بقتله، فبعد حوالي (1400) عام يعود لنبش قبره وتدمير ضريحه، فإلى الله المشتكى.
كان وَفَدَ إلى النبي(صلى الله عليه وآله) وأصبح فيما بعد حامل راية رسول الله(صلى الله عليه وآله)(3) قال الشيخ الطوسي في رجاله في أصحاب علي(عليه السلام) حجر بن عدي الكندي كان من الأبدال.
والأبدال: قوم يقيم الله بهم الأرض(4)، لا يموت فيهم أحد إلا قام مكانه آخر(5). فلذلك سُموْ الأبدال. إضافة إلى تشرفه بصحبة النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) ثبت على نفس الخط الذي رسمه رسول الله(صلى الله عليه وآله) باتباع الثقلين كتاب الله وعترته(عليه السلام). فبعد التحاق النبي(صلى الله عليه وآله) بالرفيق الأعلى كان حجر من خلص أصحاب الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) ومن أصحاب الإمامين الهمامين الحسن والحسين(عليه السلام)(6). وكناية له حجر الخير. وذكر السيد الخوئي(قدس سره) شخصية أخرى أيضاً اسمه حجر بن عدي الكندي الكوفي وقال إنه من أصحاب الصادق(عليه السلام) وهو غير سابقه الذي قتله معاوية(7).
أجل إن لحجر الخير سيرة لصحيفة الأبرار طاهرة نقيّة لذا لا بُدَّ دون الشهد من إبر النحل، إذ أن العسل في شمعها، وإبرة النحل شوكتها فالذي يطلب الشهد لم يصل إليه حتى يقاسي لسع النحل. كذلك حجر الخير وصل إلى سنام القمة، وهذه المنزلة المرموقة في واقع الأمة بتضحيته في نفسه وولده وأصحابه ففضل الموت على الحياة ولم يغير في موقفه وعقيدته في أئمته والموالاة لهم رغم شدة الخطب وانقلاب الأمة وانهيار الأنفس وتسلط المجرمين وشدتهم. وقد صدق دعبل الخزاعي:
ما أكثر الناس لا بلْ ما أَقلَّهم! الله يعلم إنِّي لم أقل فندا
إنِّي لأفْتح عيني حين أفتحها على كثير ولكن لا أرى أحدا(8)
فتقدم حجر إلى الإسلام ولم تكن اختمرت في نفسه المبادئ الجاهلية، إذ تقدم وهو فارغ من النوازع الوثنية الجاهلية وعوامل الوراثة، ومن هنا صح له أن يتأثر بالإسلام تأثراً سريعاً وصح أن يكون راهب أصحاب النبي(صلى الله عليه وآله) زهداً وورعاً وصار مثلاً إسلامياً من المثل العليا انتهت به مثاليته إلى التضحية(9).
ملازمته للإمام أمير المؤمنين عليه السلام في حروبه:
1ـ حرب الجمل: كان من المخلصين الثابتين والمحامين عن الإمام(عليه السلام) ونهجه العادل. أرسل أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى الكوفة يستنجدهم يوم الجمل، قام حجر الخير فيمن قام وتكلم قائلاً: أيها الناس أجيبوا أمير المؤمنين وانفروا خفافاً وثقالاً مرّوا وأنا أولكم. فأنشد في المعركة شعراً قال فيه:
يا ربّنا سلم لنا علياً سلم لنا المبارك المضيا
المؤمن، الموحد النقيا لا خطل الرأي ولا غويا
بل هادياً موفقاً مهدياً واحفظه ربي واحفظ النبيا
فيه فقد كان له ولياً ثم ارتضاه بعده وصيا(10)
2ـ حرب صفين: قوله لإمامه(عليه السلام) نحن بنو الحرب وأهلها، الذين نلقحها وننتجها ضارستنا وضارسناها، ولنا الأعوان ذوو صلاح، عشيرة ذات عدد ورأي مجرب وبأس محمود، وأزمّتنا منقادة لك بالسمع والطاعة(11)… الخ
وقد أمّر علياً(عليه السلام) حجر على كندة وحضرموت وقضاعة ومهرة(12).
3ـ لما أغار سفيان بن عوف على الأنبار، وقُتّل حسان بن حسان البكري ندب الإمام علي(عليه السلام) المسلمين للجهاد، فتباطأ بعضهم، فقام حجر بن عدي الكندي وسعيد بن قيس الهمداني فقالاً: لا يسوؤك الله يا أمير المؤمنين مرنا بأمرك نتبعه فو الله ما نعظم جزعاً على أموالنا إن فقدت ولا على عشائرنا إن قتلت في طاعتك(13).
يا صائد الجحفل(14) الموهوب جانبه إن الليوث تصيدُ الناس أحدانا(15)
أجل إنك يا حجر أشد من الأسد، لأن الأسد يصيد الناس واحداً واحداً وأنت تصيد الجيش برمته، وتزجي الأمور نحو الأماكن العالية ومهما طال أمر الحرب، وتكررت أحقاد المجرمين فقد امْتَزْتَ بالعزة والمنعة.
4ـ موقفه من الضحاك بن قيس: وجه معاوية سنة (39هـ) الضحاك في ثلاثة آلاف في الأغارة على كل من مرّ به ممن كان في طاعة علي(عليه السلام) من الأعراب فسار الضحاك وأغار وأخذ الأموال ومضى إلى الثعلبية، وأغار على مسلحة علي(عليه السلام) وانتهى إلى القطقطانة، فلما بلغ ذلك علياً(عليه السلام) أرسل إليه حجر بن عدي فقتل تسعة عشر رجلاً، وقُتل من أصحابه رجلان وهرب الضحاك وأصحابه، ورجع حجر بن عدي ومن معه بعد أن طهر الأرض من دنسهم(16).
5ـ حرب الخوارج: استنفر الإمام علي(عليه السلام) الناس في الكوفة إلى حرب أهل الشام بعد الحكمين، وطلب أن يكتب له كل رئيس ما في قبيلته من مقاتلين، فقام إليه جماعة من الرؤساء، وقالوا سمعاً وطاعة، وكتبوا له ما طلب، وكان من جملة الذين قاموا حجر بن عدي، فعندما عبّأ الإمام من أصحابه في النهراون، وقد كان قسم من أهل الكوفة لم يجيبوه وأكثروا اللغط فساء الإمام(عليه السلام) ذلك، ووضع على الميمنة حجراً لإخلاصه وتفانيه.
6ـ عندما استولى معاوية على الحكم وحاول إذلال أصحاب الإمام علي(عليه السلام)الذين يأبون الضيم ولا ينامون على الذل ولا تأخذهم في الله لومة لائم، فكانوا يجاهرون بوجه الطغاة والظلمة ومنهم حجر بن عدي، كان إذا سمع النيل من علي(عليه السلام)
قال: كونوا قوامين بالقسط شهداء لله، وأنا أشهد أن من تذمون وتعيرون لأحسن بالفضل، وإن من تزكون وتطرون أولى بالذم(17).
كان حجر حاضراً يحث قومه والمسلمين على الجهاد بين يدي أمير المؤمنين (عليه السلام) لأنه عارفٌ بحقه، وبعد شهادة الإمام(عليه السلام) وتولّى الإمام الحسن(عليه السلام) الخلافة لم يختلف حجر عن سابقه فبقي ذلك الفارس المغوار في الدفاع عن دينه وعن إمامه إمام الحق، فاستعان به الإمام في كثير من أمور الحرب. فلما بلغ الإمام الحسن(عليه السلام) مسير معاوية بالعسكر قاصداً العراق، وأنه عبر جسر منبج تحرك حجر فأمر العمال والناس بالتهيؤ…
وكان حجر من المتحمسين لقتال معاوية والزمرة الأموية ويحث الناس على القتال ويستنهضهم. لم تسره الهدنة بين الإمام الحسن(عليه السلام) ومعاوية إلّا أن الإمام(عليه السلام) عرف مشاعره وصدقه، وحاول أن يوضح له لماذا فضل الصلح على القتال(18).
وصفوة الكلام: رغم صروف الدهر المهلكة اصطفى حجر بن عدي الطريق الصعب إذ بالغ في طلب المعالي والسعي وراءها رغم الارزاء المحيطة بها، وانجلاء المواقف بوضوح، وسير البوصلة نوح الضيق إذ لعن والي الكوفة (المغير بن شعبة) بدلاً من لعن الإمام علي(عليه السلام) بعد طلب منه ذلك.
تولى معاوية تمزيق هذا الأمة إرباً إرباً بعد الهدنة بينه وبين الحسن(عليه السلام) وأزاح الموالين لأهل البيت(عليهم السلام) من وظائفهم واستعاض عنهم بالنواصب، ثم أوعز إلى ولاته بسب الإمام علي(عليه السلام) على المنابر، وأن يلاحقوا من يوالي أهل البيت(عليهم السلام) لغرض قتلهم ومنهم حجر الخير وابنه همام لمكانة حجر عند قبيلته والقبائل الأخرى وستة آخرين معهما. وعندما يدخل حجر المسجد ويسمع والي معاوية المغيرة يسب علياً(عليه السلام) ويترحم على عثمان يقول برفيع صوته: أنا أشهد أن من تذمون وتعيرون لأحق بالفضل والمدح والثناء، وإن من تزكون هم أولى بالذم والاحتقار، وإن عثمان أول من جار في الحكم وعمل بغير الحق، فيجيبه المغيرة ويحك يا حجر اتق السلطان وسطوته. وكان لكلام حجر صدى واسع بين المصلين(19).
مات المغيرة (51هـ) فعين معاوية مكانه زياد بن أبيه والذي هدد بأقصى العقوبات، ثم استدعى حجر وقال له: (تعلم يا حجر أني أعرفك، وقد كنت وإياك على من قد علمت (يعني حب علي حين كان خليفة) وأنه قد جاء غير ذلك، املك عليك لسانك واقض نشاطك وليسعك منزلك فأكفني نفسك… الخ(20)، فلم يستجب لما قاله له زياد بل ازداد تمسكاً بموقفه، وبردِ ومجابهة كل فرد يشتم الإمام علياً(عليه السلام).
تولى زياد القبض على حجر مع اثني عشر فرد من رؤوس أصحابه وأعوانه. وقد شهد ضد حجر سبعون شخصاً من النواصب وأرسل حجر وجماعته إلى (مرج عذراء) قرب دمشق والتي كانت محررة من قبل المسلمين وفي مقدمتهم حجر الذي قال: (أما والله لئن قتلتمونا فإني أوّل فارس من المسلمين سلك في واديها، وأوّل رجل من المسلمين نبحته كلابها..)(21).
وجاء مبعوث معاوية إلى (مرج العذراء) وخاطب ثمانية من القابعين في السجن بعد أن تهاون أربعة أشخاص للتقية، بما رآه معاوية وهو: البراءة من علي(عليه السلام) واللعن له فإن فعلتم تركناكم وإن أبيتم قتلناكم فأجاب أجمعهم (إناّ لسنا فاعلي ذلك،…. بل نتولاه ونبرأ ممن تبرأ منه)(22)، وقد اندفعوا إلى الموت بسرعة قائلين (من عرف مستقره سارع إليه).
واستشهد حجر بعد صلاة ركعتين. ويقال قدم ابنه همام قبله إلى القتل انصافاً به لنيل الشهادة والبقاء على إيمانه ودخوله الجنة. هكذا قدم حجر رقبته رخيصة من أجل كلمة الله العليا، وراية القرآن الخفاقة وصوت الإسلام الرفيع والمدوي في ربوع الأرض ومن أجل بصائر للناس فتحقق ما يرمون إليه (وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (آل عمران: 173)، وفي قولهم هذا بيان لشدة إيمانهم، وترتب كلامهم على ما تضمره سرائرهم، من صدق الاعتقاد بكفاية الله لهم، وأنه هو وحده ناصرهم، لذا يجب التوكل عليه في تدبير أمورهم فاجتمع صدق النية، والكلام الكاشف عنها، والعمل المتوجب على ذلك فتحقق النصر بنيل الشهادة(23)
وقد كان حجر تقياً ورعاً خائفاً من الله تعالى مراقباً له في حركاته وسكناته، وكان شديد الحب لوالديه لاسيما أمه، فقد كان يداريها ويسهر على راحتها كثيراً. فقد وصل به الأمر في برّ أمه في عدم اكتفائه بوضع يده على فراشها خوفاً أن يكون عليه شيء حتى يمسه بظهره لأن يديه خشنتان قد لا يمسان بما على الفراش(24). فكان في غاية الطاعة لأبويه مطيعاً بذلك تعاليم القرآن الكريم والسنة الشريفة لكونه من أصحاب العقول، وعلى هدى من أمره، فلا ضير إذا ما أزلفت إليه الجنة رغم الدواهي التي اعترضته ونال منزلاً صالحاً مرضياً.
في الإصابة كما في غيرها: إن حجراً أصابته جنابة فقال للموكل به: أعطني شرابي أتطهر به ولا تعطني غداً شيئاً، فقال ذلك: أخاف أن تموت عطشاناً فيقتلني معاوية، فدعا حجر الله فانسكبت له سحابة ماء فأخذ منها الذي احتاج إليه، فقال له أصحابه: ادع الله يخلصنا. فقال: اللهم خر لنا. فقُتل وطائفة منهم(25).
محادثة الإمام الحسين(عليه السلام) ومعاوية بعد شهادة حجر وأصحابه:
لما قتل معاوية حجر بن عدي وأصحابه حج ذلك العام فلقي الحسين(عليه السلام) فقال: يا أبا عبدالله هل بلغك ما صنعنا بحجر وأصحابه وأشياعه وشيعة أبيك؟ فقال له(عليه السلام): وما صنعت بهم؟ قال: لقد قتلناهم وكفنّاهم وصلّينا عليهم، فضحك الحسين(عليه السلام)
وقال: خصمك القوم يا معاوية، ولكنّا لو قتلنا شيعتك ما كفنّاهم ولا صلّينا عليهم ولا قبرناهم(26).
فافهم القصد أيها القارئ اللبيب من رد الحسين(عليه السلام) على معاوية.
وقد سئل إسحاق السبيعي عن ذل الناس؟ قال: حين مات الحسن(عليه السلام)، وادُّعيَ زياد، وقُتل حجر بن عدي(27).
قالوا في حجر وأصحابه:
1ـ قالت عائشة: سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال: سيقتل بعذراء أناس يغضب الله لهم وأهل السماء(28).
2ـ عن الحرث بن يزيد عن عبدالله بن رزين العاتقي: قال: سمعت علياً(عليه السلام) يقول: يا أهل العراق سيقتل سبعة نفر بعذراء مثلهم مثل أصحاب الاخدود، فقتل حجر بن عدي وأصحابه(رضي الله عنه) أجمعين(29). إذ لم يتراجعوا عن إمامة علي(عليه السلام) كما لم يتراجع أصحاب الاخدود عن إيمانهم.
3ـ كان عبدالرحمن بن عمر يتابع خبر اعتقال حجر وأصحابه، وأخذهم أسارى إلى دمشق، حتى جاء الناس وأخبروه بقتل حجر وأصحابه وهو في السوق فحلّ حبوته ووثب وانطلق حتى يُسمع نحيبه وهو مُوَلِّ(30).
4ـ قال عروة بن جرير: ما دخلت على معاوية إلا ذكر قتل حجر وأصحابه وهو يقول: أي يوم لي من حجر وأصحاب حجر، ويومي منك يا حجر يوم طويل(31).
5ـ مر بنا قول الحسن البصري ومنه… قتله حجراً ويا له من حجر، مرتين(32).
ولله درّ لبيد حيث يقول: