أ.م.د. محمد إسماعيل عبدالله
جامعة بابل / كلية التربية للعلوم الإنسانية
لدراسة الدعاء بصورة كاملة لابد من دراسته في القرآن الكريم لمعرفة صيغ طرح الدعاء وأساليب هذا الطرح في القرآن، وسنختصر في هذا الموضوع بحسب ما يتسع له المقام، بعض هذه الصور والأساليب في القرآن الكريم حسب موضوعها العام من ذكر أدعية الأنبياء ثم أدعية الصالحين ثم دعاء بقية الناس، وقد ورد الدعاء في القرآن الكريم بصور ونماذج متعددة(1) نذكر منها:
أولاً: دعاء الأنبياء
يعرف الجميع أن الله سبحانه وتعالى لما خلق الخلق وأنزلهم إلى دار البلاء والاختبار، لم يتركهم بهما، ولم يسلمهم إلى الأقدار والأهواء تعبث بهم، وهو بعد ذلك يدعوهم إلى عبادته وحسن الاتكال عليه وتنفيذ أوامره والابتعاد عن نواهيه، دون أن يخبرهم نوع العبادة الصحيحة وما هي الأوامر والنواهي حتى يتمكن الإنسان من الانسياق مع الأوامر والانصراف عن النواهي وحتى يحسن الاتصال الصحيح بين العبد والرب.
على هذا فقد أرسل الله عزوجل للناس رسلاً من جنسهم هم أنبياء مكرمون وعباد صالحون يفعلون ما يؤمرون، وينفذون ما أوصاهم به ربهم ويوصيهم به ما داموا في الخدمة الرسالية، وأمر الله جل جلاله بعد ذلك الناس بالاقتداء بالرسل والأخذ بمنهاجهم القويم وتنفيذ أوامر الرسول وحسن الاقتداء به والطاعة المطلقة له(2)، فالأنبياء وهم مثال الإنسانية ونموذجها الأسمى في البصيرة والحكمة والنبل والأخلاق الرفيعة، كانوا متعلقين بأدب الدعاء أيضاً.
وكان لزاماً على الأنبياء أن يحسنوا تعليم الناس وتنويرهم إلى طريق الله السالك والعماد النافع لحسن الاتصال به عزَّ وجل(3)، وكان لزاماً عليهم أن يحسنوا التصرف أمام الناس ويكونوا قدوة صالحة لغيرهم(4) ويكونوا بحق مرآة الله في أرضه أو كما يقال (ظل الله في أرضه)(5)،
وأصبح لزاماً عليهم أن يكون دعاؤهم للناس لهدايتهم وطلب الغفران لهم منه (عزَّ وجل)، وكانوا بحق كذلك، على أنهم لم ينسوا حظاً من أدعيتهم لأنفسهم وأهليهم، فكان دعاء الأنبياء في القرآن على صورتين:
الصورة الأولى:
دعاء الأنبياء العام:
إن دعوة الأنبياء والصالحين الورعين الذين هداهم الله لطاعته وحسن التوكل عليه، قد رسمت للحياة الصالحة الهادئة سبيلاً قويماً ومنهاجاً للتعايش السلمي في هذه الحياة ليكون فيه الناس سواسية يحب بعضهم بعضًا ويحترم بعضهم بعضًا، يحافظ فيها القوي على الضعيف ويرحم فيها الغني الفقير ويترحم فيها الشريف على الوضيع، ويقوى الإيثار بينهم ليكونوا في هذه الدنيا مسالمين سلميين بدل أن يكونوا أعداء متحاربين.
وكان ممن دعا له الأنبياء عباد الله المؤمنين أن يثقوا بالله العلي القدير وأن يسألوا في السرّاء والضرّاء(6) من خيره وفضله ما يديم عليهم في هذه الدنيا نعمه الجليلة، وأن لا يسألوه في الضرّاء من خيره وفضله حتى يذهب عنهم الضر، وأن يسألوه في السرّاء أن يديم عليهم نعمه وأن يتفضل عليهم بدوامها واستدامتها وزيادتها والإكثار منها والطلب منه سبحانه غيرها مما لم يبلغهم منها شيء بعد.
وهكذا فقد رسم الأنبياء منهاجاً قويماً يعتمد في جملته على الاتكال على الله وحسن الظن به وإدامة الاتصال به لطلب الخير منه وزيادته وإبعاد الشر والضر والفحشاء عنهم وأن يتعاملوا مع الناس بالحسنى. وكمثال على ذلك ما جاء على لسان نوح (عليه السلام):
(اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا)(نوح: 12،11،10).
(رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً) (نوح: 28).
أو كما جاء على لسان إبراهيم (عليه السلام):
(رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ)(البقرة: 126).
(فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)(ابراهيم: 37).
الصورة الثانية:
دعاء الأنبياء الخاص:
إذا علمنا أن الأنبياء ـ كباقي البشر ـ محتاجون إلى فضل الله(عزوجل) وكرمه ورزقه فوجب على الناس ومن بينهم الأنبياء أن يدعوا الله مخلصين له الدين أن يرحمهم ويرزقهم فتوجه الأنبياء إلى دعائه في الشدة والرخاء(7) (وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)(الأنبياء: 90).
وكان من مميزات هذه الأدعية في القرآن الكريم:
1ـ إن في هذه الأدعية إطالة نوعاً ما لأن فيها إظهارًا للحالة المراد الدعاء لها مثل قول زكريا (عليه السلام): (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً* يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً)(مريم: 4ـ 6).
إن هذه الإطالة تشرح إطالات بعض الأنبياء عند الحديث مع رب العزة مثل إطالة حديث إبراهيم (عليه السلام) مع ربه، عندما سأله أن يحيي الموتى أمامه، ومثل إطالة حديث موسى (عليه السلام) مع ربه عندما سأله عن العصا التي في يده، وفي جميعها نلمح حب الأنبياء الحديث مع رب العزة وإطالة الحديث معه، لأن الله يحب أن يديم المؤمن الاتصال به، وأن يطيل الحديث معه ويكره أن ينظر إلى الكافر (إن الله ليؤخر إجابة المؤمن شوقاً إلى دعائه ويقول صوت أحب أن أسمعه ويعجل دعاء المنافق ويقول: صوت أكرهه)(8).
2ـ إن دعاء الأنبياء لأنفسهم كان ـ في أغلبه ـ في وحدة العبادة وفي أثناء التعبد أو في أثناء الخلوة والتفكر، ولم يكن جهراً كمثل قوله: (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) (آل عمران: 38) وأمثال ذلك. أما عن دعاء موسى (عليه السلام) له ولأخيه فإنما استوجبته أفعال بني إسرائيل والبراءة منها وهو قوله: (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)(الأعراف: 151).
3ـ ذكر الحالة التي ابتلي فيها النبي (صلى الله عليه وآله) ودعائه الذي دعا به ربَّه، أكثر من مرة في القرآن الكريم وبأكثر من طرح قرآني وبأكثر من لفظ، مثل قصة زكريا (عليه السلام) فقد وردت في أكثر من سورة وبأكثر من معنى مثل قوله: (ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا* إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً)(مريم:2ـ3) إلى قوله: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً)(مريم: 11). ومثل قوله: (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ)(آل عمران: 38)،إلى قوله: (بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ)(آل عمران: 41.)،
ومثل قوله: (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ)(الأنبياء: 89)، إلى قوله: (وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)(الأنبياء:90)، فإن الأسلوب في السور الثلاث فيه نوع من الاختلاف اليسير الذي لا يعني اختلاف القصة وإنما الاختلاف في الطرح من باب التنويع في العرض أو هو الاحتياج إلى طرح هذا المعنى في هذه السورة وهذا المعنى في السورة الأخرى وهكذا، وهذا من أسلوب القرآن الكريم في الطرح فإنه يعتمد المعنى ولا يعتمد الوقائع بحقائقها فقط.
4ـ إن من متممات الدعاء الإجابة ولهذا وردت في القرآن الكريم إجابة الله تعالى لدعاء الأنبياء مثل ما حصل لزكريا (عليه السلام) وما حصل لأيوب (عليه السلام) كقوله سبحانه: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ* فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ)(الأنبياء: 83ـ84)، وكانت متممات الدعاء تذكر للعبرة ـ كما أشرنا ـ أما استجابة الدعاء في ذاتها فقد أخبرنا القرآن الكريم بأنها (رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ)(الأنبياء: 84) حتى يتيقن الداعي الإجابة فإن تيقن الإجابة من حسن التعبد(9) (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا) (يوسف: 110).
ثانياً: دعاء الصالحين أو الدعاء العام في القرآن
وهو من أهم أنواع الدعاء في القرآن وذلك لكثرته ولأنه يشغل حيزاً كبيراً فيه، زيادة على ذلك فإن دعاء الصالحين قد امتاز عن غيره من أنواع الأدعية بأمور منها:
1ـ تلحظ منها جانب الخير واضحاً ويمكنك تعرف قائله بسهولة ويسر، كأن يقدم ذكرهم قبل الدعاء أو تستشف ذلك من مجمل الآية ففي قوله تعالى: (رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ)(آل عمران: 193) فإن من الواضح هنا إن المتكلمين هم المؤمنون الخيّرون وهكذا.
إن في أدعيتهم إسهاباً ملحوظاً. فهو شامل لأسس الدعاء وجوانبه الدقيقة من البراءة والاستغفار والاستشفاع والطلب فيما بعد أن يغفر لهم ربهم ثم التحميد الختامي. ومثل ذلك واضح في قوله تعالى: (رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ* رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(الممتحنة: 4ـ5).
مدح الله الصالحين قبل دعائهم وبعده واضح في القرآن الكريم وهذا طريق ترغيب في أعمالهم وأحوالهم وفيه مدحة عامة للمؤمنين كونهم عرفوا الله بحق وعبدوه حق عبادته وسألوه من فضله ولطفه فجزاهم الله بذلك أن رضي عنهم وأعطاهم ما يطلبون: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللهِ وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ)(آل عمران: 195) ومثل ذلك نراه في قوله تعالى: (قَالَ اللهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظيم)(المائدة: 119).
ثالثاً: دعاء الناس لأنفسهم أو بعضهم لبعض أو على بعض:
ورد في القرآن الكريم دعاء الناس لأنفسهم الكثير، منه للخير ومنه للشر كأن يدعوا الناس بعضهم على بعض، ومن مميزات هذا النوع من الأدعية في القرآن الكريم:
1ـ أنه دعاء مقتضب يدلل على سرعة الدعاء وعدم المهلة بالاستغفار والاسترضاء كما يفعل المؤمنون وهذا يظهر بجلاء الناحية النفسية للداعي فإن الخالف أو البائس أو الحاقد يتلجلج لسانه في الدعاء ولا يعرف أن يتم دعاءه، فيصبح دعاؤه سريعاً محتملاً في صدره حتى يخرجه.
2ـ عدم ضمان الإجابة والتيقن منها ولهذا ورد بعضه بحروف تدل على الشك من ذلك قوله تعالى: (لَوْلا أَخَّرْتَنَا)(النساء: 76) وقوله: (لَوْلَا أَرْسَلْتَ)(طه:134)، أو بعبارات مقتضبة تدل على ذلك، مثل: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً)(فاطر:37)، وقوله: (رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا)(ص: 16).
3ـ يظهر القرآن بعد ذكر مثل هذا الدعاء حقيقته بأنه دعاء سريع باطل لم يخرج من قلب مؤمن، بل من قلب منافق يقول بلسانه ما لا يعتقده بجنانه (وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً) (الإسراء: 67)، فقوله (أعرضتم) جاء بعد الدعاء ليظهر أن الدعاء لم يكن بحق أو أن الإنسان بكفره يصد عن الله على الرغم من الحقائق الظاهرة. وعلى الرغم من كونه يؤمن بها نفسياً إلا أنه يعرض بوجهه عن الله (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ) (فصلت: 51).
دعاء الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله):