الباحث: محمد قاسم محمد
جامعة البصرة /كلية الآداب
أثبتت الدراسات القرآنية التي جعلت كتاب الله المنزل ميدانًا للبحث والاستقراء أن النص القرآني ليس محكومًا بأي من القيود التي اختطتها الأنامل البشرية، فهو نص يربو على كل القيود والمعلقات والمخصصات مهما أريد لها أن تدرس النص القرآني لأجل القرآن، فحاكمية النص القرآني على التقعيد النحوي ينبغي أن توضع نصب أعين الدارسين كي يدخلوا حرم الدراسة القرآنية في المجال اللغوي، إذ ليس لأحد أن يفرض قيودًا مسبقة بمعيارية بشرية ثم يعمل على إسقاطها في النص القرآني، عاملًا على ليِّ أعناق النصوص القرآنية لتأتي موائمة للقاعدة النحوية، وهذا في حقيقته تحكم بالنص القرآني وإنزاله منزلة الكلام البشري، لا يختلف عن أي كلام صدر من لسان عربي في حالة معينة من الشعور البشري.
ومن هنا صار لزامًا أن يُدرس النص القرآني بوصفه نصًا دينيًّا محكمًا من لدن عليمٍ حكيم، ولذا لا نتعبد بآراء النحاة ونَصِفُ كثيرًا من الدلالات والتوجيهات النحوية على وفق اجتهاداتهم وآرائهم المتشددة الواصفة لبعض المخالفات النحوية القرآنية بالشذوذ متناسين مقامه الشريف وسياقه المحكم وأسلوبه المعجز، فحينما يعجزون عن إدراك الدلالات المقصودة يتأولون ويقدرون.
ذكرت الكثير من الروايات الشريفة فضائل سورة الفتح المباركة لما لها من المكانة الكبيرة التي تتعلق بمستقبل الأمة الإسلامية، فزمكانية النزول المبارك للسورة الشريفة يعطي للمتلقي ما تحمله هذه السورة من الشحن الدلالي الكبير المرتبط بمكانة الدولة الإسلامية وديمومتها، كما سيتضح ذلك جليًا في بحث سياق الموقف، وقد أشارت الروايات إلى هذه المكانة بشكل صريح، وكما يأتي:
1ـ عن أبي عبد الله بن بكير(1) عن أبيه قال: قال أبو عبد الله الصادق(عليه السلام): (حصنوا أموالكم ونساءكم وما ملكت أيمانكم من التلف بقراءة (إنَّا فَتَحْنَا لَكَ) فإنه إذا كان ممن يدمن قراءتها نادى منادٍ يوم القيامة حتى يسمع الخلائق أنت من عبادي المخلصين ألحقوه بالصالحين(2).
2ـ عن النبي(صلى الله عليه وآله): من قرأ سورة الفتح فكأنما شهد مع محمد فتح مكة(3).
3ـ عن النبي(صلى الله عليه وآله): لقد أنزلت عليَّ سورة هي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس، ثم قرأ: (إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِينًا)، فقال رجل من أصحابه ما هذا بفتح، لقد صددنا عن البيت، وصد هدينا، وردَّ رجلان من المؤمنين كانا خرجا إلينا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
بئس الكلام هذا بل هو أعظم الفتح، قد رضي المشركون أن يدفعوكم بالبراح عن بلادهم، ويسألوكم القضية، ويرغبوا إليكم في الأمان، وقد رأوا منكم ما كرهوا، وأظفركم الله عليهم، وردكم سالمين مأجورين، فهو أعظم الفتوح، أنسيتم يوم أُحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أُخراكم؟ أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا؟ فقال المسلمون: صدق الله ورسوله، والله يا نبي الله ما فكرنا فيما فكرت فيه، ولأنت أعلم بالله وبأوامره منا(4).
سياق الموقف
تبتني العملية الخطابية الإبلاغية على أثافيها الثلاث التي تختل بتخطيها العملية الخطابية سواء أكانت إنشاءً أم إخباراً لأن التخاطب يعني القصد والقصد يعني إرادة الإيصال وهذه الإرادة القصدية تعتمد ركائز التخاطب الكلامي، وهذه الركائز هي المبدع والمتلقي والنص الإبداعي كما يحلو للدرس الأسلوبي أن يسميه، وليس لنا التضحية بواحد من هذه الركائز الثلاث ما لم نقل بموت المؤلف ليبقى النص والمتلقي ممثلين للعملية الخطابية، ويمثل النص الإبداعي أهم ركيزة من بين أخويه المتبقيين لأن الخطاب ينعدم بانعدامه ولذا فهو محور التخاطب وآليته الأساس، وهو الذي تتمحور الدراسة اللسانية والأسلوبية عنده لتجد ما يمكن أن يتوصل إليه من مداليل تسهم في فهم النصوص الإبداعية ولاسيما في الخطاب القرآني ذي الخصائص الفردية غير المثناة.
فالدلالة السياقية التي تتيحها الآيات القرآنية تجعلنا نستجدي كل ما من شأنه أن يضع بين أيدينا الفهم المتوخى للنص القرآني بعد توفير كافة القرائن السياقية النحوية، للوصول إلى الدلالة التصديقية كما يسميها علماء الأصول(5).
وهنا يأتي سياق الموقف كقرينة من قرائن السياق اللغوي للوقوف على مداليل النص القرآني، ونعني بسياق الموقف هو دراسة كل ما يتعلق بأطراف الخطاب النصي كزمان صدور النص ومكانه والظروف التي وراء النص(6) ودراسة الظروف التي دعت المبدع أو المتكلم إلى إبراز نصه، وتحليل شخصيته على وفق الأحداث النفسية والسياسية والاجتماعية التي اكتنفت شخصية المبدع ذلك؛ لأن النص جزء من مبدعه، فيتعين دراسته من دون أن يُقطع عن صاحب النص؛ لأن النص حاكٍ بالضرورة عن مبدعه، فيدرسُ كل من النص وصاحبه باتجاه واحد.
وسياق الموقف في سورة الفتح المباركة يتجلى في الظروف الدينية والسياسية التي عاشتها الأمة الإسلامية والرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، كي تأتي هذه الآيات المباركة لتحمل معها البشارة بالنصر وغفران الذنوب (للنبي) (صلى الله عليه وآله) وإنزال النعمة والإخبار بالمغيبات، إن رؤية النبي ستتحقق بعد صلح الحديبية، وهذا يعني أن ندرس الأسباب والمعطيات التي كانت وراء النزول المبارك لسورة الفتح الشريفة لأن ذلك سيعطينا المفاتيح الدلالية لفهم السياقات النصية لها.
نزلت سورة الفتح في السنة السادسة للهجرة وذلك بعد صلح الحديبية، والحديبية قرية تقع على مقربة من مكة المكرمة ولا تبعد عنها أكثر من عشرين كيلومترًا، والفتح الذي تعنيه السورة المباركة مختلف فيه لدى المفسرين بين فتح مكة، وصلح الحديبية، وانتشار الإسلام وغيرها من الآراء التي قالها المفسرون(7)، ومهما يكن من أمر يمكن حمل الآراء كلها على معنى الفتح بعد دراسة الملابسات التي كانت وراء نزول السورة المباركة، ويمكن أن تلخص بالآتي:
عزم النبي الكريم (صلى الله عليه وآله) في السنة السادسة للهجرة على الذهاب إلى العمرة بمعية ألف وأربعمائة من الصحابة بعدما امتنع بعض المهاجرين والأنصار عن الذهاب خوفًا من الموت، ولما وصل بهم إلى الحديبية تهيأت قريش لقتالهم لكنها فوجئت أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) وأصحابه كانوا يرتدون إحرام العمرة، لذا عدلت عن نية القتال، لكنّهم منعوا النبي (صلى الله عليه وآله) من أن يدخل مكة في هذا العام بعدما وقّعوا معه وثيقة صلح، ليقوم النبي (صلى الله عليه وآله) على إثرها بحلق شعره الطاهر في الحديبية وينحر هديه، وقد أمر المسلمين أن يفعلوا كما فعل، لكنهم استجابوا لطلبه كارهين أن يعودوا من دون أن يعتمروا ظنًا منهم أن وثيقة الصلح إنما هي امتهان لكرامة المسلمين وأنها خلاف الرؤية التي رآها في المنام، والتي تحكي دخول المسلمين إلى مكة معتمرين، ولذا عادوا إلى المدينة وقلوبهم تمتلئ غيضًا لكن النبي (صلى الله عليه وآله) بشّرهم أن فتحًا سيتحقق بعد ذلك، لأن سورة الفتح نزلت عليه وأكّدت ذلك الفتح المبين،
وهنا يتجلى الإعجاز الإلهي حين يخبر بالمغيبات عما ستؤول إليه ظروف المسلمين، وأنهم سيكونون أفضل حالًا من قريش حين يدخلون مكة فاتحين بعد سنتين من صلح الحديبية، ولعل اللافت للنظر في سورة الفتح فضلًا عن إخبارها بالمغيبات هو إبقاؤها على معنى الفتح المبين غامضًا بلا بيان له، كما أن السُنَّة المطهرة لم تعطِ المعنى الدقيق والجلي للفتح القرآني،
وهذا يبدو من أسرار هذه السور المباركة، ولا أعدو الحقيقة والواقع إن قلت إنه كالسر في حقيقة الفتح الحسيني الذي تضمنه خطابه وكتابه الشهير إلى أخيه محمد بن الحنفية بقوله: من لحق بي استشهد ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح(8)، فليت شعري أي فتح يقصده القرآن الكريم وأي فتح هو المقصود من كلام الحسين(عليه السلام).
من السياق النحوي
ينطلق النص القرآني في العملية الإبلاغية من خلال آليات التوظيف القرآني لبيان ما للقرآن من بواعث ومزايا وأساليب بيانية إعجازية لا تقف عند حدود الشكل اللغوي أو المعطى الخطابي، لكننا نجد أنفسنا ملزمين بالوقوف عند حدود آليات الخطاب القرآني في المجال اللغوي كي يُتوصل به إلى المداليل السياقية التي تكشفها تلكم النصوص الإلهية كواحد من مفردات الدرس اللساني الحديث.
ولعل استنطاق النص القرآني سياقيًا نحويًا في سورة الفتح المباركة يُجلي للمتلقي هذه الخصائص والمميزات ذات الفرادة في النص القرآني، فهو نص يأبى القيد الزمني ويتحدى الوقوف الدلالي الواحد لما له من قدرة على التشظي والتطويع لإرادة المتلقي الواعي والمستمع المصغي.
فالسياق القرآني في السورة ذاتها يتوخى توفير وتوظيف كل آليات الفرادة القرآنية ليتمكن النص من هيمنة التخصيب القرآني للشحن التأثيري لدى المتلقي المصغي، وهذا المعنى يبدو جليًا في الصيغ الفعلية المستعملة في سياقاته بكثرة، إذ تظهر فيها ظاهرة العدول أو الانحراف السياقي الزمني عن زمن الصيغ الصرفية كي تلبس بنيتها الصرفية زمنًا نحويًّا سياقيًا تركيبيًا يفرضه ويقصده السياق القرآني، لأن النص القرآني لا يخضع للزمن الصرفي الذي قال به النحاة، بل السياق بمعية القرائن النحوية هي التي تحكم الفكرة الزمنية فليس للدلالة الوضعية الإفرادية أن تعطي الصيغة الصرفية الزمن المقرر في النحو المعياري.
فالسورة المباركة تبتدئ بقوله تعالى: (إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا) (سورة الفتح: 1)، أي أن الفتح المقصود من الآية الشريفة لم يقع بعد إن قيل أنه فتح مكة(9)، والحال أن فتح مكة وقع في السنة الثامنة للهجرة في حين أن السورة نزلت في السنة السادسة للهجرة(10)، ومع هذا الاختلاف الزمني جاء الفعل الماضي (فتحنا) معبرًا عن صيغة الزمن الماضي الصرفية التي يدل عليها بالدلالة الوضعية، كي يلبس الصيغة الصرفية الفكرة الزمنية السياقية لما للسياق من الهيمنة على مداليل الصيغ الصرفية وهذا الأمر يتناسب مع الدرس اللغوي الحديث في دراسة ظاهرة التزمين النحوي(11)،
لاسيما أن القرآن الكريم يستعمل العدول أو الانحراف الزمني حين يتحدث عن وقائع وأحداث ستتحقق في المستقبل لا محالة، فيقع الحديث عنها بالقرآن الكريم بصيغة الفعل الماضي للدلالة على حتمية وقوعها كالإخبار عن تحقق رؤية النبي في فتح مكة، وأن هذا الفتح (أمرٌ لا دافع له، واقعٌ لا رافع له)(12).
وما دمنا في الصيغ الفعلية للسورة المباركة أرى أن أشير إلى الصيغة الفعلية الماضوية وهي الفعل (كان) الناسخة، إذ ورد استعمالها في سورة الفتح بشكل متكرر، وكما في الآيات الشريفة:
– (وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)(الفتح:4).
– (وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا)(الفتح:7، 19).
– (وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا)(الفتح:14).
– (وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا)(الفتح:24).
– (وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا)(الفتح:26).
وقد جاءت صيغة الفعل (كان)- أغلب الأحيان- مسندة إلى الذات الإلهية المقدسة، وهنا أود الإشارة إلى مسألة عقائدية مهمة كان الأصوليون قد تناولوها من قبل، وهي إسناد الفعل الماضي (كان) إلى الذات المقدسة، فلو قلنا أن الفعل هنا يدل على الزمن الماضي فينبغي لزامًا عدم اتصاف الذات الإلهية بالعلم والحكمة في قوله تعالى: (وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)، وذلك في الزمن الحاضر والمستقبل لأن ماضوية الصيغة الصرفية تمنع هذا الاتصاف في الزمنين المذكورين، ومن هنا وخشية الوقوع بهذا المحذور العقائدي المخيف ذهب الأصوليون(13)، وبعض علماء اللغة(14)، إلى خلو الفعل (كان) من الدلالة الزمنية حين يسند إلى الذات المقدسة ولا يحمل غير دلالة الاتصاف بالحدث غير المتزمن ولهذا سميت عندهم بـ(كان) الشأنية(15)، إذ ليس لها غير شأنية اتصاف الذات الإلهية بالحدث الموصوف بالصفة الدائمة، حين يكون خبر (كان) إحدى صفات الله سبحانه بلا دلالة زمنية البتة، لاسيما مع الرؤية العقائدية التي يتبناها الفكر الديني في كون الذات الإلهية ليست من الوجودات التي تطرأ عليها عوامل الزمكان، لذا يجد الباحث نفسه ملزمًا بقبول فكرة خلو الفعل (كان) من الزمن حين يكون مسندًا إلى الذات المقدسة، لا ما يراه بعض اللغويين في أن الفعل (كان) يدل على الزمن المطلق(16) بلا تقييد جهوي ذلك لترفع الذات الإلهية على الفكرة الزمنية مهما امتد أمدها.
وهنا نكتة بلاغية تتعلق بحرف الجر (من) حين يدل على التبعيض وذلك في قوله سبحانه: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا)(الفتح:29)، حيث أرادت الآية تقييد عموم الإطلاق في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ)(الفتح:29)، ممن كان يتظاهر (بظاهر الإيمان إذ كانوا يتظاهرون بما وصف به المؤمنون فجيء هنا بالوعد محرزًا (مخرجًا) منه من كان يتظاهر بالإيمان ويلزق بالمؤمنين وليس منهم، فقيل: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم) فجيء بقوله منهم ليحرز هذا المعنى الجليل فمن على هذا للتبعيض)(17).