Take a fresh look at your lifestyle.

غدير خم: جودي النجاة

2 1٬540

ارتبط (غدير خم) ارتباطًا وثيقًا في ذاكرة الثقافة الإسلامية بالحدث الهام الذي جرى فيه، حتى أنه اكتسب هويته الجديدة من هذا الحدث، ولم يعد يذكر بوصفه مكانًا يقف عنده الحجيج طلبًا للراحة من تعب الطريق، وكانت استجابة الشعر لذلك كبيرة، إذ مثلتِ الحادثة مهيمنًا موضوعيًا في كثير من نماذج الشعر العربي منذ عصر صدر الإسلام وحتى الآن، وسعت بعض القصائد إلى تسجيل الحدث وتوثيقه، بينما حاولت أخرى إلى استنطاق دلالاته، وتأمل أبعاده الثقافية المختلفة، وتمثلها وتوظيفها بطريقة فنية مبتعدةً، قدر إمكانها، عن مجرد التسجيل وآليته.

في السطور الآتية سنقرأ نصًا شعريًا حديثًا، ونحاول الوقوف بشكلٍ سريع عند بعض جماليات استدعاء حادثة الغدير وتوظيفها بطريقة أفاد الشاعر فيها من مرجعيات أخرى كان أبرزها القرآن الكريم .
قصيدة : غدير علي (عليه السلام)
كتب المرحوم الشيخ أحمد الوائلي قصيدته (غدير علي(عليه السلام))(1) وهو مغترب عن وطنه، وقد قدَّم للنص في ديوانه بعبارة تشير إلى ذلك: (نظمت في لندن وألقيت باحتفال للغدير، في حسينية المرتضى عام 1987م)، وتهيئنا هذه العتبة لقراءة نصٍ نتوقع فيه ما عرفناه عن لوعة الشاعر وغربته على صعيد تجربته الحياتية، فضلًا عن نضج النص فنيًا، فهو مكتوب في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، أي في ذروة عطاء الشاعر، ولن يتقاطع هذا المعطى الدلالي للعتبة النصية مع ما نقرؤه من أبيات القصيدة، ولعل ما يعضد هذا التوقع ويشجع القارئ عليه أبيات المطلع التي يقول فيها:
ما عاف وحيُك محرابي ولا عودي
ذكرًا بفرضي وشدوًا في أغاريدي
ســجيــةٌ فـي علي أن مـوقـعــه
من الشـعور حضورٌ غير مفقـودِ
يممـتـُهُ أجتليـــه فانتهيـت إلـى
طلع من النجم في معناه منضـودِ
يا من إذا شذَّ ذهن عنه نبَّهه
ومضٌ فبدل من نفي لتأكيـدِ
وصوَّت الفكر والإبداع يوقظـه
وربَّ ذهن عن الابداع مسدودِ
يبدأ النص بتأكيد علاقة الملازمة ما بين الشاعر والإمام(عليه السلام)، فوَحيُه ماثلٌ دومًا، جزءًا من الذكر والعبادة والحياة، حتى يغدو الانفصال ممتنعًا بل مستحيلًا، وإن بَلغَ البعدُ مَبلغًا كبيرًا، فومضةٌ من نوره كفيلةٌ بأن تحوّل البعدَ إلى قرب، وتنفيَ التواصل إلى تأكيد الصلة. وهنا لا يخفى أنّ الشاعر يسعى إلى تصوير علاقةٍ قائمةٍ دائمةٍ لا تغيّرها تبدلاتُ الأمكنة أو الأزمنة أو الأحوال، في معنىً روحي يرتفع بالأبيات من كونها مطلعًا لقصيدةٍ احتفالية إلى استهلال يفتتح تجربةً، يتجلى فيها فهمُ الولاية وامتلاكُها، وليس مبعثُ هذا الفهم ذاتَ الشاعر بقدر ماهي سجيةٌ يختصُّ بها المحبوب (أمير المؤمنين(عليه السلام))، ويمنحها حضورُه القدسي للطالب والمريد. ولا يدعو هذا الأمر للاستغراب، فكل الحقائق تشير إلى ذلك وتدل عليه:
أطلَّ والكـون والأيام مجدبـــةٌ
فبرعَمَ النبتُ حتى في الجلاميدِ
فكيف عاطشةُ الأذهان تُعرض عن
مصرَّدٍ يرفدُ الأذهان بالـودِ
ومبدعٍ مرَّ بالدنيـا فأنَّقها
من سحره بكمالٍ غـير معهودِ
ولا يبقى أمام هذا الاستفهام الذي يحمل معاني النفي والإنكار، سوى الإقرار بواقعية هذا الموقف وحتميته، أما ما لا يراه الآخرون فهو دليل على عمى البصيرة لديهم، وفساد الأذهان المفارقة لطبيعتها وفطرتها السليمة التي تقتضي رؤية ذلك والتيقن به.
تستمر أبيات القصيدة في تصوير هذا الحضور المؤثر، والمرور المُبهج للإمام (عليه السلام)
بالدنيا، حيث ينحسر العطش أمام غدير علي(عليه السلام):
طفا غديرك عذبَ الورد يومئ للـ
عطاش أن ينهلوا من خير مورود
لكنَّ مَنْ ألِفَ المُـــرَّ الذعاف نبــا
به فـمٌ عن لذيــذ الطعـم يبــرودِ
وبالمـراض عـزوفٌ عـن لذائذ ما
يُجنى وربَّ عــزوف غير مقصودِ
لكنـه الـدرب قاد السالكين إلـى
غاياته بين محظوظ ومجدودِ
والحمد لله الذي هدانا إليك على
وعـي ومنحة توفيق وتسديدِ
هكذا تنقسم الأفواه أمام عذوبة غدير الولاية، بين فم سالكٍ محظوظٍ ناهلٍ منه، وفمٍ مريض اعتاد أن يشرب المرَّ القاتل ويستسيغه، في صورةٍ يُسلب فيها الإنسان التوفيق والسداد، وغير خافٍ التناص الأدبي في البيت الأخير من المقطع مع الآية القرآنية: (وَقالُوا الحَمْدُ للهِ الذي هَدَانا لِهذا وَمَا كُنَّا لنهتَديَ لَولا أنْ هَدانا الله) (الأعراف: 43).
جمالية التناص المغاير في القصيدة
يأخذ الغديرُ بعدًا جماليًا متعاليًا في تجربة القصيدة عبر أسلوب تصويري رائع يعتمده الشاعر، يصل ذروته في نهاية القصيدة، حين يستعين بتقنية التناص مع القرآن ثانية، ولكنه يعتمد في تحقيق ذلك نمطًا مختلفًا عن السابق يمكن أن ندعوه بـ(التناص المغاير) وهو نمطٌ يقوم، بدرجةٍ كبيرةٍ، على عملية امتصاص النص الأصلي من قِبَل النص المُستقبِل، وإخفاء ملامحه أو تغييرها بشكلٍ يكون فيه حضورُ الشاعر ورؤيتُه كبيرًا، ولذا فهو يغاير النص الأصلي وينتجُه من جديد.
تبرز في هذا التناص عمليةُ تحويل النصوص المستدعاة على مستوى الدلالة أو التعبير، عبر طرائق عديدة للتغيير أو التطوير في الألفاظ أو الصور أو في بعض المظاهر الأسلوبية استجابةً لمقتضيات فنية أو شعورية توجه الشاعر نحو ذلك، حيث تجري في بعض الحالات عملية تخليص النص الأصلي من هيمنة سياقه، ليصبح ـ على نحو ما ـ جزءًا من سياقه الجديد وبنيته الحاضرة(2).
وعلى هذا يمكننا القول إنَّ التناص المغاير لا يقف عند حدود النصوص المستدعاة، بل يعمد إلى إذابتها وتحويلها إلى نظامٍ دلالي جديد، يعتمد في توظيفه للنصوص على نوع من التمثّل الرمزيّ أو الخفيّ لبعض مظاهره ومفردات بنائه. ويكون الأمر قائمًا على تثوير المعاني القرآنية الأصلية ومحاولة توليد أبعاد دلالية جديدة فيها. على أن هذه النصوص المستدعاة تبقى وفية، بشكلٍ أو بآخر، للمعنى القرآني الأصلي، أو لجانبٍ منه، وحاملةً لأصدائه(3).
ويتجلى هذا التناص، كما قلنا، في نهاية هذه القصيدة في قول الشاعر:
سفينتي لعبة الأمواج فاحدُ بها
أن تستوي بنهايات على الجودي

فأنت لي أينما شطَّ المدى وطن
أعيشه رغــم إبعاد وتشريـد
هذا رقيمك خطته هموم فتى
عن كهفك الشامخ القدسي مصدود
إني بسـطت ذراعي حاملًا أملًا
أن أنتهي لوصيد غـير موصود
تكثف هذه الأبيات دلالةَ ألفاظها من خلال إحالاتها غير المباشرة على نصٍ قرآني، حيث يتناص البيت الأول مع قصة النبي نوح(عليه السلام)، وتحديدًا مع نهاياتها التي يوجزها ـ ببلاغة وجمالية فائقتين ـ قوله تعالى: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَ يَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيل بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (هود:44)، وإذا ما علمنا أن عنوان القصيدة التي تضمنت هذه الأبيات هو(غدير علي(عليه السلام))، وأنَّ المخاطب في الأبيات هو الإمام علي(عليه السلام) أدركنا عمق دلالة الاستحضار وجماليته.
اختار النص الشعري أن يحقق تناصه عبر متوالية استعارية ذات شعرية عالية، فمحنة الغربة والاغتراب اللتين يعيشهما الشاعر في لجج هجرته الطويلة عن بلده، جعلته يرجو ـ بحرقة وشوقٍ ـ أمير المؤمنين(عليه السلام)
أن يقود محنته إلى نهاية يرسو فيها مستويًا على (جودي) الوطن/الغدير، عند أعتاب الضريح المبارك للإمام(عليه السلام). وعلى الرغم من استخدام الشاعر لألفاظ القصة القرآنية نفسها (سفينتي،الأمواج، تستوي على الجودي) إلا أنه منحها بعدًا دلاليًا جديدًا يتصل بالمخاطب وخصوصيته، وبالمكان والمناسبة وعمق حضورهما في الوعي الشيعي، وهو ما يمكن عدَّه تحويلًا في اللفظ القرآني.
لقد مثلت السفينة في النص القرآني وسيلة النجاة من الطوفان، وقد صنعت بتسديدٍ ورعايةٍ من الله تبارك وتعالى، وهي قناة ُعبورٍ نحو حياةٍ بديلةٍ جديدةٍ،
وكان ركوبها من قبل نوح(عليه السلام) ومن معه من المؤمنين، وزوجين من كل جنس من أجناس الحيوان بأمر الله، وكذلك الأمر مع استوائها على جبل الجودي. أما سفينة الشاعر فتتقاذفها أهوالٌ عدة منها الاغتراب عن الوطن، وأهمها ما يراه الشاعر من ابتعاد الناس الموهومين المخالفين عن معين الغدير العلوي، ولذا يعمد في البيتين التاليين إلى استدعاء قصة أهل الكهف عبر تناص مع قوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا) (سورة الكهف: 9ـ11)، وقوله تعالى من السورة نفسها: (وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا) (الآية: 18) فرقيم أهل الكهف الذين أنامهم الله مئات من السنين ثم أيقظهم من غير أن تبلى جسومهم أو تتلف، آيةٌ لتنبيه الغافلين عن حقيقة المعاد وإيقافهم أمام مظهر من مظاهر قدرة الله تبارك وتعالى. يفيد الشاعر من هذا المعنى مستعيرًا الرقيم جاعلًا إياه لوحًا لمناقب الإمام (عليه السلام) ودليلًا على قدسيته وعلو شأنه، ليبسط يديه أمام بابه الكريم أملًا بلطف انفراج الباب وعدم انغلاقه بوجهه.
لقد عمد الشاعر إلى تحويل دلالة صورة الكلب الباسط ذراعيه بباب الكهف لحراسة أصحابه في الآية القرآنية، وتوظيفها على نحو مغاير يبرز حالة التوسل والرغبة في تحقق القرب الروحي، وانتهاء معاناة الغربة وآلامها في مستوياتها المادية والمعنوية. وهكذا تم تفتيت صورة الكلب النائم بباب الكهف، وإعادة تشكيله بطريقة مختلفة تجلت في فضاء لا يستطيع المتلقي فيه إلا أن يقابل في إطار واحد ما بين الكهف والغدير عبر شبكة من الدلالات والإيحاءات التي تمتد إلى ما وراء الحدث في التاريخ (حدث تنصيب الإمام، ظهور أصحاب الكهف) وما تلته من تداعيات كبيرة وكثيرة.
في مقابل هذا النمط من التناص مع القرآن الكريم يأتي التناص المطابق، وهو نوع يكتسب ملامحه من خلال طريقة اقترابه من النص القرآني وتعامله معه، ويتجلى ذلك في مستويي التعبير والدلالة، حيث تتمثل غاية التناص المطابق ومقاصده في حرص النص الشعري على تحقيق المطابقة بين ألفاظه أو تراكيبه وبين أسلوب النص القرآني، أو تتمثل في سعيه إلى التطابق ما بين دلالته ودلالة هذا النص، وذلك من أجل إثراء معانيه وتقوية ألفاظه و أساليبه(4). ويكون هذا التناص ظاهرًا في الغالب، صريحًا يمكن معرفته بيسر وسهولة، بشكل مباشرة أو من خلال قرينة له.


وعلى الرغم من هذا التطابق يحقق استحضار النص القرآني ـ هنا ـ عمقًا في الدلالة، وفاعلًا جماليًا بين النص المستقبل والآخر الأصل، ومن ثم لا يمكن عد هذا الشكل من أشكال التناص استجتلابًا عقيمًا للنص القرآني، أو توظيفًا سطحيًا له في النص الشعري. ومن نماذجه في قصيدة (غدير علي(عليه السلام)) قوله:

وكون وضعك ضمن البيت منقبة
وقد حبتك السما فيها بتأييـد
لكن ذلك أحرى أن يكون به
للبيت فخر وعقد منه بالجيد
فأنت نفس رسول الله وهو بلا
مراء أثمن مخلوق وموجود

 

 

 

وهنا تناص مباشر يتطابق مع مضمون آية المباهلة من سورة آل عمران : (فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) (آل عمران: 61).
لقد حافظ الشاعرـ في تناصه هنا ـ على المعنى القرآني الأصلي، دون أنْ يغيّب شيئًا من دلالته أو يحوِّلها، ونرى في وحدة الإطار النفسي والحالة الشعورية التي يعيشها الشاعر أثناء كتابته القصيدة سببًا في استحضار الأجواء القرآنية، وهو يشعر بحنين جارف لغدير علي (عليه السلام) وبيته>

 

أ.م.د. علي مجيد البديري
كلية الآداب /جامعة البصرة

نشرت في العدد 71
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) ديوان الوائلي: شعر الدكتور الشيخ أحمد الوائلي، شرح و تدقيق: سمير شيخ الأرض: 63.
2) ينظر: أشكال التناص الشعري، دراسة في توظيف الشخصيات التراثية: أحمد مجاهد: 390.
وينظر كذلك: قراءات أسلوبية في شعرنا الحديث: د. محمد عبد المطلب: 163.
3) ينظر: أسلوبية التحول، دراسة لتجلي البنى القرآنية في الخطاب العربي المعاصر: إحسان التميمي.
4) ينظر: القول الشعري – منظورات معاصرة، د. رجاء عيد: 232.

2 تعليقات
  1. د. علي مجيد البديري يقول

    المسؤولون الكرام عن هذه الصفحة السلام عليكم
    هذا البحث منسوب خطأ للسيد الزاملي
    فهو لي ، ويرجى التأكد من ذلك وتصحيحه بالسرعة الممكنة

    د. علي مجيد البديري

    1. salah يقول

      وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
      نأسف لهذا الخطأ غير المقصود وتم تعديل الاسم
      مع جزيل الشكر

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.