اصطفى الله مريم ابنة عمران وقدمها سيدةً لنساء عصرها .. واصطفى فاطمة ابنة محمد (صلى الله عليه وآله)ليقدمها سيدة على مدى العصور والأجيال.
منذ ميلادها وإلى آخر أنثى في تاريخ الإنسان تبقى فاطمة السيدة الأولى .. حورية الأرض لأهل الأرض والفتاة التي بلغت ذروة الكمال الإنساني في طريق بنات حواء ..
كانت رمزاً للعفة والطهر والنقاء .. وشعاراً للرقة والعطف والحياء، ونموذجاً للأمومة والخصب والنماء .. وكانت معلماً للإنسانية جمعاء.
ليست البداية:
يفكر في قومه حزيناً .. حزن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم آخر الأنبياء (عليهم السلام) في تاريخ الإنسانية.. يفكر يسبر الأعماق ويرحل عبر الآفاق ..
غمر الصمت الأشياء .. تلاشت الأصوات ولم يعد يسمع شيئاً سوى كلمات السماء تنفذ في أعماقه نفوذ النور في المياه الرائقة ..
كلمات مؤثرة عميقة جف لها ريقه تصبب جبينه فبدت كحبات من لؤلؤ منثور .. الكلمات تومض في أعماقه كالنجوم الزاهرة.
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ* إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ* فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ* إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)(سورة الكوثر).
وانقلب الرسول إلى بيته تملأ نفسه البشارة. كانت السيدة خديجة تنتظر عودة بعلها بشوق وأمل.. نظرت إليه بعينين تفيضان حباً، وقالت بصوت يشوبه اعتذار:
ـ إني وضعتها أنثى، وليس الذكر كالأنثى.
قال النبي (صلى الله عليه وآله) وهو يحتضن هدية السماء:
ـ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ…أسميها فاطمة ليفطمها الله من الشرور.
كلؤلؤة في حنايا صدفة بدت فاطمة .. بعينيها الواسعتين كنافذتين تطلان على عالم واسع .. عالم مموج بالصفاء والسلام.
أضاء الأمل منزلاً صغيراً من منازل مكة
وتفتحت فاطمة للحياة، كما تتفتح الورود والرياحين ونمت في أحضان دافئة، دفء الأعشاش.. تنعم بقلبين ينبضان بالحب، وبنظرات حانية مفعمة بكل ما هو سامٍ ونبيل ..
كبرت فاطمة وبدأت تعي ما يجري حولها، تنظر إلى وجه أمها يغمره حزن وأسى. وربما شعرت بالمرارة تعتصر قلب أبيها ..
تهفو نحو أمها .. وتقبل أباها .. فتعود البسمة إلى الوجهين الحزينين.
وتشرق الفرحة من جديد كما تشرق من بين الغيوم لتغمر الأرض بالدفء والنور والأمل .. وتمر الأيام… .
زمن الحصار:
وتمر الأيام .. وتنمو فاطمة .. ويعصف القدر .. وتجد الطفلة نفسها بين ذراعي أمها في واد غير ذي زرع ـ حيث أيام الجوع والحصار والخوف والحرمان ..
تصغي إلى أنين المظلومين .. كبرت فاطمة في الشِعْب، فُطمت اللبن، ودرجت فوق الرمال .. ومرّ عام .. ومرّ بعده عامان .. ويختطف الأجل أمها الحنون .. فقدت نبعاً ثرًا من الحب والحنان.
فاطمة تبحث عن أمها الرؤوم .. تسأل أباها الحزين ـ أين أمي؟
ويجيب الأب المقهور وهو يحتضن ذكراه الغالية:
ـ أمك في بيت من قصب لا تعب فيه ولا نصب. وتلوذ فاطمة بالصمت(1) .. تفكر .. عيناها تبحثان من نبع سماوي .. ولكن دون جدوى!
كُبرت فاطمة في زمن الحرمان .. في زمان الحصار .. في زمن اليتم .. في زمن القهر ..
من أجل هذا نشأت الطفلة نحيلة القوام كغصن كسير.. رسم القهر في عينيها الواسعتين لوحة حزينة مفعمة بالأسى يغمرها الصمت .. تفكر ..
تنطوي على نفسها في استغراق يشبه صلاة الأنبياء.. نشأت فاطمة في زمن الجدب .. فغدا عودها صلباً ضارباً في الأرض جذوراً بعيدة الغور ..
بدت أكبر من سنّها، ونهضت لتملأ فراغاً هائلاً أحدثه رحيل الأم ذلك النبع الفياض من الحنان ..نهضت فاطمة سيدة صغيرة .. أما رؤوماً لأبيها الذي أضحى وحيداً.
وتمر الأيام .. وذات مساء خرج المحاصرون في الشِعْب .. (شعب أبي طالب) إلى قلب مكة .. إلى ضجيج الحياة صخب الحوادث، لتبدأ فصول أخرى من تاريخ مثير يزخر بالأحداث.. منذ الساعة التي التقت فيها السماء بالأرض في غار صغير على سفوح جبل حراء…وتمرّ الأيام ..
ابنةٌ بارَّةٌ وأمٌ حَنون:
شيئاً فشيئاً خفتت الأصوات، وآبت الطيور إلى أعشاشها، إنها ساعة الغروب .. بدا البيت مقفراً كصحراء جرداء ..
كانت فاطمة مستغرقة في تفكير عميق تطوف في خيالها مريم، تلك الفتاة البتول التي انقطعت عن العالم القاسي في ماديته ولجأت إلى صومعتها تعبد الله وتتبتل إليه تبتيلا.
تنكشف آفاق السماوات والملكوت.
جلست فاطمة تترقب عودة الأب .. هي الآن وحيدة .. لقد رحلت الأم الحنون ذلك النبع المتدفق حنانًا ولوعة…
لك الله يا أماه! ما كادت أعوام الحصار تنجلي بكل قسوتها حتى رحلت ليبقى والدي وحيداً وهو أشد الناس حاجة إلى من يؤازره ويقف إلى جانبه ..
ولكن يا أماه سأجهد نفسي لأملأ الفراغ الذي جثم على البيت بعد رحيلك وغيابك .. سأكون له بنتاً وأماً .. سأمسح دموعه بيدين تشبهان يديك وسأبتسم له كما كنت تضيئين قلبه بابتسامتك ..
ولكن يا أماه! أنا ما أزال صغيرة .. ليتك صبرت قليلاً .. أبي كان قوياً بك .. وكان يتحدى العاصفة بعزم (أبي طالب) شيخ البطحاء، تكفله صغيراً وحماه كبيراً .. غير أنكما تركتماه وحيداً، واسترحتما من هموم الدنيا وعذاباتها .. وحق لكما أن تستريحا وقد عصفت بكما النوائب من كل مكان وسدّد لكما الدهر سهاماً مسمومة وحرابا ..
أجل يا أماه! لقد اظلمت الدنيا ونشر المساء ستائره السوداء، وهذا عامنا عام الحزن ..
ها أنا الآن أنتظر عودة أبي .. أبي الذي يريد تبديد الظلام بنور الإسلام .. لكن مكة تعج بمن يريد حياة الظلمات يحبّها كما الخفافيش لا تهوى النور ولا تحب النهار ..
سمعت فاطمة خطىً هادئة كنبضات قلب يخفق أملاً، خطىً تعرفها فاطمة .. لهذا هبّت كفراشة تهوي إلى النور .. فتحت الباب لترى إحدى مآسي الأنبياء ..
قال رسول السماء:
والله ما نالت قريش مني، إلّا بعد أن مضى أبو طالب!(2).. يا لصبر الأنبياء .. شعرت فاطمة بالانكسار، كيف سوّلت لذلك السفيه أن يرمي التراب على وجه يسطع بنور السماوات؟!
مسح الأب دموع ابنته قال وعيناه تشعان بالأمل:
ـ لا تبك يا فاطمة! إن الله ناصر أباك.
انحسرت الغيوم عن السماء فبدت صافية مشرقة وعادت البسمة إلى الوجه الملائكي … وتمر الأيام ..
الهجرة:
لا أحد يعلم مكان النبي المهاجر إلا فتىً في الثالثة والعشرين من عمره، عاد لتوّه من غار في جبل ثور .. عاد عليٌ ينفض عن نفسه غبار الطريق ويفكّر في وصايا ابن عمه .. بقي عليه أن يؤدي الأمانات إلى أهلها، ويحمل الفواطم والمستضعفين من الذي آمنوا بآخر رسالات السماء ..
ابتاع عليٌ إبلاً، وأسرّ إلى والدته فاطمة أن تستعد للهجرة، وتخبر فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفاطمة بنت الحمزة وفاطمة بنت الزبير ..
وتحت جنح الليل تحركت قافلة الفواطم يقودها علي ماشياً ومعه الدليل أبو واقد .. والتحقت بالركب الفاطمي أم أيمن حاضنة النبي (صلى الله عليه وآله)، وفي نفس الليلة تسلل المستضعفون إلى وادي (ذي طوى) حيث واعدهم عليٌ هناك.
كان أبو واقد يشعر بالخوف من انتقام قريش لذلك راح يسوق الإبل سوقاً عنيفاً .. قال علي يهدّئ من مخاوفه:
ـ ارفق بالنسوة يا أبا واقد!
بالقرب من وادي «ضجنان» ظهر ثمانية فرسان ملثمون قد أثاروا بخيولهم زوبعة من الغبار! عيونهم تبرق بالشر؟ صاح علي بأبي واقد وأيمن ابن أم أيمن:
ـ انتحيا بالإبل واعقلاها!
واقترب أحد فرسان الدورية من علي (عليه السلام) وخاطبه بعنف:
ـ أظننت يا غدار أنك ناج بالنسوة؟! ارجع لا أباً لك، قال عليٌ (عليه السلام) بثبات:
ـ فإن لم أفعل؟
ـ لترجعن راغماً.
وأراد الفارس الوثني أن يثير النوق، فاعترضه علي (عليه السلام)، ولأول مرّة برق سيف علي في سماء الفروسية كالصاعقة، وصعق الرجل الوثني، فتسمّر رفاقه هلعاً لهول المشهد..
وعندما استعد علي للهجوم، صاح أحد الفرسان:
احبس نفسك عنا يا ابن أبي طالب!(3)
وانطلقت سفن الصحراء تواصل السير شمالاً ..
السماء مرصعة بملايين النجوم .. تومض في أغوارها السحيقة كلآلئ منثورة .. حط المهاجرون عصا الرّحال في وادي ضجنان .. بركت النوق فوق الرمال تلتقط أنفاسها وتشمّ رائحة وطن قريب .. عينا فاطمة تسافران بين النجوم تستكشفان آفاق السماء .. أزهر وجهها كما الكوكب الدرّي.. واستغرقت فاطمة في الصلاة:
ـ أنت وحدك الباقي .. كل شيء أخذ طريقه نحو المغيب .. النجوم..القمر .. الأرواح البيضاء تتجه إليك لا تبالي بأشواك الطريق أنت وحدك الحق .. دعني ألج ملكوتك وأسبّحك وأطوف مع ذرات الوجود حول عرشك ..
أنت وحدك نبع الحياة، وسواك سراب يحسبه الظمآن ماءً.
في (قبا) حيث توقف النبي (صلى الله عليه وآله) ينتظر الرسول القافلة، هبط جبريل .. وفاح عبير الوحي .. ملأ فضاء قباء، حيث بنى الرسول أول مسجد في تاريخ الإسلام: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ* رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ* رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ* رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ* فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللهِ وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ)(آل عمران:191 ـ195).
وصلت القافلة بسلام وخفّ النبي للقاء ابنته بشوق وحب، قائلاً: فاطمة أم أبيها.
الوطن الدافئ:
دخلت القافلة المدينة، وتصدح في الفضاء أناشيد الفرح:
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع