تشير الآية القرآنية إلى مفهوم التأسي برسول الله (صلى الله عليه وآله)، ويراد منه الاقتداء والسير على نهج النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (صلى الله عليه وآله)، باعتبارهم الهداة الذين جعلهم الله تعالى وسائط فيض للبشرية ليتعلموا منهم وليقتدوا بهم وليسيروا على خطاهم، لأن الإنسان لم يُخلق عبثاً ولا سُدى، وإنما خُلق لأجل غاية عظمى عليه أن يحققها ليصل إلى كماله وسعادته المنشودتين، فلا بد له من وسائل عبرها يحقق أهدافه التي رسمها الله تعالى له، وأهل البيت (عليهم السلام) هم الذين يمكن أن يصل عبرهم إلى تحقيق هذا الخط الرباني: (مَنْ أَتاكُمْ نَجا وَمَنْ لَمْ يَأْتِكُمْ هَلَكَ إِلى الله تَدْعُونَ وَعَلَيْهِ تُدُلُّونَ وَبِهِ تُؤْمِنُونَ وَلَهُ تُسَلِّمُونَ وَبِأَمْرِهِ تَعْمَلُونَ وَإِلى سَبِيلِهِ تُرْشِدُونَ…)(1)، فهم إذًا سبل نجاة ودلائل إلى الحق والهدى.
والزهراء (عليها السلام) هي قدوة للبشرية، كما رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) قادة وهداة، فهي تمثل الإنسان الكامل الذي يأخذ بيد الناس إلى سبيله تعالى، باعتبار مقامها ومنزلتها وعصمتها؛ ولذلك أوصى رسول الله بها، وبيّن أن رضاها رضا الله، وغضبها غضب الله؛ لأنها لا يمكن أن ترضى إلّا بما يرضيه تعالى، ولا تسخط إلّا فيما يوجب سخطه، فهي أسوة وقدوة لا للنساء فحسب، بل للرجال والنساء على حد سواء، لأن الإسلام لم يفرق في الاقتداء بين رجل كامل وامرأة كاملة: (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ)(التحريم:11).
فكل خطوة من خطوات الزهراء (عليها السلام)، وكل عمل من أعمالها، وكل كلمة قالتها، إنما هي درس للبشرية أجمع، وحياتها القصيرة في عمر الزمن طويلة بعظمتها ودروسها وعبرها… كلها محل عبرة وهداية للبشرية، إذ كانت الزهراء (عليها السلام) البنت المخلصة والمضحية والزوجة الصابرة العظيمة والأم المربية المثمرة والإنسان الداعية الرسالية والصوت الرباني المطالب بالحق، الساخط على الباطل، ولا نستطيع في هذه العجالة أن نذكر كل أدوار الزهراء (عليها السلام) في حياتها، وسنبحث في الجانب الرسالي لفاطمة(عليها السلام) فقط.
لقد بدأت الزهراء (عليها السلام) مشوار الدعوة إلى الله والتضحية في سبيل الرسالة منذ أن فتحت عينيها على النور، فهي حتى في مرحلة طفولتها كانت تعيش هم الإسلام، وأهداف الرسالة، فقد كانت صغيرة وعاشت في شعب أبي طالب، وأيضاً كانت تشاهد ما تفعله قريش بأبيها العظيم، فتزيح عنه الأذى وتواسيه، وتغسل جراحه، فقد (روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال بينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم قائما يصلي بمكة وأناس من قريش في حلقة فيهم أبو جهل بن هشام فقال ما يمنع أحدكم أن يأتي الجزور التي نحرها آل فلان فيأخذ سلاها ثم يأتي به حتى إذا سجد وضعه على ظهره قال عبد الله فانبعث أشقى القوم وأنا أنظر إليه فجاء به حتى وضعه على ظهره قال عبد الله لو كانت لي يومئذ منعة لمنعته وجاءت فاطمة رضوان الله عليها إليه وهي يومئذ صبية حتى أماطته عن ظهر أبيها)(2).
هكذا كانت فاطمة (عليها السلام) في طفولتها، وبعد الهجرة عندما استقرت دعائم الإسلام في المدينة المنورة، فلم يكن جلوسها في بيتها مقتصرًا على الوظائف المنزلية فحسب بل أدت كل وظائفها التي تجعل منها إنسانًا رساليًا بمعنى الكلمة، كانت تؤدي أدوارها في البيت بمثالية كزوجة وأم وربة بيت، وكذلك تؤدي دورها المؤثر في المجتمع حيث كانت تعلم النساء القرآن والأحكام الشرعية، وتشارك بكل ما يهم المجتمع، وما يهم الرسالة، فقد وردت كثير من الروايات بأن النساء كانت تأتي لفاطمة وتتعلم منها، وهذا يدل على اهتمامها صلوات الله عليها بنساء عصرها والأخذ بأيديهن لإيصالهن إلى الكمال،
فقد روي عن العسكري (عليه السلام): (حضرت امرأة عند الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام) فقالت : إن لي والدة ضعيفة، وقد لبس عليها في أمر صلاتها شيء، وقد بعثتني إليك أسألك. فأجابتها فاطمة (عليها السلام) عن ذلك، ثم ثنت، فأجابت، ثم ثلثت، فأجابت إلى أن عشرت فأجابت، ثم خجلت من الكثرة، فقالت: لا أشق عليك يا بنت رسول الله. قالت فاطمة (عليها السلام):
هاتي وسلي عما بدا لك، أرأيت من اكترى يومًا يصعد إلى سطح بحمل ثقيل، وكراؤه مائة ألف دينار، أيثقل عليه؟ فقالت: لا. فقالت: اكتريت أنا لكل مسألة بأكثر من ملء ما بين الثرى إلى العرش لؤلؤًا، فأحرى أن لا يثقل علي، سمعت أبي رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: إن علماء شيعتنا يحشرون، فيخلع عليهم من خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم، وجدهم في إرشاد عباد الله، حتى يخلع على الواحد منهم ألف ألف خلعة من نور)(3).
وفي رواية أخرى تبين كيف أن فاطمة (عليها السلام) كانت تعين بعض المؤمنين على غيرهم، وتنتصر للحق، فعن العسكري (عليه السلام): (قالت فاطمة (عليها السلام) وقد اختصم إليها امرأتان، فتنازعتا في شيء من أمر الدين: إحداهما معاندة، والأخرى مؤمنة، ففتحت على المؤمنة حجتها، فاستظهرت على المعاندة، ففرحت فرحًا شديدًا. فقالت فاطمة (عليها السلام): إن فرح الملائكة باستظهارك عليها أشد من فرحك، وإن حزن الشيطان ومردته بحزنها عنك أشد من حزنها. وإن الله عز وجل قال للملائكة: أوجبوا لفاطمة بما فتحت على هذه المسكينة الأسيرة من الجنان ألف ألف ضعف ما كنت أعددت لها واجعلوا هذه سنة في كل من يفتح على أسير مسكين، فيغلب معاندًا مثل ألف ألف ما كان له معدا من الجنان)(4).
وأيضاً بعد رحيل رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان لفاطمة (عليها السلام) دور رسالي بارز جداً في خضم تلك الأحداث التي حدثت بعد رحيله (صلى الله عليه وآله)، وكانت تمارس دور الإنسان الرسالي الذي يحاول أن يرجع التائهين والضالين إلى الطريق المستقيم.
كان لها دور مع الأمة التي انحرفت عن جادة نبيها، فقد روى المؤرخون أنها كانت تخطب المهاجرين والأنصار وتذكرهم دائماً بوصايا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتحاول إرجاعهم إلى الخط الذي انحرفوا عنه وزاغوا عنه في وقت قل فيه الثابتون على الحق، كان علي (عليه السلام) وحيداً إلّا من فئة قليلة من المخلصين، وكانت الزهراء (عليها السلام) إلى جنبه تدافع عن حقه، وتظهر ظلامته، وقد دوَّت صرخة الظلامة التي بقيت تصك مسامع الدهر عبر الأجيال، بإخفاء قبرها. وخطبها ومواقفها ومحاججتها مع الغاصبين للخلافة كانت دليلاً على ذلك، خطبتها المعروفة كانت تبين عمق الهم الرسالي الذي تحمله فاطمة (عليها السلام) وعظيم الحزن الذي يجول في روحها الطاهرة لانحراف الأمة وابتعادها عن الإمام الذي نصبه الله لهم.
وفي بعض الروايات إنها كانت (عليها السلام) تخرج مع أمير المؤمنين (عليه السلام) وبيدها الحسن والحسين (عليهما السلام) وتأتي أبواب المهاجرين والأنصار لتذكرهم بالإمامة وبالولاية التي لا بد أن يتمسكوا بها، ولو أمعنا النظر في التاريخ لشاهدنا موقفها الرسالي يتجلى في مواضع ناصعة وواضحة وضوح الشمس من خطبتها في مسجد أبيها (صلى الله عليه وآله) إلى تذكيرها الدائم للقوم بحق علي (عليه السلام)، وكذلك مطالبتها بفدك، وعدم رضاها عن الشيخين، وسخطها عليهما إلى أن أسلمت الروح إلى بارئها.
بل حتى بكاؤها الدائم على أبيها (صلى الله عليه وآله) لم يكن بكاءً نابعاً من عاطفة بنت تجاه أبيها، بل كان بكاءً رسالياً واعياً يريد أن يثير العقول الخاملة والأرواح المستسلمة للظلم والمنحرفة عن جادة الحق والحقيقة؛ كانت دموعها بركاناً يريد أن يفجر ثورة في أعماق الأمة المنقلبة على الأعقاب، بل حتى تشييعها ودفنها وإخفاء قبرها كلها مواقف الغاية منها إيقاظ الأمة، والتذكير بالحق المغتصب والانتصار للرسالة المحمدية التي جاءت رحمة للبشرية وإخراجاً لها من الظلمات إلى النور.
فقبرها المخفي هو صوتها الغاضب الهادر بوجه الباطل الذي لا يسكت ولن يسكت أبد الآبدين…
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) البلد الأمين/الكفعمي/مقطع من الزيارة الجامعة الثانية/ص300. (2) الأمالي، الشريف المرتضى/ج2ص19. (3) تفسير الإمام العسكري(عليه السلام)/ص340. (4) ن.م/ص347.