من الحقوق التي منحها الإسلام للمسلم هو حق الوصية قبل موته، والوصية هي عبارة عن كل شيء يؤمر بفعله ويعهد به في الحياة وبعد الموت، وخصصها العرف بما يعهد بفعله أو تنفيذه بعد الموت. وأوجب الإسلام على الوصي أن ينفذ تلك الوصية مالم تتعارض مع الشرع والدين. وقد قسم الفقهاء الوصية إلى قسمين:
1 – تمليكية:
بأن يجعل شيئًا من تركته لزيد أو للفقراء مثلًا بعد وفاته فهي وصية بالملك أو الاختصاص.
2 – عهدية:
بأن يأمر بالتصرف بشيء يتعلق به من بدن أو مال كأن يأمر بدفنه في مكان معين أو زمان معين أو يأمر بأن يعطى من ماله أحد أو يستناب عنه في الصوم والصلاة من ماله أو يوقف ماله أو يباع أو نحو ذلك، فإن وجه أمره إلى شخص معين فقد جعله وصيًا عنه وجعل له ولاية التصرف(1).
إذ أن الإنسان حين تحترق ورقة حياته وتحضره الوفاة ويتهيأ لمغادرة هذه الدنيا، غالبًا ما تبقى في نفسه أشياء يود تحقيقها بعد موته، ومن هنا جاءت الوصية لشخص بعينه فيكون وصيًا لينفذ تلك الوصية، وكأن الموصي لو كان باقيًا في الحياة لقام بنفسه في تنفيذها، ومن المؤكد أنه سيوصي بأهم ما يشغل فكره ويقلقه أمره وبحسب الأولويات التي يراها.
وفي ذكرى وفاة سيدتنا فاطمة الزهراء (عليها السلام) سنسلط الضوء على الأولويات التي أوصت بها سيدة نساء العالمين (عليها السلام) في وصيتها لأمير المؤمنين (عليه السلام)، وما كان عليه (عليه السلام)
إلا تنفيذها كاملة دون نقصان.
فقد وردت نصوص كثيرة ملأت كتب الحديث والسير عن وصيتها (عليها السلام) وما ذكر في تلك الوصية، ومن الجدير بالذكر أن الفترة التي قضتها الزهراء (عليها السلام) بعد استشهاد أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى وفاتها، كانت مريضة عليلة، وخلال هذه الفترة أوصت بوصاياها، ولعلها كررت تلك الوصايا مرات عديدة، ولهذا نجد تعدد الرواة وتعدد الروايات حول وصاياها، فلا تناقض فيما ورد.
ولضيق المقام سنقتصر على بعض تلك الروايات ونحدد أهم المحاور لتلك الوصية، وهي كالآتي:
أولاً:
في تجهيزها وتكفينها وتغسيلها والصلاة عليها ودفنها… وإخفاء قبرها:
فقد روي عن عليّ بن الحسين، عن أبيه الحسين (عليه السلام) قال:
(لَمّا مَرِضَتْ فاطِمَةُ بِنْتُ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) وَصَّتْ إِلى عَليٍّ (عليه السلام) أَنْ يَكْتُمَ أَمْرَها، وَيُخْفِيَ خَبَرَها، وَلا يُؤْذِنَ أَحَداً بِمَرَضِها.. فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَكانَ يُمَرِّضُها بِنَفْسِهِ، وَتُعينُهُ عَلى ذلِكَ أَسْماءُ بِنْتُ عُمَيْس (رَحِمَهَا اللهُ)، عَلَى اسْتِسْرار بِذلِكَ كَما وَصَّتْ بِهِ، فَلَمّا حَضَرَتْها الْوَفاةُ وَصَّتْ أميرَ الْمُؤْمِنينَ (عليه السلام) أَنْ يَتَوَلّى أَمْرَها، وَيَدْفِنَها لَيْلاً وَيَعْفي قَبْرَها. فَتَوَلّى ذَلِكَ أَميرُ الْمُؤْمِنينَ (عليه السلام)وَدَفَنَها، وَعَفى مَوْضِعَ قَبْرِها(2).
عن أبي بصير، عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)، قال: لمّا قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما ترك إلّا الثقلين، كتاب الله وعترته أهل بيته، وكان قد أسرَّ إلى فاطمة (عليها السلام) أنها لاحقة به، وأنها أول أهل بيته لحوقًا. قالت (عليها السلام):
بينا أنا بين النائمة واليقظى بعد وفاة أبي بأيام، إذ رأيت كأن أبي قد أشرف عليَّ، فلما رأيته لم أملك نفسي أن ناديت: يا أبتاه، انقطع عنا خبر السماء…… وقال: هذه مسكنك ومسكن زوجك وولديك ومن أحبك وأحبهما، فطيبي نفسًا فإنك قادمة عليَّ إلى أيام.
قالت: فطار قلبي، واشتد شوقي، وانتبهت من رقدتي مرعوبة…..)،
(قال أبو عبد الله (عليه السلام): قال أمير المؤمنين (عليه السلام):
فلما انتبهت من مرقدها صاحت بي، فأتيتها وقلت لها: ما تشكين؟ فخبرتني بخبر الرؤيا. ثم أخذت عليَّ عهد الله ورسوله أنها إذا توفيت لا أُعلم أحدًا إلّا أم سلمة زوج رسول الله (عليها السلام)، وأم أيمن، وفضة، ومن الرجال ابنيها، وعبد الله بن عباس، وسلمان الفارسي، وعمار بن ياسر، والمقداد، وأبا ذر، وحذيفة. وقالت: إني قد أحللتك من أن تراني بعد موتي، فكن مع النسوة فيمن يغسلنني، ولا تدفني إلّا ليلًا، ولا تُعلِم أحدًا قبري)(3).
إن إيصاء الزوج من قبل الزوجة بتغسيلها وتكفينها والصلاة على جنازتها ثم دفنها، أمر مألوف ولا يحمل شيئًا من الغرابة، ولكن الشيء غير المألوف هو إعفاء موضع قبرها، وعدم إخبار أحد بذلك الموضع، بلحاظ أنها ليست امرأة عادية، بل هي سيدة نساء العالمين وابنة سيد الأنبياء والمرسلين (صلى الله عليه وآله) وزوج سيد الوصيين وأمير المؤمنين (عليه السلام) وأم سيدي شباب أهل الجنة الحسن والحسين (عليهما السلام).
فما الأمر الجلل الذي دعا بضعة المصطفى إلى هذه الوصية؟
يتضح من خلال هذه الوصية أن الزهراء (عليها السلام) كانت تريد من ذلك أن تعرب عن استنكارها واحتجاجها وتلفت انتباه الأمة في كل الأجيال لأمر هام! وظلم كبير قد تعرضت له، وكما سيتبين ذلك في الروايات الآتية.
ثانيًا:
في منع من ظلمها وآذاها من الصلاة عليها:
(قالت فاطمة (عليها السلام) لعلي (عليه السلام): إن لي إليك حاجة يا أبا الحسن. فقال: تقضى يا بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله). فقالت: نشدتك بالله وبحق محمد رسول الله أن لا يصلي عليَّ (فلان وفلان) وسمتهما باسميهما…)(4).
عن الحسن بن علي بن أبي حمزة، عن أبيه قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) لأي علة دفنت فاطمة بالليل ولم تدفن بالنهار؟
قال (عليه السلام): لأنها أوصت أن لا يصلي عليها رجال). وفي بعض النسخ (الرجلان الأعرابيان)، وفي بعضها الأعرابيان فقط(5).
استكمالاً لما تقدم من الوصية، اتضحت الإجابة على السؤال المطروح آنفا، وتبين سبب رغبتها بعدم الإعلان عن وفاتها ودفنها ليلاً، ولا تريد تمكين أحد ممن آذاها وظلمها من الصلاة على جنازتها لكيلا يحظوا بهذا الشرف، وقد صرحت بأسمائهم ولم تخفها.
فقد ورد في البخاري/ج5ص83: (عنْ عائِشَةَ: أنَّ فاطِمَةَ (عليها السلام) بِنْتَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله)
أرْسَلَتْ إلى أبِي بَكْرٍ تَسْألُهُ مِيرَاثَهَا مِنْ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) مِمَّا أفَاءَ الله عَلَيْهِ بالمَدِينَةِ وفَدَكٍ وما بَقِيَ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ ….. فأبَى أبُو بَكْرٍ أنْ يَدْفَعَ إلَى فاطِمَةَ مِنْهَا شَيْئاً، فوَجَدَتْ (حزنت وغضبت) فاطِمَةُ علَى أبِي بَكْرٍ في ذلِكَ فهَجَرَتْهُ فلَمْ تُكَلِّمْهُ حتَّى تُوُفِّيَتْ، وعاشَتْ بَعْدَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) سِتَّةَ أشْهُرٍ فلَمَّا تُوُفِّيَتْ دفَنَهَا زَوْجُهَا عَلِيٌّ لَيْلاً ولَمْ يُؤْذِنْ بِهَا أبَا بَكْرٍ)(6).
يتضح أن الزهراء (عليها السلام) كانت غاضبة ممن أوصت بعدم صلاتهم عليها وحضور جنازتها وتشييعها. في الوقت الذي نقرأ الروايات التي تحدد عواقب إغضاب فاطمة (عليها السلام):
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها وينصبني ما أنصبها)، (فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها ويغضبني ما أغضبها)، (فمن آذاها فقد آذاني) (7).
وقال رسول الله (ص) لفاطمة: إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك(8).
ومن ضمن احتجاجات فاطمة (عليها السلام) أنها قالت: (هل سمعتم أبي يقول: فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله؟ فقالوا: نعم، فقالت: اللهم اشهد أنهما آذياني)(9)، أما من يؤذي النبي (صلى الله عليه وآله)، فنقرأ قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(التوبة:61)، (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا)(الأحزاب:57).