كان من أشدّ المنكوبين بوفاة النبي (صلى الله عليه وآله)
بضعته الطاهرة سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السلام)، فقد نخب الحزن قلبها الرقيق المعذب، وهامت في تيارات من الأسى والحزن، لا تفتر من البكاء نهاراً وليلًا، ومن تلك البواعث النفسية التي ساعدت على تجليات الرثاء عند الزهراء (عليها السلام) إذ ترك بصمة نوعية في خطابها الشعري:
1- بث الشكوى بسبب الظروف السيئة بعد أبيها وشماتة الأعداء بها:
إنّ الشكوى من الظروف السيئة بعد وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله) وشماتة الأعداء إذ اجتمعت الجموع آونة في الخفاء وأخرى على ملأ من يدعون إلى ابن أبي طالب؛
لأنهم رأوه أولى الناس بأن يلي أمور الناس ثم تألبوا عليه حول داره يهتفون باسمه ويدعونه أن يخرج إليهم؛ ليردوا عليه تراثه المسلوب(1).
نُسِبَ لها شعر صوّر لوعتها وحزنها العميق على أبيها وما عانته بعد فقده من الأحداث الجسام التي روعتها وتركت بصماتها الحزينة في أعماق نفسها، وهذه الأحداث(2):
1- الهجوم على بيتها(عليها السلام).
2- التهديد بإحراق دارها(عليها السلام).
3- الاعتداء الآثم عليها(عليها السلام) وإسقاط جنينها.
4- الحصار الاقتصادي عليها (عليها السلام) من إسقاط الخمس ومصادرة فدك من قبل أبي بكر وإضافته إلى بيت المال.
إنّ فاطمة الزهراء (عليها السلام) تصف الإسلام بعد وفاة الرسول وغرابته والمنبر كيف أصبح بعد وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله)، وكيف علاه الظلام من بعده بالغصب والإكراه لأمير المؤمنين علي(عليه السلام) وقد تصور الظلم والقهر السياسي، لقد أشارت السيدة الزهراء(عليها السلام) إلى تلك الظروف بشكل إجمالي كما هي في الأبيات الآتية(3):
قد كان بعدك أنباء وهنبثة
لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب
إنا فقدناك فقد الأرض وابلها
واختل قومك فاشهدهم فقد نكبوا
قد كان جبريل بالآيات يؤنسنا
فغبت عنا فكل الخير محتجب
فكنت بدرًا ونورًا يستضاء به
عليك ينزل من ذي العزة الكتب
تجهمتنا رجال واستخف بنا
بعد النبي وكل الخير مغتصب
سيعلم المتولي ظلم حامتنا
يوم القيامة أنى سوف ينقلب
فقد لقينا الذي لم يلقه أحد
من البرية لا عجم ولا عرب
فسوف نبكيك ما عشنا وما بقيت
لنا العيون بتهمال له سكب.
في هذه الأبيات الزهراء(عليها السلام) تصف وضع الأمة الإسلامية بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله)،
وماذا أحلّ بهم بعد وفاته؟؛ لشدة الأمر الذي يؤلم النفس، وتتمنى الموت قبل وفاة أبيها ؛ لِما فعله الظالمون بها وبعائلتها وغصب حقها إذ (يلمس من هذه الأبيات لوعتها وحزنها العميق من الأحداث المروعة التي حلّت بها بعد رحيل أبيها إلى حظيرة القدس، فإنّ القوم لم يراعوا مكانتها وسمو شأنها، وعاملوها معاملة عادية أخذت تحزّ في نفسها)(4).
وقد أبدت الشكوى في شعرها من شماتة الأعداء كما في قولها(5):
قد كنت لي جبلاً ألوذ بظله
فاليوم تسلمني لأجردِ ضاحِ
قد كنت جار حميتي ما عشت لي
واليوم بعدك من يريشُ جناحي
وأغضُّ من طرفي وأعلم أنّه
قد مات خير فوارسي وسلاحي
حضرت منيته فأسلمني العزا
وتمكنت ريب المنون جراحي
نشر الغراب علي ريش جناحه
فظللت بين سيوفه ورماح
في هذه الأبيات صورة جميلة تصورها السيدة الزهراء(عليها السلام)؛ إذ تصور أبيها بالجبل الذي لا يهتز، إذ إنّها تلوذ بظله، ثم بعد ذلك الظلم من بعده.
2- طابع الحزن الشديد والبكاء الدائم:
عندما توفي الرسول محمد(صلى الله عليه وآله) افتجع له الصغير والكبير وكثر عليه البكاء وعظم رزؤه على الأبرياء والأصحاب والأولياء والأحباب والغرباء والأنساب، وكان حزن السيدة الزهراء(عليها السلام) يتجدد ويزيد بكاؤها ويشتد، إذ كانت (عليها السلام) تنادي وتندب أباها قائلة:
وا أبتاه ! وا أصفياه ! وا محمداه ! وا أبا القاسماه ! وا ربيع الأرامل واليتامى!.
من للقبلة والمصلى؟
ومن لابنتك الوالهة الثكلى؟(6)
وقد أشارت إلى هذا الحزن في الأبيات الشعرية التي تقول فيها(7):
قلَّ صبري وبان عني عزائي
بعد فقدي لخاتم الأنبياء
عين يا عين اسكبي الدمع سحاً
وبك لا تبخلي بفيض الدماء
وكذلك هناك أبيات تعبر فيها فاطمة الزهراء(عليها السلام) عن حزنها الشديد وترثي أباها الرسول محمد(صلى الله عليه وآله) فيها إذ تقول(8):
إنّ حزني عليك حزن شديد
وفؤادي والله صبٌ عنيد
كلّ يوم يزيد فيه شجوني
واكتيابي عليك ليس يبيد
جل خطبي فبان عني عزائي
فبكائي كلّ وقت جديد
إنّ قلباً عليك يألف صبراً
أو عزاء فإنّه لجليد
إذ نجد في النص الشعري المتقدم ذكره (حزن جديد يزيد فيه شجوني فبكائي كل وقت جديد) هذه مفردات تدلّ على الرثاء لكنّ فيها شيئًا ألا وهو:
1- وصول أعلى طاقات الحزن في الرثاء حتى إنّ الرثاء المعبر عنه في الأبيات بالحزن ليس له وقت خاص حتى يضمحل ويندثر ويتناساه صاحب الرثاء، ولهذا عبر عنه بالمتجدد والجديد وفي كل وقت.
2- الأساليب البلاغية كتقدم المصدر للتوكيد واستخدام لفظة (كلّ) التي تفيد العموم واستخدام الفاء كلّها دلت على أقصى طاقات الحزن والرثاء.
ونجد أيضاً في النص الشعري الآنف الذكر (اكتئابي، وشجوني، جلّ خطبي، عزائي) فهي ألفاظ تبعث على الألم إذ يستخدمها الشاعر الراثي؛ لأنّها نابعة من اليأس الشديد وعمق التأثير والتأثر عسى أن يألف صبراً كما عبرت في البيت الشعري.
3- القهر السياسي:
1- غصب حقها بعد وفاة الرسول الأكرم محمد(صلى الله عليه وآله) في إرثها وفي نِحلتها لفدك إذ كانت الزهراء شوكة في أعين الظالمين، فما إن كان فراق بينها وبين أبيها سيد الكائنات فقد جرى على الزهراء ظلم ما بعده ظلم، فكان غصب فدكٍ منها وإحراق بيتها وإسقاط جنينها فعندها ذهبت الزهراء للمطالبة بحقها في إرث أبيها فأنكروا إرثها وقالوا لها ـ اللعناء ـ: سمعنا رسول الله يقول: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث) وقد قام الظالمون بالهجوم على دار الزهراء(عليها السلام)
وعصرها خلف الباب وكسر ضلعها وصفع خدها وقاموا بأخذ الإمام علي(عليه السلام)
إلى المسجد فلم يعلم ما جرى على الزهراء(عليها السلام) من جور وظلم.
وهذه الحرب والظلم الواقع على فاطمة وأمير المؤمنين(عليهما السلام) كلّه من أجل الوصول إلى الخلافة وفاطمة الزهراء(عليها السلام)
صورت هذه المشاهد في أبياتها الشعرية المتقدمة، والتي تقول فيها:
تجهمتنا رجال واستخف بنا
بعد النبي وكل الخير مغتصب
فالسيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام) تصور ما فعله القوم الظالمون بها بعد وفاة
الرسول(صلى الله عليه وآله) من غصب حقها وإسقاط جنينها.
2- مرافقة الظلم وسطوة الظالم بعد وفاة أبيها والظلم الذي لحق بها وبأمير المؤمنين (عليه السلام) حتى أصبح الإسلام غريباً؛
لوجود الظلام في سدة الحكم كما صورت ذلك في قوله(9):
وبكاك الإسلام إذ صار في الناس
غريباً في سائر الغرباء
لو ترى المنبر الذي كنت
تعلوه علاه الظلام بعد الضياء
3- طابع الفراق المفاجئ بسبب موت أبيها وله ارتباط بطابع فقدانها إياه لوفاته، فحزن الزهراء على أبيها شديد حتى انزعج أهل المدينة من كثرة بكائها وأقبلوا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقالوا له يا أبا الحسن إنّ فاطمة تبكي الليل والنهار فلا أحد منا يهنأ بالنوم من الليل ولا بالنهار لنا قرار وإنّا نخبرك أن تسألها إما تبكي ليلاً أو نهاراً(11)، فالزهراء تبكي على أبيها لشدة حزنها ولعظم مصابها ولفراقها للرسول(صلى الله عليه وآله)؛ لأنها لا تطيق الفراق كما صورت هذه في قولها(12):
قلّ صبري وبانَ عني عزائي
بعد فقدي لخاتم الأنبياء
ويحق للسيدة الزهراء(عليها السلام) أن لا تمتنع عن البكاء على تلك الفاجعة العظمى والكارثة الكبرى؛ لأجل أناس لهم غايات وأهداف يعلمها الله فبنى لها الإمام أمير المؤمنين بيتاً نازحاً عن المدينة في البقيع يسمى (بيت الأحزان)(13).
وكانت السيدة الزهراء (عليها السلام) طوال المدة التي عاشتها بعد وفاة أبيها محمد (صلى الله عليه وآله)
حزينة لفقده ولاختلال الأوضاع بعده كما في قولها(14):
إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها
واختل قومك فأشهدهم ولا تعب
وكانت الأيام التي عاشتها الزهراء(عليها السلام)
بعد وفاة أبيها أيامًا عصيبة؛ لما فعله بها الظالمون من حرمانها إرثها ومصادرة نِحلتها أرض فدك التي أعطاها الرسول(صلى الله عليه وآله)
عندما أنزل قوله تعالى: (وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا) الروم/38.
فضلاً عن ذلك فحزن السيدة
الزهراء(عليها السلام) يتجدد ويزيد، وبكاؤها يشتدً ؛
لما حلّ بها(عليها السلام) بعد وفاة أبيها فهي لا تهدأ، وهي تطلب من الله الصبر على ما يحلّ بها كما هو واضح في أبياتها التي تقول فيها(15):
وإذا بكت قمرية شجنا لها
ليلاً على غصن بكيت صباحي
فالله صبرني على ما حل بي
مات النبي قد انطفى مصباحي
تصور بكاءها على الحبيب الحنون أبيها الرسول (صلى الله عليه وآله)، وإنّ الله صبرها على ما حلّ بها بعد موت أبيها وانطفاء النور عليها.
نشرت في العدد 62
1) ينظر: فاطمة من المهد إلى اللحد، السيد محمد كاظم القزويني،: 204
2) ينظر: مآسي بضعة الرسول: باقر شريف القرشي: 73- 92
3) الأمالي /الشيخ المفيد/ص41.
4) مآسي بضعة الرسول: 122
5) ديوان فاطمة الزهراء(عليها السلام)، كامل سلمان الجبوري: 38-39
6) ينظر: فاطمة من المهد إلى اللحد: 139
7) ديوان فاطمة الزهراء(عليها السلام): 23
8) المصدر نفسه: 41
9) المصدر نفسه: 23
10) ديوان فاطمة الزهراء(عليها السلام): 38- 39
11) ينظر: فاطمة من المهد إلى اللحد: 379
12) ديوان فاطمة الزهراء(عليها السلام): 23
13) ينظر: فاطمة من المهد إلى اللحد: 288، ومآسي بضعة الرسول(صلى الله عليه وآله): 70.
14) ديوان فاطمة الزهراء (عليها السلام): 30.
15) المصدر نفسه: 39-40