احتفى شُرّاح نهج البلاغة بدلالات حروف العطف الواردة في كلام الإمام علي(عليه السلام) ومنها دلالة الحرف (حتى) فقد اختلفت نظرتهم لدلالته، فتارة يذكرون عدة معانٍ له وتارة يبقون الحرف على معناه الأصلي، وهذا منهج عام طرقه الشُرّاح جميعهم وإن تفاوتوا فيه بين موضع وآخر، وعند متابعة هذه المواضع والبحث في إخراج الحرف عن مساره الدلالي وإعطاء الحرف معنى حرف آخر، يتبين أن الشُرّاح إنّما خلطوا الأمرين بسبب فهمهم الخاص للنص، لا بسبب تحري الدلالة الحقيقية لقوله(عليه السلام)، المفهومة من إبقاء الحرف على معناه الأصلي الذي لأجله استعمل من دون غيره. وعلى الرغم من ذلك ثمة التفاتات مهمة لدى الشُرّاح إلى الفروق الدلالية بين الحروف ذوات المعاني المتقاربة للتمييز بين معانيها الدقيقة، وقد اتضح ذلك بجلاء حين عرضت لتلك المواضع فتبين أنْ لا تعدد لمعانيها ولا نيابة فيها، وأنّ (حتى) قد احتفظت بدلالاتها الأصلية في هذه السياقات، فهي تستعمل لانتهاء الغاية. وسنتناول استعمالات (حتى) في نصوص من نهج البلاغة، وأقوال الشرّاح فيها، ونحاول أن نكشف عن المعنى الجامع لمواضع استعمالها:
دلالة (حتّى)
أقرّ الشُرّاح عدة دلالات لـ (حتّى)، منها العطف والجرّ والاستثناء وغير ذلك، ويمكن إرجاع كل هذه الدلالات إلى معنى واحد هو الدلالة على انتهاء الغاية. ومعنى انتهاء الغاية أن ما بعد (حتى) منقطع عمّا قبلها، وما قبلها ينتهي عند حدود ما بعدها. ودلالة (حتى)الرئيسة هذه متأتية من دلالة أصواتها (1)،
فـ (حتّى) مشتقة من الحتّ، وألحقوا بها ألفا في اللفظ، وياء في الخط، لئلا تلتبس باسم أو فعل(2)، ولمّا كان الحتّ هو الاستئصال والإزالة والخلوص إلى نهاية، كانت (حتى) بمعنى الوصول إلى نهاية الأمر(3) وقد هيمنت فيه هذه الدلالة على غيرها من الدلالات في شروح النهج(4).
وعلى الرغم من ذلك اختلف الشُرّاح في دلالة أمثلة (حتى) الواردة في النهج كثيرًا ،كما في قول الإمام(عليه السلام) لما بويع بالخلافة: ((فو اللهِ مازلتُ مدفوعاً عن حقّي مُستأثَراً عليَّ منذُ قُبِضَ رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) حتى يوم الناس هذا))(5)، فمعظم الشُرّاح(6) على أنّ هذه الخطبة خطبها الإمام (عليه السلام) لما بويع بالخلافة، وفيها يفاد من (حتى) أنه(عليه السلام)
جاء بها لأنه أراد وقوع الظلم عليه حتى يوم مبايعته بالخلافة. ولو استعمل (إلى) لما كان فيه إشارة إلى رجوع الحق إليه(عليه السلام).
ويؤيد ذلك أنه(عليه السلام) نفى في أوّل هذه الخطبة المذكورة أن يكون كالضبع تنتظر الصائد حتى يأتيها ثم يوقع بها(7) فهو(عليه السلام)لا ينتظر وقوع الحيف عليه، بل يضرب بالحق على الباطل. والفرق الدلالي بين (حتى) و(إلى) يتمثل في أن (إلى) أمكن في الغاية من (حتى) وأعم(8).
ومن هنا تسمّح الخوئيني بعض المواضع(9) فلم يفرق بينهما،إذ فسّر (حتى) بـ (إلى)(10) في قوله تعالى: (حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى)(11). والمعنى الدقيق لفعل بني إسرائيل في هذه الآية يقتضي أنهم يعكفون على عبادة العجل حتى يروا موسى(عليه السلام) راجعًا إليهم، فإذا دخل إلى مكانهم امتنعوا عن ذلك، وهذا تلويحٌ منهم إلى إدراكِهم قُبحَ ما فعلوه، لأنهم يتركون عبادة العجل حين رؤيتهم موسى(عليه السلام)،
ولو استعملت الأداة (إلى) لكان المعنى أنهم يعكفون على عبادتهم العجل بعد وصول موسى (عليه السلام) إليهم، وحينئذ ليس ثمة إشارة في كلامهم إلى أنهم مدركون لكفرهم ومعصيتهم لنبيهم.
ومن أمثلة (حتى) التي اضطرب الشُرّاح بشأنها أنّ رجلا كان مع الإمام عليّ(عليه السلام) واسمه مصقلة بن هبيرة، اشترى سبياً من عامل الإمام(عليه السلام) واعتقه ولكنه أخّر ثمنه، فلمّا طُولب بالمال هرب إلى معاوية، فقال الإمام يذمُّه: ((قَبَّحَ اللهُ مَصْقَلَةَ فَعَلَ فِعْلَ السّادَاتِ، وَفَرَّ فِرَارَ العَبِيْدِ، فَمَا أَنْطَقَ مَادِحَهُ حَتَّى أَسْكَتَهُ، وَلا صَدَّقَ وَاصِفَهُ حَتّى بَكَّتَه))(12). وفي مدلول (حتى) في الموضعين خلاف بين الشُرّاح،
إذ ذهب بعضهم إلى أنها عاطفة تفيد جمع الجهر بمدحه إلى السكوت عنه، وجمع تصديق واصفه إلى تكذيبه، فهو قد جمع بين غايتين متنافيتين: إنطاقه لمادحه بفداء الأسرى، وإسكاته له بهربه قبل تمام إنطاقه(13). وهذا يعني أنها بمعنى الواو. وأخرجها بعضهم على معنى العطف الدال على التعليل والبيان، وهو متحقق بالفاء العاطفة ((فإنّ إسكاتَ المادحِ لا يُتَصوَّرُ قصدُه إلا بعد إنطاقه، وهو لم يُتمِّمْ فعلَه الذي يطلبُ به إنطاق مادحيه بالكرم والحمية ونحوهما، فكأنّه قصدَ إسكاتَ مادحِه بهروبه فأزوى عليه ذلك))(14).
وجوز بعضهم أن تكون (حتى) في الموضعين بمعنى الاستثناء المفرغ، لأنه لم ينطق مادحه إلا بقصد إسكاته بهربه، ولم يصدق واصفه إلا بقصد تكذيبه(15).
وأخرج بعضهم (حتى) في هذين الموضعين إلى معناها المعروف لاختلاف الفعلين، لأن اختلاف الغايتين مقصود، فبه تحصل الدلالة على تباين أفعال هذا الرجل وقبح نفسه، فكأنه لم يتحمل فعل الخير حتى يصرح بحبه للرذيلة، فجاءت (حتى) تعبر عن هذه الغاية وتترك للسامع تصور نفسية الرجل، وكأن القائل ((ما قال: أحسنَ مصقلةُ في عتقِ الأسرى حتى ارتفع صوتٌ يقولُ: قبّحه اللهُ من لصٍّ محتالٍ ))(16).
وعضد الخوئي دلالة (حتى) على التعليل بقوله تعالى: (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا)(17). فكأنها بمعنى (كي)(18).
وحملُ(حتى) على التعليل في الآية الكريمة يجعلُ المعنى أن الكفار يقاتلون المسلمين لغاية واحدة معللة بالعودة بهم إلى الكفر، وبقاءُ (حتى) دالة على انتهاء الغاية يبينُ أن قتالهم ممتد لغاية حصول الكفر، وإنما لم يجعل القتال علة للرجوع إلى الكفر، لأنه ربّما تكون هناك غايات أُخر من حرب الكفار للمسلمين، من نحو إبقائهم على العادات التي نسخها الإسلام وحرّمها.
وفي قول الإمام(عليه السلام): ((وَقَدْ أَرْعَدُوا، وأَبْرَقُوا، وَمَعَ هَذينِ الأَمْرَيْنِ الفَشَلُ، وَلَسْنَا نُرْعِدُ حَتَّى نُوْقِعَ، وَلا نُسِيْلُ حتّى نُمْطِرَ))(19)، ذهب الشارح الخوئي(20) إلى حمل (حتى) على معنى الاستثناء، والمعنى :
إنّا لا نُهدِّد إلا أن نعلم أنَّا سنوقع، وبهذا يكون التهديد سابقًا للإيقاع، على تأويل علم الإمام(عليه السلام) المسبق بتحقق الإيقاع بالعدو.
وتابعه أنصاريان في هذا التأويل من غير أن يصرح بمجيء (حتى) هنا بمعنى(إلا)(21). وأبقى شُرّاح النهج الآخرون (حتى) على معناها من انتهاء الغاية، ليكون كلامه(عليه السلام) إنّا ((إذا أوقعنا بخصمنا، أوعدنا حينئذ بالإيقاع بغيره من خصومنا))(22)،فالإيقاع بأحد الخصوم سابق لتهديد آخرين، وهو بمنزلة الإنذار والوعيد لهم(23). فتكون (حتّى) دالة على أن غاية سكوتهم عن الرعد ممتدة لحين الظفر بأحد خصومهم فيكون رعدهم مآثر يتناقلها الناس، لا صخب كلام يرددونه بأفواههم كما يفعل خصومهم.
وفي قوله(عليه السلام): ((إنّ اللهَ سبحانه بَعَثَ مُحَمَّدا (صلى الله عليه وآله) وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ العَرَبِ يَقْرأُ كِتَابًا، وَلا يَدَّعِي نُبُوَّةً، فَسَاقَ النَّاسَ حتّى بَوَّأّهُمْ مَحَلَّتَهُمْ، وَبَلَّغَهُمْ مَنْجَاتَهُمْ، فَاسْتَقَامَتْ قَنَاتُهُمْ، وَاطْمَأَنَّتْ صِفَاتُهُمْ، أَما واللهِ إنْ كُنْتُ لَفِيْ سَاقَتِهَا، حتَّى تَوَلّتْ بِحَذَافِيْرِهَا، مَا عَجَزْتُ، وَلا جَبُنْتُ، وإِنَّ مَسِيْري هَذا لَمِثْلِهَا، فَلأَنْقُبَنَّ البَاطِلَ حتّى يَخْرُجَ الحَقُّ مِنْ جَنْبِهِ))(24)أغرب الدكتور إبراهيم السامرائي فعدّ: (إن كنت لفي ساقتها) سياقًا منفيًّا لا مثبتًا مؤكدًا، و(إن)
نافية وليست مخففة من الثقيلة، و(حتى) دالة على تعليق النفي وإبطاله فهي بمعنى (إلا) قال (حتى) هذه يُؤتى بها في حيِّز الجملةِ لتعلُّقَ النفي و تبطلَه… وقد ذهب الإمامُ محمدُ عبده إلى أنّ (إنْ) هذه هي المخففةُ من الثقيلة…وهذا لا يقرُّه عليه النحاةُ، وذلك لأنّ (إن) المكسورة الهمزة إذا خُففت جاز إعمالُها وإهمالُها، والأرجحُ الإهمالُ))(25)، والمعنى الذي رآه السامرائي هو أن الإمام (عليه السلام) يريد أن يقول: ما كنت في الذين يسوقون الحرب طردا حتى تولت(26).
وسائر شُرّاح النهج يفسرون (حتى) بانتهاء الغاية(27)، والمعنى أنه (( شبّه (عليه السلام) أمرَ الجاهلية إمّا بعجاجةٍ ثائرةٍ أو بكتيبةٍ مقبلةٍ للحرب، فقال: إني طردتُها فولّتْ بين يدي، ولم أزلْ في ساقتها أنا أطردها وهي تنطردُ أمامي، حتى تولّت بأسرها ولم يبقَ منها شيءٌ…وإنّ مسيري هذا لمثلها، فلأُنقبَنّ الباطلَ ))(28)، وفي هذا التوجيه تكون (إن) في:(وإن كنت لفي ساقتها) مخففة من الثقيلة، والسياق مؤكد، و(حتى) أفادت أنه (عليه السلام) ثابت في ميدان الجهاد بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) لحين كسر شوكة الكفر وأهله.
ومن ذلك ما في قول الإمام (عليه السلام) مخاطباً شيعته عند مسيره لحرب أهل الجمل: (( واللَّهِ لَتَفْعَلُنَّ، أَوْ لَيَنْقُلَنَّ اللهُ عَنْكُمْ سُلْطَانَ الإسْلاَمِ، ثُمَّ لاَ يَنْقُلُهُ إِلَيْكُمْ أَبَداً، حَتَّى يَأْرَزَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِكُم))(29)، جزم ابن أبي الحديد أنَّ (حتى) دالة ٌ على أنّ ما بعدها علة في حصول ما قبلها، فالأمر – أي السلطان – لا يعود إليهم حتى يصير في عهدة غيرهم. على حين احتمل البحراني في (حتى) احتمالين، تتغير الدَّلالة بحسب كلِّ احتمال، فإنْ كانت (حتى) دالةً على انتهاء الغاية فيُفهَم منه عدم عودة السلطان إليهم، وإنْ جُعلت سبباً لعدم نقل السلطان، فُهِم منه عودته إليهم معنى(30). ومعنى انتهاء الغاية لـ (حتى) في هذا المقام هو الأنسب.
نشرت في العدد 62
1) ينظر: نتائج الفكر 252، وبدائع الفوائد 1/127.
2) ينظر: شرح المقدمة الجزولية الكبير 2/429.
3) ينظر: معاني النحو 3/ 31، ونظرة مقارنة على بعض أدوات المعاني 134.
4) ينظر: معارج نهج البلاغة 89، ومنهاج البراعة، الراوندي 2/129، وشرح نهج البلاغة، البحراني 1/311، وشرح نهج البلاغة، محمد عبده 1/321، وشرح نهج البلاغة، أنصاريان 1/159، وشرح نهج البلاغة، محمد أبو الفضل 1/340.
5) نهج البلاغة، الخطبة 6، ص 37.
6) ينظر: وشرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد 1/223، وشرح نهج البلاغة، البحراني 1/281، وفي ظلال نهج البلاغة 1/266.
7) ينظر: نهج البلاغة، الخطبة 6، ص 37.
8) ينظر: كتاب سيبويه 2/310، وشرح المقدمة الجزولية الكبير 2/ 78، ومعاني النحو 3/31.
9) ينظر: منهاج البراعة 3/ 144، 159 و 4/ 182.
10) ينظر: المصدر نفسه 3/144.
11) طه / 91.
12) نهج البلاغة، الخطبة 44، ص 86.
13) شرح نهج البلاغة، البحراني 1/118، و منهاج البراعة، الخوئي 4/ 233، وتوضيح نهج البلاغة 1/ 210.
14) شرح نهج البلاغة، البحراني 1/117، و شرح نهج البلاغة،أنصاريان 1/165.
15) ينظر: شرح نهج البلاغة، البحراني 1/118.
16) في ظلال نهج البلاغة 1/ 267.
17) البقرة/ 217.
18) ينظر: منهاج البراعة 4/182.
19) نهج البلاغة، الخطبة 9، ص 38.
20) ينظر: منهاج البراعة 3/ 159.
21) شرح نهج البلاغة 1/87.
22) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد 1/237، وينظر: شرح نهج البلاغة، محمد عبده 1/48، وفي ظلال نهج البلاغة 1/274، وشرح نهج البلاغة، محمد أبو الفضل 1/44.
23) ينظر: أعلام نهج البلاغة 1/55.
24) نهج البلاغة، الخطبة 33، ص 73ـ74.
25) مع نهج البلاغة ـ دراسة ومعجم 35.
26) ينظر: المصدر نفسه 35، 212.
27) ينظر: منهاج البراعة، الراوندي 1/371، وحدائق الحقائق 1/ 259، وشرح نهج البلاغة، البحراني 2/73، وأعلام نهج البلاغة 1/65، وشرح نهج البلاغة، محمد عبده 1/90، ومنهاج البراعة، الخوئي 4/ 61، وفي ظلال نهج البلاغة 1/220.
28) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد 2/186.
29) نهج البلاغة ( الخطبة 169 ) 324.
30) منهاج البراعة: الخوئي1/110.