Take a fresh look at your lifestyle.

أمام لوحةِ عشقٍ نادرة

0 775

     (*) هذهِ الخُطَى انفَرطَتْ مِن عِقدِ مَحبَّتِها ولَهفتِها، أفردَتْ جناحينِ من عَطشٍ صَاخِبٍ، وحلَّقَتْ نَحوكَ، ليس لِكَفَّي الزَّمنِ اتساعٌ ولا قدرةٌ يَستعينُ بها على تَقييدِها أو كَبْحِ جِماحِها، ففضاءُ عِشقِكَ يَدعُوها، ولا تَملكُ إلا أنْ تُلبيَ يا حُسين !..
(*) مَنْ قالَ أنَّ عِشقاً كهذا يَنتهي بالشُّهود؟؟ مَنْ قالَ أنَّ هِجرةَ القلوبِ إليكَ سينقَطِعُ حَبْلُها السُريُّ وتَجف، وأنَّ البصائرَ التي يَمَّمتْ يَقينَها لنورِك ستَكلُّ أو تَنعسُ أو تطرفُ حتى؟؟ أوَ يَملكُ المَأخوذُ بِحُبِّكَ فَراشاتِ دَمِهِ المُتدافعةَ نحو مِصباحِ أسرارِكَ؟؛ المصباحُ الذي علَّقهُ المَولى (تعالى ذِكرُه) شمسَ هدايةٍ على صَدر السَّماءِ يا حُسين!..
(*) هذهِ القُلوبُ السَّاخِنَةُ، والوجوهُ التي يَفيضُ مِن آنيتِها الشَّوقُ والوَلَهُ، الأيْدي التي تَلوبُ باحِثةً عَنْ بَردِ الوصُولِ إليكَ، تَردِّدُ كلماتِكَ التي أضَاءَتْ حَياةَ العِبادةِ ومَنَحَتْ سماءَها رُوحاً وارفَة:
تَركتُ الخَلقَ طُرَّاً في هَواكا
وَأيْتَمتُ العِيالَ لكَي أراكَا
فلو قَطَّعتَني بالسَّيفِ إربـاً لمَا
مَالَ الفُؤادُ إلى سِواكَـــا
تُردِّدُ كَلماتِكَ يا أصْفَى نَبعٍ، ويا بابَ بَهجَتِنا، وَجَنَّتِنا، في يديكَ الكَريمتينِ عَقَدَ اللهُ تَعالى مَفاتيحَ أرْواحِنَا، فَجُدْ عَلى ظَلامِها المُطْبِقِ بِنورِكَ يا حُسين!..
(*) إليكَ.. مِنْ شَتَّى بِقاعِ الأرضِ يَزحَفُ الوَلاءُ، يَحمِلُ على كَفَّيهِ وجهَهُ الذي غَيَّرتْ مَلامحَهُ لوعَةُ الاغتراب، حينَ يَراكَ تَنْبَعثُ في أوردتٍهِ وَطَنَاً، وتَصحُو في غَيابَةِ صَباحَاتِهِ المُطفَأةِ فصُولُك النَّابِضةُ بالفَجْرِ والأعيَادِ، تَغسِلُ عَن جُفونِهِ رَمادَ الألمِ، وتَمتلئُ عَيناهُ بالفَرحِ والحُبِّ هَادرةً:
لقدْ طَالَ اغترابُنا يا حُسين!..
(*) هذهِ العُيونُ تَقرأُ في سُورةِ طَفِّكَ حياتَها، تَبسِطُ أشرِعَتَها في سَماواتِ عَطائكَ المُحمَّدي، طَفُّك الذي لا يَنطَفِئُ، يُبَدِّدُ عتمةَ الدَّربِ والتَّعبِ والقُيودِ، لأنَّهُ التَّسبيحُ الحقيقيُّ للمَولى (جلَّ وعَلا)، لأنَّهُ السَّعيُ إلى الكَمالِ، لأنَّهُ سَفينُكَ الذي يَمخرُ عُبابَ البُحورِ ولُجَجَها الغَامِرةَ، و ليسَ لَنا غَيرُ سَفينِكَ يا حُسين!..
(*) ليتَ الكَلمةَ تتسعُ لبَحرِكَ، أنتَ تَفيضُ دَوماً، فِي كُلِّ لحْظةٍ نُفرِغُ عُيونَنا مِن حُمولَتِها الذَّابلةِ لتَسكبَ عَلى حَبَّاتِها شُموسَاً يانِعَة، كَمْ مَرةً زادَنا ريُّك عَطَشاً، أَوَ يُمكِنُ أنْ نَرتوي مِنْكَ يا حُسين!؟؟
(*) لقدْ عَلَّمْتَ هذي العيونَ ألَّا تُبصرَ غَيرَ ضياءِ النَّهار، فكلُّ ضَوءٍ غَيرُه زائفٌ، وألَّا تَلجأَ لغيرِ جُودِيِّ مَحبَّتكَ حينَ تَفيضُ تَنانيرُ الشُّبُهات.. عَلَّمْتَها حينَ تَزدحمُ الأبصارُ عِندَ أبوابٍ شَتى ألَّا تَطرقَ غَيرَ بابِ مُحمّدٍ وآلِ مُحمّدٍ، وألَّا تُصغِي لهُتوفِ الشَّيطانِ بها، لقدْ شَرحْتَ صدورَ بصائرِنا بلطائفِ نُورِكَ يا حُسين!
(*) أفِضْ على هذهِ الجُمُوعِ الزَّاحفةِ إلى ضِفافِكَ دُعاءً بالسَّكينةِ، يا سيدَ الدُّعاءِ والسَّكينَةِ، لقدْ رافقَ عِشقُكَ نَبضَها مُذ شَهقَتْ شَهقَتها الأولَى في دُنيا الوَلايةِ والمَحبةِ، ورَكبَتْ في سِنِيِّ زَحفِها الغَابرةِ أمواجَ النَّارِ لتصِلَ إليكَ، ويَصخَبُ في دَمِها يَقينٌ بفَتْحِكَ الذي صَنعْتَهُ بدمِكَ و رَضيعِكَ وأخيكَ وبنيكَ ونِسائكَ وصَحبِكَ، إنَّهُ فَتحُ النُّفوسِ، فَتحُ القُلوبِ عَلى فُيوضَاتِ العِشقِ الإلهِيِّ الذي لا تُدرِكُهُ البَّصائِرُ المُعتِمَةُ، فأيُّ قُربٍ هو قُربُكَ يا حُسين!
(*) مِنكَ خُطوتُنا الأولى تُولَدُ، وإليكَ تَنتَهي. مِنكَ كلمَتُنا الأولى، ولصُحُفِكَ الخَضراءِ تَنتَمي. أنتَ بَوابةُ المُبتدأ والمُنتهى، تَكتظُ عِند أعتابِها أحلامُنا وآمالُنا، إلى عينيكَ أبا الرُّحماءِ يؤوبُ رفيفُ العَطْفِ والشَّفقةِ، مَنْ يَستطيعُ أنْ يَبكيَ أسَفَاً وإشفَاقاً عَلى قاتِلِيهِ، وفي عَينيهِ تَشتعلُ خيامُه بالعَويل؟؟ أنتَ وحدَك مَن استطاعَ ذلكَ، أوْثَقتَ شياطينَهم بجِبْريلِ دمائكَ، صَنعْتَ مِن جراحِكَ نافذةً للحَمائمِ، ودَرباً للسَّالكينَ يا حُسين!
(*) ماذا صَنعْتَ بعُشَّاقِكَ أبا العَارفين؟؟!!!، تَحكي إلى التاريخِ شُموسُ محبَّتِهم الأزليةُ مَلاحمَ الوَلهِ وحَكايا الوَجدِ والعُرُوجِ لوردةِ روحِكَ الحَانيةِ، نَقَشُوا عَلى رَقيمِ جِباهِهِم قَصائدَهُم التي لا يَستطيعُ تَأويلَ صورِها والوصُولَ إلى مَفاتيحِ دَلالاتِها قارئٌ غيرُهم، هُم فَقط أدركُوا سِرَّ الجَّمالِ الذي يَصنعُهُ العِشقُ شِعراً، هُمُ الوحيدونَ الذينَ صَنعُوا مُدناً للنَّهار، وأسْكَنوا فيها الحُرِّيةَ والمَحبةَ والتَّسامحَ، بَعدَ سَنواتٍ ضَوئيةٍ مِن عُصورِ عِشقِهم، أيُّ شَجرةٍ للعَزمِ والإصرارِ غَرسْتَ في نفوسِهم يا حُسين ؟؟!!
(*) كُلُّ المَدائحِ تَخفِضُ أجنحَتَها عِندَ أعتابِ دَمِكَ الشَّاهِقِ، يا مُحرِّرَ الحُرُوفِ مِن أسرِها، وصانعَ ثورةِ الكَلمَةِ، كُلُّ الألسُنِ سَادِرةٌ في مَتاهاتِ الكَلامِ حِينَ تَبتعدُ عَن أبجَديَّتِك. عِندَ شَاطئِ جُملَتِكَ الصَّاخِبَةِ (هَيهاتْ مِنَّا الذِّلةُ) تَرسُو اللُّغاتُ خَرساءَ، وتَقِفُ أعماقُها عِندَ سُطوحِ مُدَوَّنتِكَ شَارِدةً، تَقطِرُ حُرُوفُها دَهشَةً وذُهُولاً. يَغمُرُنا صوتُك، دَوماً، بالبَهاءِ، ويَصعقُ غفلَتَنا كُلَّما لَوَّثَ اليأسُ حناجِرَنا يا حُسين!
(*) بأيِّ لُغةٍ يُمكنُ لي أنْ أصِفَ مَا أرَى ؟
بأيِّ عَينٍ يُمكنُ لي أنْ أرَى مَا يُرَى ؟ كُلُّ شيءٍ، كُلُّ حَركةٍ، كُلُّ هَمسَةٍ أو صَيحةٍ هُنا، تَنزاحُ عَن المَألوفِ والمُعتادِ، كُلٌّ يَبتكِرُ فَصلاً خَامِساً خاصَّاً بهِ في هذهِ السَّنَةِ، كُلٌّ يُسجِّلُ رسالتَه بمَرايا رُوحِهِ، وعَناقيدِ دُمُوعِهِ، كُلُّ مَلامحِ المَشهدِ لا تَستقِرُ عَلى حَالٍ، لا تَلبثُ الصُّورُ المُتَشكِّلةُ إلا قليلاً قَبل عُروجِها السَّريعُ.. ما الذي تَفعلُهُ الألوانُ في لوحةٍ تَهطِلُ على ساحَتِها المَلائكةُ مِثلَ النَّيازكِ عَلى بَحرٍ مِنَ شُمُوسٍ؟!! لأنَّكَ روحُهَا يا حُسين!
(*) ما أشدَّ اتساعَ المَشهدِ، ومَا أضيق العِبارَة!، مَا أعمَقَ إشارةَ هذهِ الأكُفِّ، ومَا أعْجَزَ الكلمَاتِ!… أنتَ مَنْ عَلَّمْتَهم أنْ يَقولوا بِمُنتَهى الصَّمتِ، وأنْ يَصمُتُوا بمُنتَهى القَولِ، أنْ يَنتصِروا عَلى نِصَالِ السُّيُوفِ بحرارةِ الدَّمِ، تَخَلَّقَتْ مَصائرُهم مِن جَديد، مِن نَوافذِ جِراحِكَ النَّاطِقةِ، وراءَ ظُهورِهم خَلَّفُوا أنفُسَهم، وجَاؤوكَ وَالهينَ يا حُسين!
(*) هَكذا بينَ يديكَ تتزاحمُ الخُطى، وتَشُقُّ نَحو شُرُفاتِ نِدائكَ مَجراها، تَرتَسِمُ عَلى أحداقِها صورتُكَ وأنتَ تَرفعُ بياضَ رضِيعِكَ أمامَ سَوادِهم، كيفَ يَمرُدُ السَّهمُ الأعْمَى توتَ رَقَبتهِ المَائلةِ، كيفَ رَفْرفَتْ دهشتُهُ عَلى صَبَّارِ ذراعِكَ المُشتَعِلِ!. وتَراكَ تُوجِّهُ نصلَ عَليِّكَ الأكبرِ نَحو نَزيفِ ارتجافِهم، وتُقبِلُ بمهجَتكَ عَلى أحجَارِهمُ المَغمورةِ بالوَحلِ..
وتَرى يا سَيدي كيفَ تفتَّتتْ وجوههُمُ الدَّاكنةُ، وامتدَّ بنا الطَّريقُ.. فَكَمْ عُمْرَاً سنحتاجُ لنَتَهجَّى أبجديَّتَكَ، ويغمِرَنا نَديفُ بهائكَ المَلكوتِيِّ يا حُسين.

نشرت في العدد 62

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.