الزيارةُ الجامعة الكبيرة المروية عن الإمام علي الهادي (عليه السلام) موسوعةٌ معرفيّة متكاملة، تضمّنت معارفَ إلهية متعالية، وحقائقَ عن مقامات آل البيت ومنازلهم عند الله سبحانه رائقةً. وقد شَرَحَ الزيارة أكابرُ العلماءِ، فقد شَحَذَ نصُّها الشَّريفُ هِمَمَهُمْ، وَبَرى أقلامَهَمْ فأقبلوا عليها، يشرحون مَتْنَها، وينهلون من معارفِها، واستمرت تلك الشروح جيلاً بعد جيل، حتى أحصى منها المحقِّق آغا بُزرك الطهراني عشرين شرحاً(١).
وقد ثبت من استقراء كلام الإمام (عليه السلام) أنّ أسلوب الشرط كان من المهيمنات الأسلوبية فيه، إذ وردت الجملة الشرطية في النصِّ في واحد وعشرين موضعاً، وتنوعت تراكيبه في مواضع كثيرة من الزيارة، واستُعين بها لتثبيت المضامين الاعتقادية العالية، بما تضمنته بنية الشرط من مسببات ونتائج تقود الأذهان إلى الإذعان لما يُلقى إليها والتسليم به.
وكانت الأداة (مَنْ) من أهم تلك المهيمنات، ممّا يلفت النظر إلى أهمية دراسة التركيب الشرطي الذي وردت فيه، وما استتبع ذلك من دلالاتٍ متنوعةٍ، مبنيةٍ على أساس المعنى الوضعي لهذه الأداة في اللغة، ويمكن لنا أن نعرض لذلك على النحو الآتي:
مَنْ :
في أصل اللغة اسم وُضِعَ للدلالة على مَنْ يعقل، ثم ضُمِّنَ معنًى آخر وهو الشرط، فصار اسماً يدلُّ على المجازاة، فهو كناية عن جنس العاقلين، وعلّة استعماله في التركيب الشرطي، أنّه يتضمَّن معنى العُمُوم لجميع مَن يعقل ، فضلاً عن استعماله اسماً مُبهماً في أزمان الربط بين الفعل والجزاء، إذ يقوم بربط الشرط بالجواب بزمن مطلق(٢).
ويُشْعِر التركيب الشرطي بالأداة ( مَنْ ) (بعدم التعويل على أصل الشخص ومكانته أو أي اعتبار آخر، وحقيقتُه ترتيبُ جزاءٍ على شخصٍ ما اتّصف بصفةٍ ما بحيث يبدو كلُّ مَن اتَّصف بالصفات، أو تلبَّس بالأعمال مستحقاً لذلك الجزاء خيراً كان أو شرّاً)(٣) .
وتَرِدُ الأداة (مَنْ) في دلالات سياقية متعددة منها (الترهيب والترغيب، والدعاء، والتهديد، والتحذير، وبيان العاقبة)(٤).
وفي نصِّ الزيارة الجامعة الكبيرة كان لهذه الأداة الحضور الأكبر في النصِّ، إذ وردت في تسعة عشر موضعاً، منها أحد عشر موضعاً على الترتيب الأصلي للجملة الشرطية، وثمانية مواضع خالفت ذلك. ومن البدهي أن يكثر استعمال هذه الأداة في نصوص الزيارة، ذلك أنّ الإمام (عليه السلام) في مقام مخاطبة العقلاء من الأمة عامةً، لغرض إرشادهم وتنبيههم على حقائق الأمور المبهمة عندهم، غير القارّة في أذهانهم،
ومن أمثلة استعمالها في كلام الإمام (عليه السلام) ما في قوله: (مَنِ اتَّبعكم فالجنةُ مَأوَاهُ، وَمَنْ خَالفكم فالنارُ مثواه، وَمَنْ جَحَدَكُم كَافِرٌ، وَمَنْ حَاربكم مُشْرِكٌ، وَمَنْ رَدَّ عليكم في أسْفَلِ دَرَكٍ من الجحيم)(٥)، فيُلحَظ ورود جملٍ شرطيةٍ متواليةٍ، عُطِفَ بعضها على بعض بالواو، فالجملة الاُولى(مَن اتّبعكم فالجنة مأواه) وردت لأجل الترغيب بدلالة قوله (الجنة مأواه)، على حين سيقت الجملة الثانية (وَمَنْ خَالفكم فالنار مثواه، وَمَنْ رَدَّ عليكم في أسْفَلِ دَرَكٍ من الجحيم) في مَعْرِضِ الترهيب بدلالة قوله (فالنار مثواه)، وقوله ( في أسفل درك في الجحيم) ،
وكذلك ورد قوله (عليه السلام) : (مَنْ جَحَدَكُم كَافِرٌ، وَمَنْ حَاربكم مُشْرِكٌ) في مقام الترهيب والتخويف والتقرير، وورد الشرط في هذا النص أفعالاً ماضية، هي (اتَّبعكم، خَالفكم، جَحَدَكُم، حَاربكم، رَدَّ عليكم)، لكنّ هذه الأفعال قد سُلب منها الدلالة على الماضي، ودلّت على الاستمرارية، ذلك أنّ خطابات النصَّ المقدّس لا يتعلّق بها زمن محدّد، لأنّها خارجة في أصل وضعها عن حدود الزمان والمكان، فممّا لا شكَّ فيه أنّ الأمور المشروطة التي ذكرها الإمام (عليه السلام) تنطبق على أحكام عالمنا في مبدئه ومنتهاه، وأنّها تنطبق على العوالم كلّها، فأتباعُ الأئمة فائزون في الشؤون كلِّها، على حين أنّ مخالفيهم وجاحديهم ومحاربيهم والرادين عليهم خاسرون في أُولاهم وأُخراهم. فكان فعل الشرط سبباً في أنْ يكون للمخالف أو المتبع لهم (عليه السلام)جزاءٌ يتناسب وفعله تجاههم، فكانت (متابعتهم (عليه السلام) سَبَباً لدخول الجنة، ومخالفتهم سَبَباً لدخول النار)(٦)،
فالمعنى على ذلك أنّ أيِّ شخص على وجه العموم اعتقد بولاية أهل البيت(عليهم السلام)، ولحقهم وقفا أثرهم سيكون جزاؤه الجنة، ومَنْ جحد ولايتهم فالنار جزاؤه(٧)،
فـ(مَنْ) لم تُعيِّن شخصاً بذاته، ولم تحدد له صفات وخصائص، بل خصَّت الجميع بإبهام وشيوع ولم تُعوِّل على أصل الشخص ومكانته أو أي اعتبار آخر، بل رتَّبت الجزاء على الشخص الذي يتصف بتلك الصفة المخصوصة.
وورد الجواب جملة اسمية وهو ممّا لا يصلح أن يكون جواباً، لذلك جيء بالفاء الرابطة بين فعل الشرط وجوابه ليتعلق الأول بالثاني ويكون سبباً في وقوعه. ومجيء الجواب جملة اسمية دليلٌ على أنَّ الجزاء المذكور جزاء ثابت لا تغيّر فيه، سواء كان جنةً أمْ نارًا، فناسب التعبير بها مَن استمرّ على اتِّباعه لهم (عليه السلام) ومَن خالفهم على وجه الاستمرار.
ويُلحَظُ أنّ جواب الشرط قد تنوّع في سياق النص المذكور، فورد جملة اسمية دالّة على المآل، ففي الموضع الأول والثاني قال (فالجنة مأواه ، فالنار مثواه)، وورد اسماً مشتقاً ( كافرٌ، مشركٌ) من غير أن يقترن بما يصلحه لأن يكون جواباً للشرط، وفي ذلك مخالفة لما استقرّ في أذهان النحويين وما سطّروه في مؤلفاتهم، من أنّ جواب الشرط إذا لم يكن صالحاً وجب أن يقترن بالفاء ليكوِّنَ جملة فعلية أو اسمية تصلح للجواب، فهم في مثل ما ورد في نص الإمام يجب أن يقدِّروا فاء رابطة للجواب بالشرط ويعربوا (كافر ومشرك) خبراً لمبتدأ محذوف، بتقدير(فهو كافر، فهو مشرك)، وفي ذلك من التكلّف ما لا يخفى ، وإثباتٍ لنقص استقرائهم للشواهد ما لا يُنكر،
فالقواعد إنّما تُقعّد على الاستعمال الفصيح لا على القياسات المستنبطة من الاستقراء غير التام، فنصوص المعصومين (عليهم السلام)من أوثق المدونات اللغوية التي وردت إلينا، ولو أنّ أيادي اللغويين امتدت أو تمتدّ إليها بالدراسة المستفيضة لأصبنا من ذلك بسهم وافر من الشواهد التي تساهم في تأصيل التقعيد النحوي واللغوي،
وعلى ذلك يجب الإقرار بأنّ هناك قسماً آخر من أقسام الجملة الشرطية يرد فيه الجواب اسماً مشتقاً بلا تأويل، وهذا الاسم يعرب خبراً لـ (مَن) الشرطية مباشرة بلا تقدير للرابط، وفي ذلك الدلالة على الاختصار بنطق الجواب وهو ممّا يستحب وروده في جواب الشرط، الذي يمثل نتيجة الحدث الصادر من الاسم المبهم الذي تشير إليه (مَن) الشرطية، فضلاً عن أن بنية مثل هذا الجواب هي بنية اسم مشتق يلتقي مع الفعل في أحكام ودلالات بيّنة.
وكذلك ورد جواب الشرط في هذا النصِّ شبه جملة (في أسْفَلِ دَرَكٍ من الجحيم)، وهو أيضاً ممّا لم يُشِر إليه النحويون في أنواع تراكيب الجملة الشرطية، ولم تُذكر له أمثلة لنقص الاستقراء.
ووردت(مَن) في ثمانية مواضع من النصِّ الشريف، على خلاف الترتيب الأصلي لجملة الشرط ، إذ قال (عليه السلام) :
ويُلحَظ في هذه المواضع أنّ فعل الشرط وجوابه ورد ماضياً، وقُدِّمَ الجواب(سَعَدَ، هَلَكَ، خابَ، ضلَّ، فازَ، أمِنَ، سَلِمَ، هدِيَ) على الشرط، ممّا يستدعي التوقف عنده، فقد يكون تقدم الجزاء للعناية، أو الترغيب به، إذ هو غاية ما يرجوه المتلقي من تقرُّبه لأهل البيت (عليهم السلام)،
نحو: (سعد، فاز، أمن، سلم، هدي)، وقد يكون الغرض منه الترهيب أو التخويف أو بيان المآل، نحو: (هَلَكَ، خَاب، ضَلَّ)، فالعناية كانت بالجزاء أو النتيجة التي يؤول إليها الحال ترغيباً تارة، وترهيباً وتخويفاً تارة أخرى،
لأنَّ مضمون الشرط سبب ونتيجة. ثم إنّ تقديم هذه الأفعال الماضية مؤذنٌ بحتمية تحققها، فهو إخبار واقع قد تيقّن مُخبِرُه بوقوعه، ومضى عنده فعله، فرآه على حقيقته فأخبر به إخبار إحاطة لا تحصيل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ ١- ينظر: الذريعة إلى تصانيف الشيعة 3/239، 302، و7/43، و8/44، و16/69، و18/304ــ 306، و 19/231. ٢- ينظر : علل النحو، لابن الوراق 436، وشرح التسهيل، لابن مالك 4/68 . ٣- ظواهر أسلوبية وفنية في سورة النحل، أسامة عبد المالك 58. ٤- أنماط التركيب القرآني، علي ميران جبار 212 . ٥- من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق 2/388. ٦- الأنوار الساطعة في شرح الزيارة الجامعة، الشيخ جواد عباس الكربلائي 217. ٧- ينظر : الأعلام اللامعة في شرح الجامعة ، محمد بن عبد الكريم الطباطبائي 195. ٨- من لا يحضره الفقيه 2/388 .