Take a fresh look at your lifestyle.

قصة قصيرة … الدواء المعجزة

0 689

 

          كان فجر ذلك اليوم الخريفي نديّاً، السماء تنثّ(1) مطرًا ناعمًا، وقد انعكست أضواء المشهد الرضوي(2) كأبهى ما يكون وخصوصًا تكسرات النور في الإيوان الذهبي الذي يفضي إلى المرقد الطاهر، كانت القبة الذهبية تتألق بأنوار بهية وحمائم بيضاء تطوف في السماء كأنها تستحم بالمطر.

          وكانت خطى الزائرين حثيثة وقد شدَّها الشوق لزيارة ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخليفته ووصيه الثامن (عليه السلام)الذي قال عن الصلاة: (إنّها اقرارٌ بالرّبوبيّة للهِ عَزّ وَجَلّ)(3). وقال عن أثرها: (لِئَلاّ يَنسَى العَبدُ سَيِّدَهُ ومُدَبِّرَهُ وخالِقَهُ فَيَبطَرَ ويَطغى)(4). وحتى لا ينصرف الإنسان إلى الاكتفاء بأداء حركات الصلاة فقد قال (عليه السلام): (لَيْسَ الْعِبَادَةُ كَثْرَةَ الصَّلَاةِ والصَّوْمِ إِنَّمَا الْعِبَادَةُ التَّفَكُّرُ فِي أَمْرِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ)(5).

* * *

          جموع الزائرين تحث الخطى بشوق، بعضها خطى متعبة جاءت من قرىً نائية، وبعضها من الكسبة والباعة الذي جاءوا يفتتحون يومهم وطلب رزقهم بزيارة ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله).

          لاحت امرأة في حدود الثلاثين من العمر تحمل طفلاً في الرابعة من عمره، ومعها زوجها الذي كان يمسك بيد ابنته التي كانت تبدو في السادسة من العمر.

           واضح إن هذه الأسرة جاءت من إحدى القرى البعيدة المتناثرة على امتداد الطريق التي تربط مدينة مشهد بالعاصمة طهران.

           الأم الشابة تنظر بعينين نديتين من أثر دموع امتزجت بقطرات المطر، نظراتها وإن بدت حزينة، إلّا أن المرء يلاحظ فيها حالة من الأمل!

           ثمة شعور يموج في القلوب الكسيرة يسري في كيان الإنسان ويدفعه إلى أن يرنو باتجاه نقطة هي محور الوجود، بل هي الوجود الحقيقي، كأن كل هذه القلوب المشتاقة التي تخفق بحب آل محمد (صلى الله عليه وآله) تعي حديثاً تناقلته الأجيال عبد القرون وسجلته آلاف ثم ملايين الأقلام عندما روى الإمام الرضا من آل محمد عليه الصلاة والسلام عن آبائه عن جده المصطفى عن جبريل الأمين عن الله عزوجل: (كَلِمَةُ لا إِلهَ إِلّا الله حِصْنِي فَمَنْ دَخَلَ حِصْنِي أمِنَ مِنْ عَذابِي) ثم قال: (بِشُرُوطِهَا، وأَنَا مِنْ شُرُوطِهَا)(6).

           رذاذ المطر الناعم ممتزج بدموع الأم وهي تنظر إلى السماء، أسندت ظهرها إلى جدار من الرخام، وكان زوجها قد اصطحب ابنته إلى داخل المرقد للتبرك بزيارة الإمام ولمس الضريح الطاهر.

          نهضت الأم ودخلت في الرواق المخصص للنساء، ووقفت تحت القبة حيث تنعكس الأنوار في أعماق آلاف المرايا وتتكسر أشعتها في الثريات المعلقة.

           اقتربت الأم من رجل مشرق الوجه ورجته أن يبارك ابنها، مسح الرجل على رأس الطفل وتمتم بسورة الحمد وآية الكرسي ودعا له بالشفاء، ووقفت الأم الشابة في زاوية تحمل طفلها الذي لا يزال نائماً. ها هي الآن تقف وجهًا لوجه مع ضريح الإمام (عليه السلام)، شيء في أعماقها يتوهج بالأمل، ولن تضيع توسلاتها ودموعها ولا تمتمات دعاء تلك المرأة العجوز وقد تصدقت عليها بملغ كبير لم يحصل في تاريخ تلك القرية بمثل هذا المبلغ، حتى الأثرياء لا تطاوعهم نفوسهم على ذلك.

            استخرجت من حقيبتها كيساً من النايلون الشفاف يحوي أوراقاً عليها كتابات بلغة أجنبية توحي لمن يراها بأنها تقارير طبية عن حالة الصبي الذي فتح عينيه وراح يبحلق في الأنوار التي تغمر المكان .. تصاعدت رائحة المسك من نفاثة(7) صغيرة يحملها أحد الخدم في أروقة المرقد الطاهر للإمام (عليه السلام).

           وبرغم الزحام كان المكان مغموراً بالسلام والسكينة وتمتمات الأصوات المتصاعدة من الحناجر المختنقة بالعبرات، وكأن هذا المكان هو أقرب نقطة إلى السماء.

             نظر الرجل إلى زوجته بإشفاق وهي ما تزال تتشبث بخيط من الأمل، كان قد قال لها من قبل أن يستقلوا الحافلة:

  ـ إن الطفل يحتاج إلى معجزة ليشفى من هذا المرض الخبيث.

       تساءلت ابنته الصغيرة:

  ـ وما المعجزة يا أبي ؟

             قال الأب وهو يمسح على رأسها وينظر إلى الحقول الواسعة الخضراء التي تلتقي مع الأفق الأزرق.

 ـ إنها الدواء الوحيد الذي يشفي أخاك الصغير.

           أرادت البنت أن تسأله: لماذا لا تشتري هذا الدواء؟ لكن أصابع كف أبيها أطبقت على فمها الصغير برفق، فاكتفت بتقبيلها.

* * *

           حيا الصيدلاني أخاه الدكتور أحمد الذي قدم من ألمانيا لزيارة الإمام الرضا (عليه السلام) وزيارة أخيه في هذه المدينة المقدسة.
 

           كانت الصيدلية شبه فارغة في ذلك الصباح الخريفي النديّ لوّح له أخوه بيده فقد كان يتحدث مع شخص يبحث عن دواء أجنبي.

 ـ لدينا دواء محلي المنشأ ولا يقل تأثيره عن الدواء الأجنبي، كما أن ثمنه أقل من عُشر الدواء الأجنبي.

             غادر الشخص من دون كلام، التفت إلى أخيه وسأله: أين كنت يا دكتور؟ أشار إلى النور المتوهج برغم الغيوم وقال:

 ـ زرت الحرم الرضوي، إن شمس مشهد تختلف كثيراً عن شمس برلين.

 ـ يا دكتور.. إنها شمس واحدة تشرق في مشهد وتغرب في برلين.

ـ الحق معك إنها واحدة لكنها هنا تبدو أجمل بكثير!

ـ أنت شاعر قبل أن تكون جراحاً في الجملة العصبية!

       وأردف متسائلاً:

 ـ لم تخبرني بسرِّ مجيئك قبل الموعد بشهر؟!

  قال دكتور أحمد:

 ـ أنا نفسي لا أدري، وجدت نفسي في مكاتب الحجز!

             القلوب سواقي كما يقال؛ لقد اشتقت إليك وإلى رؤية أبناء أخي وقد فرحت الوالدة برؤية أحفادها!

 ـ إنها تحبهم أكثر مني، قالت لي: الأبناء كاللوز والأحفاد كلباب اللوز.

           لم ينتبه الأب إلى ابنته التي اتجهت إلى نوافير صغيرة حيث تتدفق المياه في أعمدة فضية تتألق تحت أشعة الشمس التي تسللت من بين السُحب.

           رشاش المياه البيضاء يتساقط من ذرى النوافير فيحدث وشوشة كوشوشة المطر عند ارتطامها بمياه الحوض الصافية.
لم تتوقف البنت عند النوافير بل واصلت طريقها إلى بوابة الصحن الكبير المشرعة والتي تفضي إلى شارع مخصص للمارة يؤدي إلى الأسواق والمحال التجارية التي تحيط بالمشهد الرضوي المقدس.

         في جيبها نقود ادخرتها لشراء عروسة، ثلاثة أعياد مرت جمعت خلالها ثمن العروسة، كانت تتطلع إلى العرائس وعيناها تبحثان عن شيء آخر!

           كان الدكتور أحمد يتحدث إلى شقيقه عندما، عندما دخلت بنت صغيرة ترتدي ثيابًا زاهية الألوان تعكس زهو القرى ونضارة الأرياف وتدفق روح الحياة في عروقها.

            أخرجت البنت الصغيرة النقود التي ادخرتها ووضعتها فوق منضدة زجاجية أمام الطبيب وقالت:

 ـ أريد دواء لأخي الصغير!

           اعتاد صاحب الصيدلية المجاورة للحرم الرضوي أن يتلقى طلبات من هذا النوع من قبيل شراب أو أقراص للسعال أو الزكام، لكن الطبيب فوجئ هذه المرة بالصوت الطفولي يطلب دواءً عجيبًا، إذ أن البنت قالت ببراءة:

 ـ أريد دواء المعجزة!!

            سأل الطبيب بدهشة:

 ـ ماذا ؟!!

ـ قالت البنت:

ـ اسمه المعجزة، أخي الصغير مريض، ولا يشفيه إلّا هذا الدواء!

               ذهل الطبيب للحظات، ثم قال:

 ـ لا يوجد دواء بهذا الاسم !!

   ـ قالت البنت تؤكد وجوده:

  ـ أنا سمعت أبي يقول ذلك!!

                قال الطبيب بإشفاق:

  ـ ولكن يا عزيزتي لا يوجد هكذا دواء.

               انتبه الدكتور أحمد للحوار فنادى البنت الصغيرة:

 ـ تعالي إلى هنا إنه عندي!

              فرحت الطفلة وأخذت نقودها واتجهت إليه، فقال الدكتور أحمد بحنان:

  ـ كم معك من النقود!

قالت وهي تقدم النقود إليه:

            ـ هذا كل ما معي، لقد جمعتها خلال ثلاثة أعياد لأشتري عروسة! .. لكن أخي ..

           لم يدعها الدكتور تسترسل راح يعد النقود ليقول لها:

 ـ إنه ثمن الدواء تمامًا، والآن لنذهب معًا إلى أخيك، أين هو؟

            قالت: إنه في الحرم!

            في الطريق لمح الدكتور محلًا لبيع العرائس والدمى، فسأل البنت:

 ـ ما اسمك:

         قالت:

 ـ زينب واسم أخي ميثم.

          قال الدكتور:

 ـ اختاري عروسك يا زينب!

وقعت عيناها على عروسه تبتسم، فأشارت إليها، وقالت:

 ـ إنها أجمل العرائس.

قال الدكتور:

 ـ أنت أجمل منها!

            وفي لحظات كانت زينب تحتضن عروستها بحب وفرح.

* * *

             في الصحن الكبير، كان الأب يبحث عن ابنته المفقودة هنا وهناك وعندما لاحت له من بعيد اتجه إليها وانحنى للرجل الذي كان يرافقها شاكراً له لطفه.

             تصور الأب أن ابنته ذهبت لشراء عروستها وساعدها هذا الرجل الطيب في العودة! لكنه سمع الرجل يقول معرفًا نفسه:

 ـ دكتور أحمد اختصاص في جراحة الجملة العصبية أريد رؤية ابنك الصغير!

             فوجئ الأب، لكنه سرعان ما انطلق صوب الإيوان الذهبي حيث جلست زوجته تنتظر. خفق قلبها وهي ترى ابنتها مع رجل يشرق وجهه بالصفاء.

             أجرى الدكتور أحمد اتصالات بإحدى مستشفيات العاصمة، وبعد إعادة الفحوصات للطفل ميثم فوجئ الدكتور أحمد بأن الورم ليس من النوع الخبيث كما أكدت التقارير!!

             وبعد استكمال الإجراءات اللازمة، أجريت العملية للطفل ميثم بنجاح تام ليغادر بعد أيام من النقاهة المستشفى وهو يبتسم للحياة بفرح.

             غادر الدكتور أحمد مشهد عائدًا إلى ألمانيا، وفي تلك الفترة عادت تلك الأسرة الصغيرة ومرت بتلك الصيدلية المجاورة للحرم الرضوي حيث عثرت على دواء المعجزة.

             استفسر الأب عن الدكتور أحمد فأخبره شقيقه بأنه عاد إلى ألمانيا .. ثم استخرج ساعة يدوية من درج صغير، قائلاً:

  ـ إنه توقع قدومكم فترك لـ (ميثم) هذه الهدية (ساعة يدوية)، مع وصية بأن يدرك قيمة العمر، طبعًا بعد أن يكبر.

              شكر الأب لطف الأخوين وغادرت الأسرة لأداء مراسم زيارة ثامن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، جلس الرجل إلى جانب زوجته في ظلال الإيوان، واصطحبت زينب أخاها الصغير إلى النوافير حيث تتدفق المياه الفضية ويتساقط رشاش المياه في الأحواض الصغيرة.

              تألقت ذكريات العام الماضي بكل تفاصيلها، من دعاء ومناجاة وتوسل بأهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، إلى ذلك الرجل ذي الوجه المضيء، وهو يتمتم بقراءة سورة الحمد وآية الكرسي، إلى اختفاء البنت الصغيرة في الصحن الكبير، إلى عودتها بصحبة طبيب في الجملة العصبية، قدر له أن يرى بنتًا صغيرة في صيدلية أخيه تبحث عن دواء عجيب اسمه المعجزة لشفاء أخيها!!

  هل حدث كل ذلك صدفة؟!

  أو أنها يد الغيب امتدت من وراء الأستار بالرحمة والشفاء!

  كان سرب من الحمائم البيضاء يحلق في زرقة السماء ورشاش مياه النوافير يتألق تحت أشعة الشمس الساطعة.

   وارتفعت كلمات الآذان نشيد السماء الخالد:

ـ الله أكبر .. الله أكبر .. أشهد أن لا إله إلا الله .. أشهد أن محمدًا رسول الله .. أشهد أن عليًا ولي الله…

           كانت الأم تراقب طفلها يلعب بفرح وبراءة .. نظرت إلى السماء الصافية تشكر الله سبحانه:

           اللهم صلِّ على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ تنث: يتساقط المطر خفيفًا.
2ـ ضريح الإمام علي بن موسى الإمام الرضا (عليه السلام)، استشهد مسمومًا سنة 203هـ في مدينة طوس التاريخية التي تعرف اليوم بمدينة (مشهد) أي مشهد الإمام الرضا (عليه السلام).
3ـ علل الشرايع/الشيخ الصدوق/ج2ص317.
4ـ ن.م.
5ـ الكافي/للكليني/ج2ص55.
6ـ التوحيد/الشيخ الصدوق/ص25.
7ـ نفاثة: قارورة ترش العطر من فوهتها الصغيرة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.