يُعدُّ الإعراب من ظواهر سعةِ العربية وثرائِها أيضاً؛ إذْ إنَّ ألفاظاً كثيرةً في بعض التراكيب العربية قد تُعرَب بأكثر من وجه، وهو باب واسع في اللغة، وسنحاول هنا أن نوضح أثر التعاقب الإعرابي في ألفاظ وردت في نصوص من نهج البلاغة، وقد ذُكر فيها أكثر من رواية، بين رفع ونصب، ورفع وجر، وما يترتّب على ذلك من دلالات مختلفة، وما يمكن أن يكون راجحاً منها بدلالة القرائن اللغوية المعتبرة:
1- في قوله(عليه السلام) يصف الدنيا :(أَلاَ وَإِنَّ اليَوْمَ المِضْمَارَ، وغَداً السِّبَاقَ، و السَّبَقَةُ اَلْجَنَّةُ، والغَايَةُ النَّارُ) (1) . رُوي (المضمار، والسباق) بروايتين:الرفع على أنهما خبران لـ (إنّ) و(اليوم َ وغداً) اسماها(2).والنصب على أنهما اسما (إنّ)، فيكون الظرفانِ خبرينِ وموضعُهما الرفعُ،وجوّز بعض شراح النهج الإعرابين معاً، مع الإشارة إلى اختلاف المعنى. و أن في النصب إشكالاً في (إن اليوم َ المضمار َ) فـ : (اليوم زمان، والمضمار زمان، فكيف يُخبَر عن المضمار باليوم ؟ فيستلزم وقوعَ زمانٍ في زمانٍ آخر، ويكون أحدهما محتاجاً إلى زمانٍ آخرَ، وذلك محالٌ)(3)
. ويُفهَم من ذلك أنَّ الإشكالَ واقع ٌ في أن كلاً من المبتدأ والخبر زمانٌ، فالمضمار اسمٌ يُطْلَقُ على(الأيام التي تُضَمَّرُ فيها الخيلُ للسِّباقِ)(4)، ويقدّر هذا الوقت بأربعين ليلة ً(5) . وقد استعار الإمام(عليه السلام) المضمار هنا لحياة الإنسان لما بينهما من تشابه،فالإنسان يستعد بالتقوى والأعمال الصالحة ليكون من السابقين إلى لقاء الله تعالى، كما يستعدُّ الفرسُ للسِّباقِ بالتَّضميرِ وهو التسمينُ ثمَّ القوت(6) . وأما اليوم فزمانٌ معلوم، فلا يصحُّ بعد الإخبار بوقوع الزَّمانِ في الزمان.
وأما (وغداً السباق)، فجوّز الشرّاح فيه نصب َ (السباق) على أنه اسم (إنّ)، و(غداً) في موضع الخبر، ومَنَعَ رَفْعَ (السباق)، لأنه لو كان خبراً لكان (غداً) اسمَه، فيكونُ هو المبتدأ في الأصل، و(السباق) خبره، وهذا لا يجوز، لأنَّ السباقَ ليس محمولاً على (غداً) إذ لو كان محمولاً عليه لكان الحمل بمعنى (هو) نحو : (الإنسان الضَّحّاك، أي : هو الضَّحّاكُ)، أو الحَمْل بمعنى(ذو) كقولنا : (الجسم الأبيض، أي : ذو بياض)، ولا واحد من المعنيين بحاصل في (غداً السباق)، لذا مَنَعوا أن يكونَ السباقُ خبرَ (إنَّ)(7).
و يبدو للباحث أن وجهَ النصبِ في (المضمار والسباق) أولى، لسببين :
أولهما : ورودُ الروايةِ الصريحةِ بالنصبِ، وهي روايةُ الشَّريفِ الرضيِّ التي تُسَمّى بالنسخةِ الخطيةِ، أو النسخةِ الأمِّ(8) .
والسبب الآخر : التكلّفُ الظاهرُ في رفعِ الاسمينِ، (اليوم، و غداً) على معنى الاسمِ الصريح، وإلغاء الظرفية منهما، فيه من التكلُّف ما لا يخفى، ولأنَّه مع الإبقاء على (اليوم، وغداً) ظرفين مُبْهَمين لا يصِحُّ رفعُ(المضمار والسباق)، لأنَّ المضمار ليس عين (اليوم)، ولا (السباق) عين(غداً)، فالمضمار ليس اسماً مجرداً للزَّمانِ، بل هو زمانٌ مشتمل ٌ على حَدَث هو التضميرُ، فهو زمانٌ مخصوصٌ بوصفٍ مخصوصٍ مقيَّد، لذا يَصِحُّ الإخبارُ عنه باليوم، وكذلك الحال في (غداً السباق) .
2- في قوله (عليه السلام) في توحيد الحق سبحانه: (لاَ يُشْمَلُ بِحَدٍّ، وَلاَ يُحْسَبُ بِعَدٍّ، وَإِنَّمَا تَحُدُّ الأَدَوَاتُ أَنْفُسَهَا، وتُشِيرُ الآلاَتُ إِلَى نَظَائِرِهَا، مَنَعَتْهَا (مُنْذُ) القِدَمِيَّةَ، وَحَمَتْهَا (قَد) الأَزَلِيَّةَ، وَجَنَّبَتْهَا (لَوْلاَ) التَّكْمِلَةَ) (9) .
ذكر الشراح روايتين لــ(القدمية، الأزلية، التكملة) هما : النصب والرفع، وترتَّب على كل ٍّ منهما دلالة تخالف الأخرى . فعلى رواية النصب تكون الضمائر في (منعتها، حمتها،جنبتها) الراجعة إلى الأدوات والآلات في محل نصب مفعولات أُوَل،و(القدمية، الأزلية، التكملة) مفعولات ثوانٍ للأفعال، و (منذ، قد، لولا) محلها الرفع على الفاعلية(10).
ومعنى الكلمة الأولى (أنَّ إطلاقَ لفظةِ (منذ) على الآلات والأدوات في مثل قولنا : هذه الآلاتُ وُجِدَتْ مُنْذُ كذا يَمْنَع كونَها قديمةً، إذ كان وضعُها لابتداءِ الزَّمانِ وكانت لإطلاقها عليها متعينة الابتداء، ولا شيءَ من القديم بمتعين الابتداء، فينتُجُ أنَّه لا شيءَ من هذه الأدوات ِ والآلات ِ بقديمٍ) (11) . أما معنى الكلمة الثانية (قد) فإنها (تُفِيدُ تَقْريبَ الماضي من الحالِ، وهو يَحْكُم بِقُرْبِها من الحال، وعدمِ أزليتِها، ولا شيءَ من الأزليِّ بقريب من الحال، فلا شيءَ من هذه الآلاتِ بأزليٍّ) (12). والحال نفسُها بالنسبة إلى الكلمة الثالثة، فــ (وضعُ (لولا) دالاً على امتناع الشيء لوجود غيره، فإطلاقها عليها في مثلِ قولِك عندَ نظرِك إلى بعْضِ الآلاتِ المستحسنةِ… ما أحسنَها، وأكملَها، لولا أنَّ فيها كذا، فيدلُّ بها على امتناعِ كمالِها، لوجود نقصانٍ فيها) (13).
أما رواية رفع (القدمية، الأزلية، التكملة) فوجَّهها الشراح بأنْ تكونَ الضمائرُ المتصلةُ بالأفعالِ مفعولاتٍ أُوَلَ، و (منذ، قد، لولا) مفعولات ثوانيَ، وأنّ (القدمية، الأزلية، التكملة) مرفوعاتٌ على الفاعلية(14)، والمعنى :(أنّ قدمَه تعالى، وأزليتَه، وكمالَه منعت الأدواتِ، والآلاتِ من إطلاق (منذ، و قد، و لولا) عليه سبحانه لِدَلالتِها على الحدوث، والابتداء المنافيَين، لقدمه، وأزليته، وكماله) (15)
وقد رجّح الراوندي والبحراني رواية نصب (القدمية، الأزلية، التكملة) على أنها مفعولاتٌ ثوان ٍ للأفعال، ((لوجودها في نسخة الرضيِّ (رض) بِخَطِّه) (16) . وخالفهما التستري، فَعَدّ هذه الأسماء منصوبات ٍ على نزع الخافض، مستدركاً على أصحابِ المعجماتِ أنَّ الأفعالَ الثلاثةَ (منع، حمى، جنّب) تتعدّى إلى مفعولَينِ : أولهما مفعول ٌ صريح ٌ،والآخر بواسطة (عن) أو (مِن) وليست هذه التعدية في المعجمات، ولذا أعرب َ (منذ، وقد، ولولا) الواردة في قول الإمام (عليه السلام)بدل بعضٍ من كل من الضمائر المتصلة في (منعتها، وحمتها، وجنّبتْها)(17) .
ويبدو للباحث أن نصبَ (القدمية، والأزلية، والتكملة)، ورفع (منذ، وقد، ولولا) على الفاعلية أولى بالقبول، نظرًا لما استدلَّوا به، بأنَّ روايةَ النصبِ وردت في نسخة الشريف الرضي بخطه، ويعضُدُها ما رُوِي في بعض المصادر من أن تتمة خطبة الإمام(عليه السلام) : (ولا تُغَيِّبُه مذ، و لا تُدْنيه قد، و لا تَحْجُبُه لعلّ، و لا تُوقِّتُه متى، و لا تَشْمله حين، و لا تُقارنُه مع).(18)
3- في قوله(عليه السلام) في فضل القرآن الكريم : (كِتَابَ رَبِّكُمْ فِيكُمْ، مُبَيِّناً حَلاَلَهُ وحَرَامَهُ … بَيْنَ مَأْخُوذٍ مِيثَاقُ عِلْمِهِ، ومُوَسَّعٍ عَلَى اَلْعِبَادِ فِي جَهْلِهِ … وبَيْنَ وَاجِبٍ بِوَقْتِهِ، وزَائِلٍ فِي مُسْتَقْبَلِهِ، ومُبَايَنٌ بَيْنَ مَحَارِمِهِ، مِنْ كَبِيرٍ أَوْعَدَ عَلَيْهِ نِيرَانَهُ، أَوْ صَغِيرٍ أَرْصَدَ لَهُ غُفْرَانَهُ)(19) .
اختلف الشرّاح في رواية (مباين) بين الرفع والجر، والاختيار بينهما، بحسب ما فهمه كل ُّ واحد ٍ منهم من دلالة النصِّ .فالبحراني أعرب (مباين) بالجر، عطفاً على المجرورات قبله، ورأى أن في جرِّه تلطفاً في المعنى، ذلك أنَّ (المحارمَ لمّا كانت هي محالّ الحكم المُسَمّى بالحُرْمَةِ، صارَ المعنى : بين حكمٍ مباين ٍ وبين محالّه، وهو الحرمة)(20) .
وإنَّما قدّرَ (بينَ حكم ٍ) قبلَ (مباينٍ) ليصحَّ جره، وأوّل (محالّه) بالحرمة، ليقرَّ التعدد في معنى (مباين) على سبيل الحكم وضدِّه، وبذا صحّ عنده وجه جر (مباين)، عطفاً على المجرورات قبله، ليتصل بمعنى ما سبقه، لأنَّ ما قبله من أحكام ِ القرآن الكريم ِ المذكورة تحمل المعنى وضدَّه أو المعنى ونقيضَه .
وهو برأيه هذا مخالف ٌ لابنِ أبي الحديد قبله، الذي ذهب إلى وجوب إعراب (مباين) بالرفع، على أنَّه خبرٌ لمبتدأ محذوف، والتقدير : (هو مباين)، ومَنَعَ إعرابَ الجرِّ، لأنَّه مقطوعٌ عمّا قبله في المعنى، واستدلَّ على رأيه بأنَّ الأحكام التي سبقت ذكر (مباين بين محارمه) تستدعي الشيء وضده،أما (مباين بين فلا يستدعي ضداً له أو نقيضاً، إذ إن القرآن غير مقسوم قسمين، مباين بين محارمه وغير مباين)(21) .
وقد تابع البحراني حبيبُ الله الخوئي، ونقد على ابن أبي الحديد رأيه، مستدلاً (بأن القرآن الكريم ليس منحصراً في المباين، بل بعضُه جدل ٌ، وبعضُه قَصَصٌ، وبعضُه مثَلٌ، وبعضه أحكامٌ، وبعضه ترغيبٌ، وبعضه ترهيبٌ،كما أنَّ بعضَه مباينٌ بين محارمِه إلى غيرِ ذلك ممّا اشْتَمَل عليه) (22) .
وأما التستري فخالف ما ذهب إليه البحراني والخوئي، وأغلظ عليهما القول َ، واختار رأي ابن أبي الحديد في وجوب رفع مباين، ومَنْعِ جرِّه، ولاسيما أن الرّفع َ ظاهرُ المعنى (23)، وهو ما يراه الباحث، لأنَّ وجه الرفع وجه ٌ لا تكلف َ فيه من حيث الإعراب، ولا من حيث المعنى، فلا داعي َ لتخريجه على الجرِّ، وتأويل محذوفات ٍ مقدَّرة ٍ لتحقيق ِ صلة المعنى مع ما سبقه .
نشرت في العدد المزدوج 57-58
(1) نهج البلاغة (الخطبة 28) 61 .
(2) منهاج البراعة: الراوندي 1/218 .
(3) شرح نهج البلاغة: البحراني 2/62 .
(4) لسان العرب (ضمر) .
(5) ينظر : القاموس المحيط (ضمر)، و تاج العروس (ضمر) .
(6) ينظر : حدائق الحقائق: الكيدري 1 / 243، وشرح نهج البلاغة :البحراني 2/63 .
(7) ينظر : شرح نهج البلاغة : البحراني 2/62، و منهاج البراعة:الخوئي 4/4 .
(8) ينظر : بهج الصباغة: التستري 7/317 .
(9) نهج البلاغة (الخطبة 186) 366 .
(10) ينظر : حدائق الحقائق: الكيدري345،وشرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد13/77، وشرح نهج البلاغة: البحراني 4/183 . .
(11) شرح نهج البلاغة: البحراني 4 / 183 .
(12) المصدر نفسه 4 / 183.
(13) المصدر نفسه 4 / 183 .
(14) ينظر: حدائق الحقائق: الكيدري 118،و منهاج البراعة : الراوندي 1/218،و شرح نهج البلاغة:محمد عبده1/79 .
(15) شرح نهج البلاغة: البحراني 4/183 .
(16) المصدر نفسه 4/183 .
(17) ينظر : بهج الصباغة: التستري 1 / 296 – 297 .
(18) تحف العقول عن آل الرسول: الحرّاني61 .
(19) نهج البلاغة (الخطبة 1) 24 .
(20) شرح نهج البلاغة: البحراني 1 / 277 .
(21) ينظر : شرح نهج البلاغة : ابن أبي الحديد 1 / 120 .
(22) منهاج البراعة: الخوئي 2 / 177 .
(23) بهج الصباغة: التستري 1 / 51 .