Take a fresh look at your lifestyle.

التوجية الدلالي لآية الرهن ( دراسة تحليلية)

0 664

        الرهن لغة : الثبات والدوام، وشرعًا فهو وثيقة للمدين يستوفي منه دَيْنَهُ والرهان مثله، لكن يختص بما يوضع في الخِطار أي السباق؛ وعند الفقهاء (هو دفع العين للاستيثاق على الدَّين، ويقال للعين (الرهن)أو(المرهون)،وللآخذ(المرتهِن) وهو عقد لازم من طرف المرتهن، ويحتاج إلى إيجاب من الراهن وقبول من المرتهِن، ويقع الإيجاب بكل لفظ أفاد المقصود)(1 ).
ففي قوله تعالى 🙁وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)(البقرة:283).
بعد أن تأسس في آية الدَّين مشروعية الندب إلى الأشهاد على الدِّيْن والكتابة لأجل حفظ أموال الناس في قوله تعالى 🙁يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ)(البقرة:282)، شرَّع بعدها تعالى لحالة الأعذار المانعة من الكتابة والاستيثاق بها، فجعل الرهن لها حلًا للأعذار التي منها السفر وعدم وجود الكاتب
فابتدأ الآيةبأداةالشرط (وَإِنْ)ليؤسس لوقوع حدث ما أو عمل مرتبط بوقوع فعلٍ قبله، فقال :(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ) فجعل السفر وعدم وجود الكاتب شرطًا لوقوع الرهن وسببًا له، على ظاهر لفظ الآية، وهذا ما ذهب إلية مجاهد والضحاك وداود متمسكين بظاهرها(2)

ولاحجة لهم في ذلك إلاّ الظهور، إذ إن من خواص (إنْ) الشرطية استعمالها في المعاني المحتملة الوقوع والمشكوك في حصولها والموهومة والنادرة(3)فهي تجعل الشرط غير ملزم،لأنَّ وقوع السفر وعدم وجود الكاتب أو غيرها من الأعذار قد تقع، فيكون مَنْ تداين شيئًا من المال أوغيره مضطرًا أن يسلك طريقًا آخر لأجل ضمان حق صاحب المال، فكان الرَهْن هو الوثيقة على الدائن من المدين.
وقد نقل السيوطي عن بعضهم وقوع (أنْ) في القرآن بصيغة الشرط، وهو غير مراده في ستة مواضع(4)، ذكر منها قوله سبحانه(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ) في كون الشرط فيها غير ملزم،لأن وقوعه وعدمه في كليهما محتمل، وذكر منها كذلك قوله تعالى (فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ)(البقرة: 191) وقوله تعالى 🙁 فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ)(البقرة: 230)،فمعاني القتال والطلاق محتملة في الوقوع وعدمه،وأن مجيء (أنْ) في الآية ربما يكون لغرض تسويغ الأعذار وتمثّلها فذكر السفر وعدم وجود الكاتب، وإلا فإنّ الرهن المقبوضة واقع مقابل للدَيْن في حال عدم وقوع الشرط.
ولو أراد سبحانه إلزام وقوع الشرط لجاء بالأداة (إذا) فيقول :(وإذا كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة)، ولكان هذا الشرط ملزم الوقوع للراهن والمرتهن، وذلك أنّ الأصل في (إذا) أن تكون للمقطوع بحصوله وللكثير الوقع(5)،

من نحو قوله سبحانه 🙁كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ)(البقرة: 180) فإنّ كل واحدٍ منّا سيحضره الموت وقوله سبحانه (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ)(الجمعة: 10)فإنّ الصلاة لابُدَّ أن تنقضي(6) فضلاً عن ذلك قيل إنّ النبي محمدًا (صلى الله عليه وآله)اشترى من يهودي طعامًا إلى أجلٍ ورهن درعًا من حديد،وبقيت مرهونة عند اليهودي بثلاثين صاعًا من شعير لأهله حتى وفاته(7) (صلى الله عليه وآله)، وكان النبي (صلى الله عليه وآله)
في حضر مع وجود الكاتب.لقد ذهب جمهور من المفسرين والفقهاء إلى جواز وقوع الرهن وصلاحه مع الحضر ووجود الكاتب، فقال الشيخ الطوسي :(يجوز أخذ الرهن مع الحضر ومع وجودالكاتب)(7)وهو الصحيح عند القرطبي، وثابت عنده بنصّ السنة والشريعة(8).
ثم قال:(فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ)، الفاء فيها رابطة لكون جواب الشرط ليس من جنسه لفظًا، فجعل من الفاء رابطة له، والرِهان اسم لما يُودّع مقابل الدَّيْن ؛ ويكون كذلك مصدراً على وزن (فعِال) من الفعل (راهن، يُراهن، رِهاناً)، وهو ما يقع من الرهن بين اثنين، ومثله أيضًا قاتل يُقاتل قتالًا، وخاصم يُخاصم خِصامًا، وعالج يُعالج عِلاجًا، وقراءة الجمهور (فرهان،جمع رَهْن نحو كَعْب وكِعاب، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو بن العلاء : فرُهُن، بضم الراء والهاء… وقيل هو جمع رِهان، ورِهان جمع رَهَن،… وقال أبوعمرو بن العلاء : لا أعرف الرِهان إلاّ في الخيل لاغير، وقال يونس : الرُهُن والرِهان عربيان، والرُهُن في الرَهْن أكثر، والرِهان في الخيل
أكثر)(9 ).
(فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ)قراءة الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) وقراءة أهل الكوفة وأهل المدينة(01).
والرَهْنُ من الفعل رَهنَ بمعنى الحبس، وقد ذكر ابن منظور عن ابن عرفة قوله : (الرِّهْنْ في كلام العرب هو الشيء الملزم، يُقال : هذا راهنٌ لك،أي دائمٌ محبوسٌ عليك)(11)غير أن سياق هذه الآية والتي قبلها تعني المشاركة، فالمداينة تكون بين اثنين، بدليل قوله سبحانه (إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ)والفعل (تداين) ماضيه (دايَنَ) على وزن (فاعَلَ) الدال على المشاركة بين اثنين أو أكثر(21)،و المراهنة معطوفة على المداينة فحكم سياقها يكون كذلك بين اثنين،لأنَّ الفعل فيها أصله المداينة، لكنها بطريقة أخرى في حال وجود أعذار ؛ فلأجل الاستيثاق جُعِلَ الرهن،وهو مادة عينية عوضًا عن الوثيقة في الدَين.
وإنّ أفضل فعل للمراهنة أن يكون معناه المشاركة وهو الدال على وقوع الفعل بين اثنين وهما الراهن والمرتَهِن، فمن الراهن يحتاج إلى إيجاب، ومن المرتهِن القبول ؛وإنّ أصلح شيء لهذا أن يكون الفعل على صيغة (فاعَلَ) الدالة على المشاركة، وهو (راهَنَ) وفيه إفادة تمام المعنى المطلوب بين الإيجاب والقبول مع الحبس للمادة المرهونة، ومصدره (رِهان)؛ فيما إنَّ الرَّهَن فيه دلالة حبس المادة عند المرتهِن لا غير، فيما إنّ مراد الآية أوسع من ذلك،لذا كان (رِهان) بدلالة المصدر الدال على حدث القبول والإيجاب لحبس المادة مقابل الدَّيْن هو الأليق في هذا المقام، وإنَّ السياق العام يأخذنا إلى ذلك ويدلّنا عليه.
فضلًا عن الإيجاب والقبول من الراهن والمرتهن، فإنّه يشترط في الرهان القبض وبهذا قال أكثر الإمامية مستدلين بالآية وبقول الإمام محمد الباقر(عليه السلام) فيما رواه محمد بن قيس:(لارهنَ إلاّ مقبوضاً)(31) وهو رأي الجمهور،ويشترط فيه القبض إلاّ مالكًا فقد اكتفى بالإيجاب والقبول(41) أما أبو حنيفة والشافعي فلا يصح عندهما الرهن من دون قبض، وقالت المالكيةيلزم الرهن بالعقد(51).
ولو قُدِّر أنْ يكون محل المصدر (رِهان) لفظ (رَهَن) وهو اسم للمادة العينية أو جمع (رُهُن) لتوجَّبَ أن يكون القبض هو الأصل في المسألة، ولا يهّم إن وقع الإيجاب والقبول أو لا، وذلك لأن الاسم يدلُّ على ذات معيّنة دون الحدث،بيد أن ما يدلّ على وجود عقد بين طرفين؛ولا يحل ذلك إلاّ مصدر يدلُّ على هذا الحدث المقترن بقبض المادة المرتهنة،إذ إنّ حدث الرهان لا يكتمل من دون القبض ولايقع القبول أصلًا وعليه لا يصحّ أن يكون الدَّيْن رهنًا لعدم إمكان قبضه في حال الارتهان.
ثم استأنف سبحانه قوله(فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا)،جاءت فيه الفاء تفيد الاستئناف وذلك لحصول حالة أخرى، وهي أن يكون الدَّيْن من دون وثيقة مداينة بين الدائن فابتدأه بالشرط مستعملًا (إنْ) الشرطية، وجعل فعل الشرط (أمِنَ) وجوابه(يؤدّ) وإنّ ابتداءه بــ (أنْ) فيه دلالة تعدّد لاحتمالات معاني فعل الشرط (أمِن)، فمنهم مَنْ يأمَنْ الآخر ثقة به،أو لقربه منه ومصاحبته أو يأمنه لدينه؛واستعمالها في هذه الدلالات المحتملة أليق من غيرها ولو أراد واحدةً من هذه المعاني وعلى وجه اليقين في الوقوع لاستعمل (إذا) الشرطية وقد وضّحت ذلك من قبل(61).
ثم قال تعالى:(بَعْضُكُمْ بَعْضًا) على سبيل المساواة في الأمن بين الدائن والمدين لأن كليهما مرتبط بالأمن ؛ ولو وقع الأمن من واحد دون الآخر لما كان هناك أمن.
ثم أردفه بجواب الشرط في قوله سبحانه(فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ)وقعت فيه الفاء رابطة للجواب لعدم وجود مجانسة لفظية مع فعل الشرط ؛ ووجود لام الأمرفيه دلالة على الأمر بضرورة أداء الأمانة وجوبًا، لعدم وجود مايدفع الوجوب في الأمر.
ولمّا كان الدَّين أو القرض غير موثّق بكتاب أو وثيقة سمّاه تعالى (أمانة) عند المدين ؛والضمير في (أَمَانَتَهُ) عائد عليه، وأمر تعالى بضرورة أن يُرجع ما بذمته من الدين لصاحبه.
ثم قال تعالى 🙁وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ)في إعادة ما بذمته من المال من غير مطل أو تسويف.
ونهى بعد ذلك عن كتم الشهادة وإخفائها عند طلبها، والذي يكتمها سيكون آثمًا قلبهُ لأنَّ في ذلك ضياعًا لحقوق الناس،وأن الله تعالى معاقبه على ذلك، وعَدَّ عمله إثمًا يُعاقب عليه الشرع ولعل في إضافة الإثم إلى القلب أبلغ في الذم،كما أنّ إضافة الإيمان إلى القلب أبلغ في المدح.
وقد تبين من قوله سبحانه (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا)على أنّ الإشهاد والكتابة في المداينة ليس بواجب، ولكن إيقاعه يكون من جهة الاحتياط(71)في حفظ أموال الناس وعدم التفريط في حقوقهم، والإنسان قد يغلب عليه السهو والنسيان فتكون الكتابة حافظة لكل ذلك.

نشرت في العدد 56


(1) ظ : الجامع لأحكام الشرعية / السبزواري :321.
(2) ظ : الجامع لأحكام القرآن / القرطبي : 2/347؛ التفسير الكبير / الفخر الرازي : م 3/ 100- 101.
(3) ظ :
(4) ظ : الاتقان / السيوطي : 1/ 312.
(5) ظ : معاني النحو / د. فاضل السامرائي :4/61.
(6) م. ن.
(7) ظ : الجامع لأحكام القرأن / القرطبي : 2/347.
(8) التبيان / الطوسي : 2/380.
(9)ظ : الجامع لأحكام القرأن / القرطبي : 2/347.
(01) البحر المحيط / أبو حيان : 2 / 572 ؛ لسان العرب / ابن منظور : 5/ 348 – 349 – رهن.
(11)ظ : أعراب القرآن / النحاس : 117- 118.
(21) لسان العرب / ابن منظور : 5/ 349- رهن.
(31) ظ : شرح النظام / النيسابوري : 55 ؛ شذا العرف / الحملاوي : 49.
(41)كنز العرفان / السيوري : 422.
(51) ظ : م. ن.
(61) ظ : البحر المحيط / أبو حيان : 2/573.
(71) ولمزيد من الإيضاح استعمالات (إن) و(إذا) الشرطيتين. ظ : شرح المفضل للزمخشري / ابن يعيش : 9 /4 ؛ الأتقان / السيوطي : 1/ 312- 313 ؛ المكليات / الكفوي : 58 – إذا ؛ 161- إنْ ؛ معاني النحو / د. فاضل السامرائي: 4/59- 62.
(81) ظ : التبيان / الطوسي : 2/381.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.