Take a fresh look at your lifestyle.

ملامح أسلوبية في سورة المسد

0 2٬213

م. م. رائد حامد المرعبي
معهد إعداد المعلمين/ الديوانية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ *تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَآ أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ)(سورة المسد)
ليس ثمة تعبير أروع من وصف الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) للقرآن بأنه (مأدبة الله)(1)وصف أراد به(صلى الله عليه وآله) اختزال عدة دلالات يحملها الحديث بين طياته.
فإذا كان الناس على اختلاف ألوانهم ومشاريعهم يختلفون في تخير الأطعمة، كل حسب ذوقه وقدرته، فهم أيضاً يقفون أزاء تلك المأدبة وتنوع أطعمتها مختلفين باختلاف أذواقهم، فالفقيه يأخذ من مأدبة القرآن ما يشبع حاجته، واللغوي ما يسد رمقه، والمؤرخ ما يتصل بالأحداث التاريخية….الخ.
والحال كذلك مع سعة المتلقي على استيعاب تلك الفيوضات الإلهية، بوصفه أي المتلقي ـ طرفًا قاصرًا أمام النص القرآني مهما كانت درجة وعيه وعلمه، ومن ثم فإن ما يستحصله من تلك الفيوضات تزداد أو تقل مصداقًا لقوله تعالى: (أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا)(الرعد:17).
وفي رحاب مأدبة القرآن وتخير أطعمتها فإن سورة المسد تعد شكلًا من أشكال إعجاز القرآن، لا لكونها تمثل مصداقًا لقوله تعالى: (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ)(البقرة: 23)، في تحدي العرب وعجزهم على أن يأتوا بمثلها أو بقية السور، بل بما تملكه هذه السورة من مقومات وعناصر أسهمت في تشكيل بنائها اللغوي والفني، وأحسب أنه يمكن أن نقسم هذه العناصر وفق محورين:
الأول: التوظيف البلاغي:
إن أول ما نراه من آيات تلك السورة المباركة هو جمالية التوظيف البلاغي ودقته، إذ يبدو للوهلة الأولى لمن يطالع تلك الآيات أن ثمة تكرارًا قد حصل في قوله تعالى: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) وبين قوله تعالى: (وَتَبْ)، بيد أن هذا الإحساس سرعان ما يكشف عن حقيقة تبين مدى هذه الدقة، إذ خرجت الجملة الفعلية: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) عن معناها الحقيقي إلى معنى مجازي هو الدعاء(2)،الدعاء على أبي لهب بالخسران، ليأتي بعدها الفعل الماضي (وَتَبْ) مؤكداً حقيقة الخسران ـ هذا المعنى أسهمت في تكوينه جميع آيات السورة المباركة ودارت حوله ـ إذ خرج الفعل فيها عن معناه الحقيقي إلى معنى الخبر، وهذا الأسلوب للآية أعطى بعدًا جماليًا، عدولًا عن كل مكرور أو مألوف اعتاده السمع، وهذا ما نراه في قوله تعالى: (تَبَّتْ يَدَا)، إذ وظفت الآية أسلوب المجاز المرسل في إعطاء ذلك البعد الجمالي، فهذا الأسلوب عرفته العرب على أنه: (استعمال اللفظ في سياق ليؤدي دلالة ليست مرتبطة به في أصل بنائه. وإنما هي دلالة يتطلبها السياق الذي يحيط باللفظ)(3)،

وهذا يتطلب مجموعة من العلاقات بين هذين الطرفين: دلالة اللفظ الأساسية، والدلالة السياقية(4)، والجزئية هي إحدى تلك العلاقات التي يتطلبها الطرفان، إذ أطلقت الآية لفظ الخسران على اليد وأريد من خلالها (أبو لهب)، وقد يكون سبب هذا التخصيص أن يد الإنسان هي (عضوه الذي يتوصل به إلى تحصيل مقاصده، وينسب إليها جل أعماله)(5).
وهذا العدول عن ذكر الكل إلى الجزء صاحبه عدول آخر عن استعمال الاسم (عبد العزى)(6) إلى الكنية (أبو لهب)، وهذا الاستعمال له دلالات وأغراض قصدت السورة توظيفه بشكل دقيق، فضلًا عن الجانب الصوتي الإيقاعي فإنها ـ أي السورة ـ قد وظفت أسلوب الجناس بين الكنية (أبو لهب) وصفة النار (ذات لهب)، ليخبر هذا الأسلوب البلاغي عن المصير النهائي الذي ستؤول إليه تلك الشخصية نهاية المطاف، وهذا يعد ضربًا من ضروب الإعجاز إذ حوت هذه الآية إخبارًا للغيب، إذ أخبرت عن مصير أبي لهب في كونه سيموت كافرًا دون أن يرضخ لتعاليم الرسالة السماوية وهذا ما حدث فعلًا.
ولم تكتف السورة بتصوير المشهد النهائي لهذه الشخصية، بل حاولت أن تحط من قدرها عن طريق أسلوب آخر من أساليب البلاغة، إذ خرج الاستفهام في قوله تعالى: (مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ)، عن معناه الحقيقي إلى معنى الاستهزاء(7)، وهذا الخروج جاء استنكاريًا لسلوك هذه الشخصية، ليبين هذا الأسلوب مستفهمًا أن المال أو الأولاد لن يغنيا عنه من الله شيئًا. عند من ذهب إلى أن الكسب المقصود في السورة المباركة هو الأولاد(8).
وفي قبال هذه الشخصية نجد شخصية (أم جميل)(9) زوجة أبي لهب، هذه الشخصية نجدها قد رسمت في السورة بأسلوب كنائي فمن (أجمل ما مثلوا للكناية تلبس المعقول ثوب المحسوس… فقد كنى الله تعالى بذلك عن المرأة النمامة التي تهيج الشر، وتفسد ذات البين، بهذه العبارة، التي تحمل من لطف التعبير وجمال التصوير، ما يخيل إلينا أنها تمسك الحطب، وتلقيه في النار، لتزيد من ضرامها كما تفعل إذ تؤجج العداوة والبغضاء بين الناس وتؤلب بعضهم على بعضهم الآخر، فهي تسعى إلى النميمة ومصيرها أن تكون حطبًا لجهنم)(10).
ولم تكتف السورة في استثمار أسلوب الكناية في رسم شخصية (أم جميل). بل لجأت إلى توظيف أسلوب آخر من أساليب البلاغة، إذ كانت التورية حاضرة كملمح من ملامح هذه السورة، وذلك في قوله تعالى: (فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ)، إذ صوَّر هذا الأسلوب هذه الشخصية بالحطّابة تحقيرًا لها(11)، في الوقت الذي ذهب فيه بعضهم إلى أن الحبل المقصود في الآية جاء تعبيرًا عن الأغلال التي ستغل بها هذه الشخصية يوم القيامة(12).
ومهما يكن من تعبير فإن المعنى قد تشظى إلى معان إيحائية تدور حول حقيقة واحدة ركزت السورة عليها منذ الآية الأولى ألا وهي حقيقة الخسران.
وإذا ما نظرنا إلى الفاصلة في هذه الآية (فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ) لوجدنا خروجًا إيقاعيًا على مستوى الفاصلة القرآنية. إذ خالفت هذه الآية الفاصلة المعهودة في السورة المباركة، وأحسب أن سبب ذلك ـ والله أعلم ـ يعود إلى خروج معنوي آخر صاحبَ الآية.
فالجيد هو موضع القلادة. وما هو منتظر أو متوقع من المرأة هو أن تستعمل جيدها للزينة كعادة النساء، غير أن أفق التوقع ينكسر محدثًا مفارقة على مستوى المعنى، إذ إن الجيد هنا أصبح موضعًا لحبل من ليف بدل الزينة، وهذا الخروج المعنوي صاحبه خروج صوتي، إذ خرجت الفاصلة عن سياقها لتحدث توافقًا بين هذين المستويين.
الثاني ـ البناء القصصي:
لو أمعنا النظر في سياق هذه السورة لوجدنا أنها قد وقعت ضمن إطار النصوص المغلقة(13)، إذ إن أحداث هذه السورة لم تتكرر في موضع آخر من القرآن كغيرها من القصص، وهذا يعطي السورة وأمثالها نوعًا من التفرد والتميز، وقد وظفت السورة أسلوب السرد بدل الحوار في عرض سير الأحداث، متخذة من شخصية أبي لهب وزوجته محورًا تدور حولهما أحداث هذه القصة.
وقد رسمت لنا السورة الملامح الخارجية للشخصية الرئيسية (أبو لهب) في توظيفها هذه الكناية، إذ كانت وجنتاه تلتهبان حسنًا(14)،

هذا الوصف يشكل نوعًا من التضاد بين الجمال الخارجي وقبح الذات، فضلًا عن كون الآية قد وظّفت عنصر السخرية(15) الذي يعد (من أهم المنبهات أو المحركات التي يستجيب لها المتلقي)(16)، ونجد هذا العنصر في استعمال السورة لكنية أبي لهب وعدولها عن ذكر اسمه، كي تتجانس الكنية مع (ذات لهب) التي يصلاها بصفة أن الأب هو الأكثر لصوقًا بالشيء، فالجريمة هي مثلًا ظاهرة انحرافية، وأما إذا أطلق على صاحبها مصطلح (أبو الجريمة) فهذا يعني أنه أكثر جريمة من سواه، بل هو صاحب سلسلة كبيرة من الانحرافات، بحيث يصبح أبًا لها(17).
وهذا العنصر ـ أي عنصر السخرية ـ امتدت ظلاله إلى الشخصية الثانية في السورة
(أم جميل)، إذ إنها عزفت عن استخدام الزينة إلى وضع الليف، فضلًا عن عرض ملمح خارجي لشخصية هذه المرأة وهو نمط سلوكها المنحرف، إذ كانت تمشي بين الناس بالنميمة، ومثلما رسمت لنا السورة الجزاء الأخروي للشخصية الرئيسية في القصة (أبو لهب)، نجدها كذلك مع هذه الشخصية عند من يذهب إلى عد الحبل رمزًا للأغلال التي ستغل بها يوم القيامة(18).
ويبقى هذا التعدد في تأويل هذه الآية والآيات الأخر مصدرًا من مصادر الإثراء الدلالي والجمالي، وشكلًا من أشكال الإعجاز الذي يضاف إلى الأوجه السابقة.
ومما يجدر الإشارة إليه في سورة المسد أنها تعد واحدة من الدلائل الواضحة على صدق دعوة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأن القرآن هو المعجزة الخالدة له، وذلك أنها نزلت في حياة أبي لهب وليس بعد موته، الذي كان هاجسه الوحيد هو تكذيب
النبي (صلى الله عليه وآله)وبطلان دعوته، فلو لم تكن هذه السورة قد نزلت من لدن حكيم عليم، لقام أبو لهب ودخل الإسلام كغيره من المنافقين الذين دخلوا الإسلام، وكان أبو لهب يعرفهم وهم من حزبه، وبذلك يثبت بطلان هذه السورة التي بشرته بالنار، ومن ثم بطلان دعوة النبي (صلى الله عليه وآله). إلا أن الله سبحانه يعلم أنه لن يسلم حتى نفاقًا، فتحدته بهذه النبوءة، وأثبتت ضلاله، وصدق دعوة النبي
الخاتم (صلى الله عليه وآله).وبقيت هذه السورة تتلى من حين نزولها إلى يوم يبعثون.

نشرت في العدد 56


(1) بحار الأنوار: مج 37/ 17
(2) ينظر: إعراب ثلاثين سورة: 238وأسرار التكامل في القرآن: 227
(3) جماليات الأسلوب: 160
(4) ينظر: م. ن: 160
(5)تفسيرالميزان: 20/ 444
(6)ينظر: إعراب ثلاثين سورة من القرآن الكريم: 238.
(7) ينظر: التبيان في تفسير القرآن : 2/ 296.
(8)ينظر: إعراب ثلاثين سورة: 239.
(9)ينظر: صفوة التفاسير: 3/555
(10) أساليب البيان في القرآن: 746
(11)ـينظر: تفسيرالبيضاوي: 4/ 462.
(12) ينظر: قصص القرآن دلاليًا وجماليًا: 2/ 520
(13) إعجاز اللغة السردية في القرآن الكريم: 107.
(14) ينظر إعراب ثلاثين سورة: 238،ومجمع البيان: 10/ 537.
(15) ينظر قصص القرآن جماليًا ودلاليًا: 2/ 518
(16) م. 5: 2/ 518.
(17) م. ن: 2/ 519
(18) ينظر: قصص القرآن جماليًا ودلاليًا: 2/ 520

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.