الأصل في المصطلح (دَلَلَ) الثلاثي، ومنه الدليل(*) : ما يستدلُّ به، والدليل الدالُّ، وقد دَلّه على الطريق، يَدُلُّه دلالةَ، ودُلولة، والفتح أعلى(1) ولا يخفى معنى دلَّه على الطريق تعني الهداية والإرشاد إليه.
وليس من وكد البحث الخوض في ذلك، بقدر ما يريد أن يبين مفهوم هذا المصطلح وغاياته ومراميه وأهم البيّنات التي أغنته بحثًا وتنظيراً.
فالاستدلال في الاصطلاح بحدٍ يكاد يكون جامعاً مانعاً ولاسيما عند المناطقة هو: (استنتاج قضية مجهولة من قضية أو عدة قضايا معلومة أو هو: التوصل إلى حكم تصديقي مجهول بواسطة حكم تصديقي معلوم أو بملاحظة حكمين فأكثر من الأحكام التصديقية المعلومة)(2)، أو هو(تقرير ثبوت الأثر لإثبات المؤثر)(3)
وأرى أن بيئة الأصوليين والمناطقة أوفر البيئات العلمية تناولاً للمصطلح وتطويراً لحدوده، وتطبيقاً لممارساته، ولاسيما عند أهل الأصول حيث يعتمد على آلياته في استنباط الحكم الشرعي من أصول النصوص الشرعية(4)
ومن لازم القول والبيان هنا أن الاستدلال عملية عقلية تجنح إلى القياس، والمفارقة بين القضايا التي هي مناط البحث الاستدلالي، للوصول إلى إثبات دلالة بدليل بديهي واضح لا يكاد ينفصل عن قضيته بل هو الجزء الواضح المبين لها.
أهل البيت والقرآن
ليس من الغريب أن ينهج أهل القرآن مسلك القرآن الكريم في الاستدلال والاحتجاج ، فهم أخص الناس به وبرسوله، وهم عدل القرآن، وهم شفعاؤه بنص حديث الثقلين، وهم امتداد لعليٍ(عليه السلام) القائل: (أنا القرآن الناطق).
فإذا اعتقدنا بمقام أهل البيت (عليهم السلام) من القرآن، مقام المبيّن له الدال عليه، فإننا نتيقن أنهم (صلوات الله عليهم) ينهجون أقرب الطرق لبيانه وأفضل الوسائل في تفسيره.
لقد كان منهج الاستدلال عند أهل
البيت (عليهم السلام) بمنزلة قطب الرحى في جميع وسائلهم وطرائقهم العلمية التي كانوا يؤسسون لها في بيت علومهم، وتنشئة أصحابهم وتلامذتهم وشيعتهم كذلك، ولا مبالغة إذا ذهبت إلى القول إن مسلكهم الاستدلالي طريق لأهل العلوم والمعارف أينما كانوا، وكيفما اعتقدوا.
وحسبنا فخراً أن نقول بمقالتهم، وأن نتصف بمسلكهم إذ (نحن أصحاب الدليل أين ما مال نميل).
وللاستدلال في تراثهم (عليهم السلام) مكانة كبيرة، وأهم ما يشار إليه أنك تشهده في مناظراتهم واحتجاجهم، فله في هذه البيئة شواهد كثيرة وموارد أصيلة، فضلاً عن ذلك، فإن أصول تأسيهم (عليهم السلام) بمناهج فهم القرآن ومبادئ التعامل معه فهماً وتفسيراً وتأويلاً كان بالاعتماد على طرائق الاستدلال.
من هنا فإن أغنى البيّنات العلمية الاستدلالية في تراث أئمة أهل البيت (عليهم السلام)هي المناظرات والاحتجاجات، فضلاً عن التفسير وبيان النص القرآني والكشف في الدلالات القرآنية التي هي مراد الله تعالى من كتابه، وسيوقفنا البحث على نماذج من كلامهم الشريف وكيف استدلوا على ألطف المعاني وأغنى الدلالات وأروع الإشارات في سبيل الاستفادة منها والتحلي بها. واعتمادها منهجاً تفسيريًا رائداً ما يزال إلى اليوم أرقى آليات التفسير وأكثرها انسجاماً وتناسباً مع دلالات النص القرآني، وهو أفضل طرائق تحليل النصوص وأعلاها مرتبةً.
ومن جملة الأمثلة من تراث آل محمد (صلى الله عليه وآله)
استدلال الإمام علي (عليه السلام) عندما أُريد رجم امرأة ولدت لستة أشهر، فأبطل حكم رجمها مستدلًا بقوله تعالى: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً…) وقال: (وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) فكان أقل الحمل بعد اقتطاع مدة رضاعته عامين ستة أشهر(5)، وهو استدلال قائم على جمع الآية مقابل الآية وتفسير الآية بالآية بناءً على أن القرآن يفسر بعضه
بعضًا.
وفي استدلال آخر للإمام علي (عليه السلام) وهو يرد مقولة بعض من احتج على المسلمين بعدم تماثل أخبار القرآن الكريم مع واقع المسلمين حيث أن القرآن أخبر نصه (…وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ ..) وقد تلا النبي(صلى الله عليه وآله) من عبد الأصنام برهة من الزمن، وهو خلاف نص القرآن بقوله (منه)، حيث أوضح الإمام (عليه السلام)
أن هذه الآية حجة إلهية أقامها على خلقه من حيث عرفهم أنه لا يستحق مجلس النبي (صلى الله عليه وآله) إلا من يقوم مقامه ولا يتلوه إلا من يكون في الطهارة مثله بمنزلته، لئلا يتسع لمن ماسّه رجس الكفر في وقت من الأوقات ، حيث حظر الله تعالى على من ماسَّه الكفر تقلُّد ما فرضه تعالى إلى أنبيائه وأوليائه ، وهو استدلال منتزع من قوله تعالى لإبراهيم (عليه السلام):
(لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة/ 124] أي المشركين، لأنه سمّى الشرك ظلمًا بقوله تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان/ 13] فلما عَلِم إبراهيم(عليه السلام) عهد الله تعالى بالإمامة لا ينال عبدة الأصنام قال: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ) [إبراهيم/ 35].
لقد أكد (عليه السلام) أن من آثر المنافقين على الصادقين والكفار على الأبرار فقد افترى على الله إثمًا عظيمًا، إذ كان قد تبيّن في كتابه الفرق بين المُحق والمُبطل، والطاهر والنجس، والمؤمن والكافر، وإنه لا يتلو النبي (صلى الله عليه وآله) عند فقده إلا من حل محله صدقًا وعدلًا وطهارةً وفضلًا .
ولا يغيب عن اللبيب دقة الاستدلال على الموضوع مع اختلاف الشواهد في سياقاتها وموضوعاتها. ومن لطيف الإشارة أنه (عليه السلام)جمع بين استدلالين، الأول : استدلاله على معنى الظلم بالشرك، والآخر: استحقاق من يخلف النبي (صلى الله عليه وآله) أن يكون منه، مع لحاظ أن العهد المنسوب لله تعالى(عهدي)كان بمنزلة الفاعل والعامل فيمن يختارهم وينتجبهم لهذا المنصب الإلهي وليس العكس وهي دلالة ثالثة ولا ريب.
ومن روائع استدلالات أهل البيت(عليهم السلام) ما جاء على لسان الإمام أبي الحسن موسى بن جعفر الكاظم (صلوات الله عليه) عندما سأله الرشيد العباسي بعد أن قبض عليه، عدة أسئلة نقلها ابن شعبة الحراني(6) قال الرشيد للإمام (عليه السلام): (أريد أن أسألك عن العباس وعلي بم صار علي أولى بميراث رسول الله (صلى الله عليه وآله) من العباس، والعباس عم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وصنو أبيه؟
فقال له موسى (عليه السلام) اعفني.
قال: والله لا أعفيك، فأجبني.
قال: فإن لم تعفني فآمني.
قال: آمنتك.
قال موسى (عليه السلام): إن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يورث من قدر على الهجرة ما لم يهاجر، إن أباك العباس آمن ولم يهاجر، وإن علياً (عليه السلام) آمن وهاجر، وقال الله تعالى:(وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ) فالتمع لون الرشيد وتغير لونه وقال: ما لكم لا تُنسبون إلى عليٍ وهو أبوكم وتُنسبون إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو جدكم؟
فقال موسى (عليه السلام): إن الله نسب المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام) إلى خليله إبراهيم (عليه السلام) بأمه مريم البكر البتول التي لم يمسها بشر في قوله: (وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ) [الأنعام/ 84، 85] فنسبه بأمه وحدها إلى خليله إبراهيم (عليه السلام) كما نسب داود وسليمان وأيوب وموسى وهارون عليهم السلام بآبائهم وأمهاتهم فضيلة لعيسى (عليه السلام) ومنزلة رفيعة بأمه وحدها، وذلك قوله في قصة مريم عليها السلام (إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِين)
[آل عمران/ 42] بالمسيح من غير بشر وكذلك اصطفى ربنا فاطمة عليها السلام وطهرها وفضلها على نساء العالمين بالحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة(7).
بيان الإمام(عليه السلام)واستدلاله المتتابع بالنص القرآني أبطل افتخار الرشيد العباسي بعمه العباس، فضلاً عن ذلك فإن الإمام (عليه السلام) أجابه بناءً على مبدأ أو قاعدة التسليم الجدلي في فهمه للوراثة، حيث قصد الرشيد من السؤال الوراثة (الخلافة) ولعله لم يقصد غيرها ليساق النص في محاولة إبعاد آل البيت(عليه السلام) عن انتسابهم للنبي(صلى الله عليه وآله)، فهو لم يرد بأي حال من الأحوال وراثة المتعلقات المادية أو ما شاكل ذلك بحسب الظاهر، لذا كان الإمام أبو الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام)مبطلًا لاستدلال الرشيد بقرب العباس من النبي (صلى الله عليه وآله) بنص القرآن الذي ليس من حجة أبلغ منه وبرهان القرآن ودليله لايقارن بغيره مهما كان هذا الغير.
والحال عينه ينطبق على نسبة أهل البيت إلى النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) حيث واجه الإمام ادعاء الرشيد، باستدلال قرآني فسقط دليله وانقطعت صلته ولم يجد مناصاً من الخضوع والتسليم لهذه الحجة وهذا الاستدلال الذي لا يُعادَل ويُماثَل بغيره في القوة والبداهة.
ولمن أراد الاستزادة من استدلالات أهل البيت (عليهم السلام) ومنهجهم في نقض ادعاءات أهل الضلال في قضايا مختلفة وموضوعات متعددة فليراجع احتجاجاتهم ومناظراتهم التي حوت على قضايا في الفكر والعقيدة والتفسير والأحكام وغيرها الشيء الكثير(8).
نشرت في العدد 55
(*) الدليل لغة: المرشد والموصل إلى المطلوب.
(1)لسان العرب/مادة (دلل)، كذلك: تاج العروس/مادة (دلل)، الصحاح/ مادة (دلل) وغيرها.
(2) الاستدلال البلاغي / شكري المبخوت/ 17.
(3) ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة/ 149 / طرق الاستدلال ومقدماتها عند المناطقة والأصوليين/الاستدلال عند الأصوليين/ 22، وانظر مصادره. ظ كذلك مناهج الاستدلال/ علي الرباني الكلبايكاني.
(4)الكليات /2 /322. كذلك، منهج القرآن الكريم في إقامة الدليل والحجة/مجاهد محمود وأحمد ناصر/ 136.
(5) مسلك القرآن الكريم في الاستدلال على وجود الله/ د. علي بن محمد بن ناصر الفقيهي
(6) تحف العقول عن آل الرسول /ابن شعبة الحراني ص404.
(7) أنظر/على سبيل المثال، المؤلفات التالية:كتاب الاحتجاج/للطبرسي، مناظرات أهل البيت/ المناظرات والاحتجاجات العجيبة للأئمة المعصومين /السيد محسن النوري الموسوي).