إذا كان التفسير هو الإجراء الأدائي الذي يُمارَس بلحاظ مجموعة من الضوابط التأسيسية وجملة من الأسس الضابطة لاستحصال المبتغى الدلالي الأوفى للنص القرآني؛ فإنَّه يمكن أنْ يقال إنَّ المسار الأدائي الذي يسعى مُقاربةً إلى فهم مَكمنِ الإعجاز المضموني في النص المقدس؛ لايسير – وإنْ كان مُقيَّداً بمنظومات تنظيرية- على خُطىً واحدة لينتهي إلى نتيجة مُوحَّدة بالمحصلة النهائية؛ ذلك بأنَّ المنطلقات التفسيرية للنص الواحد قد تتباين من قارئ للنص إلى آخر يقرأ النصَّ نفسَهُ فقد تتقاربُ المحصلة الدلالية لهما وقد تتباعدُ ويحدثُ أحياناً أنْ تتباينَ تناقضاً وتقاطعاً؛ من هنا كان لابدَّ من وجود مَخرجٍ توثيقي يُستَندُ إليه ويُركَنُ له من أجل استظهار المنطق المضموني الأصح من النص الذي هو موضع النظر والاختلاف أو الخلاف أحياناً.
من هنا ظهرَ ما يسمى بـ (النقد التفسيري) وهو عملية قراءة المعطيات التفسيرية للنص الواحد بحيثية (التضعيف والترجيح) أو (المناقضة والتأسيس)؛ وذلك على وفق قوة المنطق ورجاحة المنطلق ومتانة الدليل وصلابة السند؛ ذلك بأنَّ التراث التفسيري بلحاظ الوافد والمتراكم لا يسلم من مؤاخذات أو منافذ تسمح للقارئ أو المتلقي بالولوج منها إليه لإغلاقها أو لإحالتها على نطاق الصواب والرؤيا الأوفق أو بتعبير أدق إحالتها على ميدان الأوفق رؤيةً والأجود إداءً.
وتأسيساً على هذا المنطلق شاعت في بطون المدونات التفسيرية جملةٌ من الممارسات الدلالية على المتون التفسيرية؛ فتارةً يحدثُ الأمرُ عرضاً، وأخرى يجري تلميحاً، وتارةً ثالثةً يقعُ صراحةً وتشخيصاً؛ إذ لا نحسبُ أنَّ ثمة مدوناً تفسيرياً يخلو من نقدٍ سواء أكان النقدُ له أم عليه؛ نقول إذا كان هذا المنظور التمحيصي والنقدي لدلالة النص أمراً لا غرابة فيه لشيوعه في نتاجات العقل التفسيري؛ فإنَّه يمكن أنْ نقول أيضاً إنَّ هذا النمط من الممارسة لقراءة النص القرآني لم تكن وليدة المعرفة المعاصرة مطلقاً ولم يكن نمطاً حديثاً من أنماط النظر إلى النص قط؛ بل كان هذا المنحى الأدائي في التفسير أو للتفسير موجوداً عند الأئمة (عليهم السلام) إذ مارسه تطبيقاً بيانياً غيرُ إمامٍ منهم إيماناً منهم بأنَّ استظهار مكنونات النص المعجز لا تتوقف على بيان دلالاته اللغوية أو ما يسمى بـ (ظاهر) معناه على مستوى النص أو محدودية النص الواحد فحسب؛ بل إنَّ الأمر يتعدى هذا لديهم إلى الحد الذي يوظِّفون فيه أحياناً أكثر من نصٍّ لا لبيان المضامين الخطابية أو الدلالات اللسانية للنص الأول فحسب؛ بل لاستظهار معالج موضوعي وإيجاد حل منطقي لمشكل خارجي ما زالت له حاجة ملحة إلى القطع بمضمونه؛ لأنَّ ذلك المشكل يمثل مُنطلقاً اجتماعياً أو حكمياً أو عقائدياً أحياناً، ولكل هذه المناحي والاتجاهات ارتباطات وثيقة بالمنطق العقلي والعملي للإنسان في وقت معاً، ولما كان داعي المساس لهذا المسار القرائي – النقدي- على هذه الدرجة العالية من التوصيف والاهتمام كان من الواجب بمكان أنْ يولي الأئمة(عليهم السلام) لهذا المنحى في التفسير (النقد التفسيري) ولمحصلته الغائية عناية متفردة؛ ذلك بأنَّ مَهَمَّتهم الأصل وتكليفهم الأمثل هو ما يُملي عليهم أنْ يؤولوا إلى هذه الخصوصية الإجرائية من منافذ البيان التفسيري لا محالة؛ وكان من بين الأئمة الذي برعوا في هذا النطاق هو الإمام الهادي (عليه السلام) وذلك في مسألة حل الإشكال التفسيري في القول بجواز تزويج الذكر من الذكر في النص القرآني.
وتأسيسًا على توظيف منطق الإمام النقدي لهذه الرؤيا التفسيرية يمكن القول بأنَّ الفهم البشري لدلالات النص القرآني قد تعتوره انزلاقة هنا أو تعتليه هفوة تفسيرية هناك، فقد يحدث أنْ يشطَّ المتلقي -أحيانًا- بذهنية بعيداً عن جادة الصواب في فهم نص ما؛ إذ قد يعمدُ إلى السطح الخارجي للنص فيقرأه على وفق الظاهر من دون أن يكلف نفسه عناء قراءة ما بعد دلالة هذا الظاهر الذي قد يوقِعُهُ في إشكال معرفي في نطاق بيان المنطق الدلالي للآية الكريمة، وكان من بين هذا النمط من الفهم غير المتوافق مع مضمون النص المعجز هو ما نقله موسى بن محمد من سؤاله أخيه الإمام الهادي (عليه السلام) عن دلالة قوله تعالى (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ)حيث سُئِلَ موسى نفسُهُ عن هذه الآية فلم يُحرِ جواباً؛ ولهذا هرع إلى الإمام ليفسر له النص على وفق منطلقه الصحيح؛ إذ يُنقَلُ أنَّ موسى سُئلَ عن هذا النص الكريم حيث قال: ((لقيتُ يحيى بن أكثم في دار العامة فسألني عن مسائلَ، فجئتُ إلى أخي علي بن محمد، فدار بيني وبينه من المواعظ ما حملني وبصرني طاعته، فقلت له: جعلت فداك إنَّ ابن أكثم كتب يسألني عن مسائل لأُفتيه فيها، فضحك، ثم قال: فهل أفتيته؟ قلتُ: لا، قال: ولِمَ؟ قلت: لم أعرفْها، قال: وما هي؟ قلت: كتب يسألني … عن قوله: (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً)؛ أيزوج الله عباده الذكران وقد عاقب قومًا فعلوا ذلك؟ …. {فأجاب الإمام}: أما قوله (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً)؛ أي يولد له ذكور، ويولد له إناث، ومعاذ الله أنْ يكونَ الجليل عَنِيَ ما لبست على نفسك تطلباً للرخصة لارتكاب المآثم، قال: فمن يفعل ذلك يلق آثاماً يضاعف له العذاب يوم القيامة، ويخلد فيه مهاناً إن لم يتب))، فعند النظر في نص الإمام نجد أنَّ الإمام قد عَلِمَ بأنَّ المتلقي قد وقع في نطاق الوهم في تفسير التزويج ههنا وذلك بدليل قوله (عليه السلام): (ومعاذ الله أنْ يكونَ الجليل عني ما لبست على نفسك تطلباً للرخصة لارتكاب المآثم)؛ إذ حَسِبَ المتلقي أنَّ المعنى المبتغى من النص هو إجازة زواج الذكور بعضهم من بعض وجواز زواج الإناث بعضهن من بعض، وهو محرم في كل الشرائع السماوية التي أنزلها الله سبحانه وتعالى، وقد عوقب قوم لوط بعلة هذا الفعل المحرم، حيث يقول سبحانه على لسان لوط (عليه السلام)
(وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ)؛ لذا أدركه الإمام بالإيضاح الصائب فأبعد عن نفس المتلقي مدار الشطط في فهمه لمضمون دلالة التزويج في الآية.
والأظهر أنَّ الإمام الهادي (عليه السلام) قد اعتمد في نقده للفهم التفسيري للسائل منهج تفسير النص بالنص؛ ذلك بأنَّه قد نظر إلى الدلالة العامة للسياق الذي وردت فيه هذه الآية الكريمة وهو تحديداً في قوله تعالى(لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِير)إذ نفهم من دلالة الآية السابقة على آية تزويج (الذكران) أنَّ السياق ههنا منصب على بيان سعة قدرته سبحانه بدلالة قوله (يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ)حيث أرجع سبحانه مسألة الخلق إليه حصرًا بدلالة استعماله (ما) الموصولة في قوله (ما يشاء)؛ ذلك بأنَّ (ما) ههنا تفيد دلالة العموم بمعنى أنَّ كل ما هو مخلوق إنما خالقه الله سبحانه وتعالى ثم خصص سبحانه بعد ذلك بقوله(يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ)ليبين مدى قدرته في تنويع الخلق ومدى سلطته في أن يهب الإناث أو الذكور لمن يشاء، ثم انتقل بعد ذلك إلى بيان مديات قدرته العليا وذلك في قوله تعالى(أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً)؛ إذ المراد يهب لمن يشاء ذكراً وأنثى معاً زوجين زوجين، ولا يعني ذلك بالضرورة أنَّ المراد هو عقد الزواج ليُفهَمَ بأنَّ المضمون هو إباحة زواج الذكر من الذكر والأنثى من الأنثى؛ ذلك بأنَّ الله سبحانه قد استعمل الفعل (يزوجهم) في الآية الكريمة بالمعطى المعجمي لها وهو الاقتران زوجين زوجين لا بالمفهوم الاصطلاحي الشرعي لها مطلقاً، فهو سبحانه يريد المزاوجة أي ((يقرن بين الإناث والذكور ويجعلهم أزواجاً فيهبهما جميعاً)) لمن يشاء ذرية له، فهو تارةً يهب الذكور فقط وأُخرى يهب الإناث فحسب؛ أي (يهب لمن يشاء إناثاً لا ذكور معهن، ويهب لمن يشاء ذكوراً لا إناث معهم) وتارةً ثالثة يهب الذكور والإناث مزاوجة، ويبدو أنَّ البيضاوي قد استشعر أنَّ المراد من التزويج هو معنى خلق الذرية على هيئة الأزواج اثنين اثنين؛ ولهذا قال ما نصه: إنَّ قوله تعالى(أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً ) بدل من {يخلق} بدل البعض، والمعنى يجعل أحوال العباد في الأولاد مختلفة على مقتضى المشيئة فيهب لبعض إما صنفاً واحداً من ذكر أو أنثى أو الصنفين جميعاً ويعقم آخرين))
وما يعضد مقولة نقد الإمام (عليه السلام) أيضاً هي خاتمة الآية الكريمة وهي قوله سبحانه (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِير)بهذا نستدل على أنَّ محور الحديث في الآية إنما هو مسلط على منح الذرية؛ فقد يمنحها الله ذكوراً أو إناثًا أو ذكوراً وإناثًا معًا على حد سواء أو يجعل المرء عقيماً لا ذرية لديه، وهذا يدل على مدى قدرته سبحانه وهيمنته على عباده مطلقاً؛ من هنا فسَّرَ الإمام (يزوجهم) بالمعنى المعجمي لها هو المراد تحديدًا في الآية الكريمة لا غير، يقول الرازي: ((التزوج والتَّزاوُجُ والمُزَاوَجَةُ والازْدِواجُ بمعنى، والزَّوْجُ ضد الفرد وكل واحد منهما يسمى زوجاً أيضا، يقال للاثنين هما زوجان وهما زوج، كما يقال هما سيان وهما (سواء))ويرى ابن منظور أنَّ ((الأَصل في الزَّوْجِ الصِّنْفُ والنَّوْعُ من كل شيء، وكل شيئين مقترنين شكلين كانا أَو نقيضين فهما زوجان، وكلُّ واحد منهما زوج))
بهذا نستدل على أنَّ نقد الإمام
الهادي (عليه السلام) في توجيه دلالة فهم التزويج في الآية كان مبنياً على ثلاثة أسس لغوية هي: (الأساس المعجمي للفظ التزويج في التداول اللساني الأصلي عند العرب، وتوظيف وحدة السياق المؤيدة للمعنى الذي قدمه الإمام للسائل، وثالثها أنَّ هذا التوجيه المضموني مستندٌ إلى كيفية الاستعمال القرآني نفسه؛ إذ ورد توظيف مفردة الأزواج بمعنى القرناء دون الدلالة على عقد الزواج في التعبير القرآني، وذلك في قوله تعالى (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ)فالمراد من لفظة (وأزواجهم) وقرناءهم من الذين اتبعوهم، وقيل: (أزواجهم قرناؤهم من الشياطين يحشر كل كافر من شيطانه) ولا يخرج كلا المعنيين من الدلالة على الاقتران، وهو ما أراده سبحانه من دلالة التزويج في الآية التي وجَّهها الإمام
الهادي (عليه السلام) تحديداً.
مما تقدم يمكن أن نستنتج الآتي:
1- أنَّ النقد التفسيري يعدُّ وجهاً من وجوه استنباط الدلالة التفسيرية الأرجح فهو من أجلى أصول بيان النص القرآني على وجه الحقيقة الدلالية غير المشكوك فيها؛ وبهذا يمكن أنْ يعدُّ جزءاً من التفسير بالحتمية والضرورة التبعية.
2- إنَّ استعمال الإمام الهادي (عليه السلام) لهذا النمط الأدائي من أنماط التفسير لهو دليلٌ قطعيٌّ وسندٌ لا يحتمل احتمال على ضرورة ممارسة هذا المنحى التشخيصي للدلالة على النصوص القرآنية كافة؛ ذلك بأنَّ هذا الإجراء البياني الصادر من الإمام تباعاً والرسول ابتداءً يعدُّ من السنة الشريفة؛ والسنة واجبة الاتباع بلا نقاش ومفروضة الأداء بلا جدل.
3- إن اعتماد هذا النمط من قراءات النصوص القرآنية له من الأهمية بمكان ما يدعو الـمُفسِّر إلى طول النظر والتأمُّل وإعادة القراءة المرة تلو الأخرى حتى يقفَ على المنجز الدلالي الأمثل من النص وذلك بحيثية تمحيصه الآراء التفسيرية التي قيلت في حق النص؛ وسبره لغور النتاجات البيانية التي أُدليت في الموضع المراد نقده تفسيراً؛ وبهذا ستُغربَل دلالة النص ويُمحَّصُ معناه وصولاً للجوهر المضموني الأصل من النص.
4- إنَّ هذا الإجراء التفسيري الـمُمَنْهَجَ قد يُعدُّ حلاً للكثير من الإشكالات التي قد يقع في هوتها بعض علماء التفسير فتتسع مساحة الخلاف في النصوص التفسيرية بينهم؛ وقد ينتهي الأمر ببعضهم إلى تأسيس حكم شرعي يعتمد عليه الناس ويرْكَنُ إليه وهو في حقيقته وهم تفسيري لا أساس له من الصحة.
نشرت في العدد 55
1- سورة الشورى: 50.
2- المجلسي: بحار الأنوار: 10/389 و76/69، وابن شهر أشوب: مناقب آل أبي طالب: 3/508،
وينظر: محمد حسين الصغير: الإمام الهادي (ع) الأنموذج الأرقى للتخطيط المستقبلي: 220.
3- سورة العنبكوت: 28.
4- سورة الشورى :49- 50.
5-الشوكاني: فتح القدير: 4/775.
6- م.ن : 4/774، وينظر: البغوي: تفسير البغوي: 1/200.
7- البيضاوي: تفسير البيضاوي: 1/135، وينظر: الآلوسي: روح المعاني: 25/53.
8- الرازي: مختار الصحاح:280.
9- ابن منظور: لسان العرب: 2/291.
10- سورة الصافات: 22.
11- ينظر: ابن منظور: لسان العرب:2/291.
12-ينظر: الشوكاني: فتح القدير:4/555، والبغوي: تفسير البغوي: 1/363.