من دعاء الإمام الصادق(عليه السلام) يوم الغدير:
«اللّهُمَّ إني أُشْهِدُكَ ، وَكَفى بِكَ شَهِيداً ، وَأُشْهِدُ مَلَائِكَتَكَ ، وَحَمَلَةَ عَرْشِكَ ، وَسُكَّانَ سَموَاتِكَ ، وَأَرْضِكَ ، بِأَنَّكَ اللهُ الذي لا إلهِ إلاَّ أَنْتَ ، المَعْبُودُ الذي لَيْسَ مِنْ لَدُنْ عَرْشِكَ، إلى قَرَارِ أَرْضِكَ مَعْبُودٌ سِوَاكَ إلاَّ بَاطِلٌ مُضْمَحِلُّ غَيْرَ وَجْهِكَ الكَرِيمِ ، لا إلهَ ألاَّ أَنْتَ المَعْبُودُ ، لا مَعْبُودَ سِوَاكَ ، تَعَالَيْتَ عَمَّا يَقُولُ الظَالِمونَ عُلُواً كَبيراً ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَداً عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيّاً أمِيرَ المُؤمِنِينَ ، وَلِيُّهُمْ وَمَوْلاهُمْ وَمَوْلايَ…».الإقبال ص: 477
يحفل تراث الإمام الصادق (عليه السلام)بالنصوص الأدبية المختلفة التي حاكت لغة القرآن وضارعت الفصاحة النبوية وشاكلت البيان العلوي، ومن بين تلك النصوص الأدبية أدعيته المباركة التي جمعها الشيخ باقر شريف القرشي في كتاب (الصحيفة الصادقية)، وقد ضم هذا الكتاب مجموعة كبيرة من الأدعية الخاصة بمختلف الأوقات والمناسبات كأدعية الصباح والمساء، وأدعية الليالي والأيام المباركة، وأدعية شهر رمضان،وأدعية الحج،وغيرها.
ومن بين هذه المناسبات الإسلامية والأيام المباركة عيد الغدير الأغر، فهو من أهم الأعياد شأناً، ومن أسماها منزلة، ففيه كمل الدين، وتمت النعمة الكبرى على المسلمين، وقلّدت السماء الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قيادة روحية، ونصبته خليفة للنبي(صلى الله عليه وآله) من بعده، ولما كان هذا اليوم المبارك من أعظم الأعياد في الإسلام، فقد ندب الإمام الصادق(عليه السلام)إحياءه بذكر الله تعالى، وكان يدعو بهذا الدعاء، وحث شيعته على تلاوته ، والدعاء مذكور نصه كاملاً في الصحيفة الصادقية(2) .
الاقتباس القرآني:
الاقتباس: هو فن من فنون البلاغة، يقوم على تضمين النص الأدبي آيةً قرآنيةً أو حديثاً أو مثلاً، ويكون على نحوين :
1ـ الاقتباس بالمعنى واللفظ
وذلك بجعل النص المُقتبس متداخلاً مع دلالة النص المقتبس له .ومن الملاحظ أن الاقتباس القرآني يكثر بشكل لافت في هذا الدعاء، فأول ما يطالعنا فيه اقتباس قوله تعالى: ﴿رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ)( آل عمران: 194)، مما يدل على أن أمر تنصيب الإمام علي (عليه السلام)
أميراً للمؤمنين هو أمر إلهي قرآني، وكأن الإمام الصادق(عليه السلام)بصدد تأكيد هذه الفكرة في نفوس المتلقين، فضلاً عن ذلك فقد قدّم في هذا الدعاء تفسيراً غير مباشر لبعض المفاهيم القرآنية، فالمتلقي حينما يقرأ أو يسمع هذا الدعاء تتولد في مخيلته دلالات تفسيرية لهذه المفاهيم لم تكن لولا أنها اقتُبِست في هذا النص.
فمفهوم (نداء الإيمان) الوارد في الآية الكريمة يُفسَّر في ضوء هذا النص بـ (نداء البيعة) لأمير المؤمنين (عليه السلام)، وأن المنادي هو رسول الله (صلى الله عليه وآله).
والأمر نفسه يمكن ملاحظته في بقية أجزاء النص، ففي أكثر فقرات الدعاء ورد الاقتباس القرآني شاهداً حياً على هذه الحادثة التاريخية، وتأكيداً لفكرته، وإنارةً لموضوعه الذي حاول أعداء المذهب طمسه وإطفاء نوره، وذلك بالتركيز على صفات أمير المؤمنين (عليه السلام) ومناقبه وفضائله في الإسلام، وهو ما يجعل النص أكثر تماسكاً وترابطاً دلالياً.
فمن صفات الإمام علي (عليه السلام)الواردة في القرآن الكريم، والمقتبسة في نص الدعاء:
1- (العلي الحكيم): ((فاشهد يا إلهي أن الإمام الهادي، المرشد، الرشيد علي بن أبي طالب، صلوات الله عليه، أمير المؤمنين الذي ذكرته في كتابك، فقلت: ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾(الزخرف: 4.).
2- (النبأ العظيم): ((وأن علياً أمير المؤمنين ولينا ومولانا … عبدك الذي أنعمت عليه، وجعلته في أم الكتاب لديك علياً حكيماً، وجعلته آية لنبيك، وآية من آياتك الكبرى، والنبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون))، وهو اقتباس لفظي غير نصي من قوله تعالى: ﴿عَمَّ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ﴾( النبأ: 1-3.).
3- (ولي أمر المؤمنين)، ومن (الصادقين): ((ربنا إنك أمرتنا بطاعة ولاة أمرك، وأمرتنا أن نكون مع الصادقين، فقلت:﴿أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾( النساء:59)، وقلت:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ﴾( التوبة:119).
4- بولايته (كَمُلَ الدين وتمَّت النعمة): ((وجعلت الإقرار بولايته تمام توحيدك، والإخلاص لك بوحدانيتك، وإكمال دينك، وتمام نعمتك على جميع خلقك، فقلت وقولك الحق: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾( المائدة: 3).
5- إن ولايته هي (النعيم)، وهو ما يُسأل عنه العباد يوم القيامة: ((اللهم فكما كان من شأنك يا صادق الوعد، يا من لا يخلف الميعاد، يا من هو كل يوم في شأن، أن أتممت علينا نعمتك بموالاة أوليائك، المسؤول عنهم عبادك، فإنك قلت:
﴿لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ (التكاثر: 8)، وقلت: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ﴾ (الصافات: 24).
6- وبيعته هي (العهد والميثاق): ((وذكَّرتنا ميثاقك المأخوذ منا في ابتداء خلقك إيانا، وجعلتنا من أهل الإجابة، وذكَّرتنا العهد والميثاق، ولم تنسنا ذكرك، فإنك قلت: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا﴾( الأعراف: 172).
2ـ اقتباس المعنى دون اللفظ
وفي كل ما تقدّم كان اقتباساً لفظياً من القرآن الكريم، وأما الاقتباس بالمعنى دون اللفظ، وهو أن يقتبس منشئ النص معنى قرآنياً ولكن بتغيير بعض الألفاظ أو تغيير بنائها، فتكاد لا تخلو فقرة من هذا الدعاء من المعاني القرآنية التي تُقدِّس الله تعالى وتوحّده وتنزهه سبحانه وتعالى، أو تذكر منزلة رسول الله (صلى الله عليه وآله)ومنزلة أمير المؤمنين (عليه السلام)،
من ذلك مثلاً: (ربنا إننا سمعنا النداء، وصدّقنا المنادي، رسولك صلى الله عليه وآله، إذ نادى نداء عنك بالذي أمرته أن يبلّغ عنك ما أنزلت إليه من موالاة ولي المؤمنين، وحذّرته، وأنذرته إن لم يبلغ أن تسخط عليه، وأنه إذا بلّغَ رسالتك عصمْته من الناس).
فهو اقتباس معنوي من قوله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾( المائدة: 67).
((فلك الحمد على ما مننت به علينا من الإخلاص، والتصديق لعهدك وميثاقك، ومن أهل الوفاء بذلك، ولم تجعلنا من الناكثين والمكذبين، الذين يكذبون بيوم الدين، ولم تجعلنا من المغيرين والمبدلين والمحرفين والمبتكين آذان الأنعام، والمغيرين خلق الله، ومن الذين استحوذ عليهم الشيطان، فأنساهم ذكر الله، وصدهم عن السبيل والصراط المستقيم)).
وهو اقتباس معنوي من قوله تعالى: ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾ (المطففين: 10-11)، وقوله تعالى:
﴿وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ﴾( النساء: 119)، وقوله تعالى: ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾( المجادلة: 19).
(آمنا يا رب بسرهم وعلانيتهم، وشاهدهم وغائبهم، ورضينا بهم أئمة وسادة وقادة، لا نبتغي بهم بدلاً، ولا نتخذ من دونهم ولائج أبداً).
وهو اقتباس من قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً﴾( التوبة: 16).
يتضح مما سبق أن هناك نقاط التقاء وثيقة بين كلام الله تعالى وكلام المعصومين (عليه السلام)، وهذا ليس بغريب إذ إن كلامهم هو كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله)وكلام رسول الله هو كلام الله تعالى، ونقصد بذلك أنه مطابق لتعاليم الله وتوجيهاته، وفصاحتهم وبلاغتهم وأدبهم من فصاحة القرآن وبلاغته وأدبه، ونخص من بين المعصومين الإمام جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام) الذي إليه يعود هذا الدعاء.