يعد عهد البعثة النبوية الحدث الأبرز والفاصل في تاريخ العرب، فقد نقلهم من عبادة الأوثان إلى الإيمان بالله الواحد، واستتبع تحولًا جذرياً في حياتهم السياسية والاجتماعية والخلقية والروحية، لأنه دعاهم إلى نبذ الأوثان وعبادة الله ـ الإله الواحد ـ ورفض العصبية القبلية، وأمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر وحثّهم على التمسك بالفضائل.
لقد كان لهذه البعثة النبوية الشريفة أدب تمثل بالنثر الفني الذي وصلنا، ومنه خطب النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله)، فقد نشطت الخطابة في مواضيع مختلفة منها ما هو ديني وسياسي واجتماعي، أما الخطبة الدينية فكانت ترمي عادة إلى التذكير بأوامر الدين ونواهيه، والحث على أداء الفرائض في أوقاتها، والدعوة إلى التحلي بالفضائل الخلقية.
أما كلامه(صلى الله عليه وآله) فقد اشتمل على المعاني الأدبية المختلفة، وعلى عرض جوانب الحياة المختلفة والتعرض لها بجمل تعبيرية مؤثرة، وكلامه(صلى الله عليه وآله) يعبر عن معنى وشعور رقيق بضرب الأمثال حينًا، وبالتمثيل حينًا وبالمنهج القصصي حينًا ، وبالحوار حينًا آخر وقد كان يؤثر سهولة الكلام حين تقضي الحال السهولة، ويختار الجزالة حين يستدعي الأمر الجزالة، ويبسط الكلام حينًا فيصبح سلسًا سائغًا، ويوجزه حينا، فيصبح من جوامع الكلم.
ليس هناك من شك في أن الأسلوب الأدبي له ملامحه الخاصة التي تميزه عن غيره من الأساليب الأخرى، كونه أسلوبًا يحتوي على المجاز ومن ثم هو جامع لمستويات فكرية متداخلة ومتراكمة بصورة تدعو المتلقي إلى معاودة قراءته مرارًا وتكرارًا للوقوف على ما
وراء النص وهذا ما وجدناه في نص وثيقة المدينة المنورة.
وثيقة المدينة:
وصل رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلى المدينة مهاجرًا من مكة، جاء ليؤسس نواة دولته التي سينطلق منها إلى العالم الأرحب إلى الناس كافة. وفور وصوله قام بعدة أعمال تؤكد هذا المعنى، ومن ضمن ما قام به إرساء السلام بين مكونات مجتمع يثرب، من العرب المهاجرين والأنصار وأهل الكتاب وغيرهم. حيث لا يمكن أن يُبنى بلد دون وجود السلام بين مكونات مجتمعه. وبعد أن آخى بين المهاجرين والأنصار، قام وخطب فيهم خطابًا يطمئن فيه هذه المكونات، ثم تلا ذلك بكتابته وثيقة شاملة حول العيش السلمي بين هذه المكونات، وبين فيها للجميع ما لهم وما عليهم، وسميت هذه الوثيقة فيما بعد بـ (وثيقة المدينة). وقد أورد كبار المؤرخين هذه الوثيقة كابن هشام في سيرته ج2 ص348، والبيهقي في سننه ج8 ص106، وابن كثير في البداية والنهاية ج3 ص273 وغيرهم. وتوخيًا للاختصار سنذكر بعضًا من فقرات هذه الوثيقة وبما يحتاجه البحث.
إن معاني نص هذه الوثيقة يحتاج إلى تأمل، فقد اشتملت على لغة أدبية تحتاج إلى جهد تحليلي خاص لغرض الوقوف على معطياتها الفكرية والتربوية والإبداعية، وكشف ما تنبئ فيه تفاصيلها، واستخلاص كل ما فيها من طاقات إيحائية أو شحنات انفعالية، وهو ما يسعى إليه هذا البحث عبر مباحث تركز على جمال النص الفني،وقيمة المضامين العالية فيه.
ومن الجدير بالذكر أن (وثيقة المدينة) إلى جانب المستوى التصويري الذي اشتمل عليه أسلوبها الأدبي نجد فيها مستوى آخر يتمثل في الاهتمام باللفظ وزينته، فضلًا عن دقة الكلمات، مما يعكس مستوى الثقافة العالية التي يتمتع بها النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله)، فقد أوتيَ(صلى الله عليه وآله)جوامع الكلم وخُصّ ببدائع التعبير الحكيم المحكم، وقد أدّبه مولاه فأحسن تأديبه، وعلّمه مالم يكن يعلم وقد وصف الجاحظ كلام المصطفى بقوله:
(وهو الكلام الذي قل عدد حروفه، وكثرت معانيه، وجلّ عن الصنعة، وتنزه عن التكلف، وكان كما قال الله تبارك وتعالى قل يا محمد (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ)، فكيف وقد عاب التشدق، وجانب أصحاب التعقيب، وهجر الغريب والوحشي، ورغب عن الهجين السوقي فلم ينطق إلا عن ميراث حكمة، ولم يتكلم إلا بكلام قد حُفَّ بالعصمة، وشد بالتأييد ويُسر بالتوفيق)(1).
ثم يقول الجاحظ:
(وهو الكلام الذي ألقى الله عليه المحبة وغشاه القبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة، وبين حسن الإفهام وقلة عدد الكلمات، مع استغنائه عن إعادته، وقلة حاجة السامع إلى معاودته)(2).
لقد حملت وثيقة المدينة بين طياتها سمات عصر النبوة وملامح العقيدة الجديدة التي سادت المجتمع عند توقيع هذا الكتاب، وقد أشار بعض الباحثين إلى هذه المسالة، ففي صدره يذكر اسم الله الرحمن الرحيم، وفي ثناياه تتردد ألفاظ بعينها كثيرة الاستعمال والدوران على الألسنة والأقلام المسلمة، مثل ألفاظ المعروف، والقسط، والمؤمنين، والبر والإثم والتقوى والقتال في سبيل الله والهدى واليوم الآخر، ولعنة الله وغضبه، والصرف والعدل، وغيرها مما لم يكن مألوف الدوران في عصر ما قبل الإسلام(3).
أما عن أهم الأساليب الأدبية التي يمكن للباحث أن يلاحظها في هذه الوثيقة:
أولًا: التضمين القرآني: وظف النبي الأكرم المضامين القرآنية في أكثر خطبه، وهو أمر مألوف يأتي من كونه المفسر الأول للنص القرآني فهو الأعرف بمضامينه وأسراره وهو المكلف بالتبليغ وحث الناس على أداء الأوامر والابتعاد عن كل ما حرمه الله سبحانه وتعالى ، وقد استطاع أن يوظف المفردات القرآنية في وثيقة المدينة سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ومن صور هذا التوظيف قوله: (هذا كتاب من النبي محمد(صلى الله عليه وآله) بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم)(4)، نلاحظ عدد المفردات القرآنية التي وظفها النبي(صلى الله عليه وآله) في هذا المقطع وهي النبي والمؤمنين والمسلمين والجهاد، وكأنه يريد أن يقول أن هناك عملية استبدال شاملة حصلت في المجتمع العربي، وهو خير من يمثل المجتمع فصاحة وقدرة بيانية وقد أقرّ بتلك الحقيقة فصحاء قريش قبل مئات السنين (هذا النبي(صلى الله عليه وآله) هو أفصح العرب لهجة وأعذبهم عذبة وأحسنهم إفصاحًا وبياناً وأرجحهم في الحكمة البالغة ميزاناً، قد اقتبس من معاني القرآن وألفاظه في الكثير من كلامه، والجمال غفير من مقاله، فرصعوا كلامه ترصيعاً وتعاطوا فنونه جميعاً)(5).
ثانيًا: ظاهرة التكرار: تصدى أكثر الباحثين لدراسة هذه الظاهرة في الأدب العربي وحاولوا الوقوف على أسبابها ودواعيها خاصة عند القدماء وقد اختلفوا فيما قالوه عنها، ويبدو أن مرد هذا الأمر يعود إلى اختلاف الأذواق، ويرى الدكتور نعمة رحيم العزاوي (أن كلام النقاد العرب على التكرار يمكن أن يوصف بالقلة والاقتضاب إذا قيس بما للمحدثين من تفصيلات بشأنه واستنتاجات قيمة، ويظهر أن المحدثين انتفعوا في درسهم للتكرار وفي استنباطه مما استنبطوه منه بما توصل إليه علم النفس في هذا العصر)(6).
ومن الباحثين من ذهب إلى أن المعاصرين لهم جهود متميزة في تناولهم الكثير من الظواهر الأدبية وسبب شيوع هذه الظاهرة الأسلوبية في الكلام الفني الراقي(7) ومنه حديث الرسول الكريم(صلى الله عليه وآله) حتى إن بعض الدارسين يرى (أن الاتجاه نحو هذا الأسلوب التعبيري مازال في اطراد بحيث يصح أن نرقبه ونقف منه موقفًا يقظًا)(8). ومن الأمثلة على التكرار الفني الوارد في قول الرسول(صلى الله عليه وآله) في وثيقة المدينة قوله: (وبنو الحارث على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين) (9). وعلى هذا المنوال يتكرر لفظ (بنو عوف) و(بنو النجار) و(بنو النبيت) و(بنو الأوس)، وهكذا نلاحظ أن الذي يتكرر هو اسم القبيلة، والثابت هو نص العهد أو الوثيقة، وقد أشار القدماء إلى هذه المسألة في كلام البلغاء وسموها الترداد ومنهم الجاحظ الذي ذكر أنه (ليس فيه حد ينتهي إليه ولا يؤتى على وصفه، وإنما ذلك على قدر المستمعين ومن يحضره من العوام والخواص)(10)، لذا يمكن القول أن تكرار النبي(صلى الله عليه وآله) يراد منه الإفهام والإقناع والتأكيد من قبل المستمعين، أي إنه وظف بلاغته في استعمال التكرار فضلًا عن أساليب أخرى تمكن من إقناع المتلقي وتغير تفكيره إلى الوجهة التي يريدها فهو أخطب العرب قاطبة فقد كان يخطب في قريش كثيرًا يدعوها إلى دينه الحنيف والدخول في طاعة الله ومحبته(11).
ثالثًا: أسلوب الخبر والإنشاء: يتضح اهتمام النقاد والبلاغيين ببلاغة الكلام عبر حديثهم عن الكلام البليغ ومحاولة تحديد خصائصه التي تميزه عن المستوى المألوف من الكلام، فالكلام البليغ عندهم هو (القول المحيط بالمعنى المقصود مع اختيار الكلام، وحسن النظام، وفصاحة اللسان)(12).
ومن هنا راح البلاغيون يهتمون بالنص من كافة جوانبه اللغوية ومن أدنى جزئية تبدأ بالحرف وتنتهي بالصورة الكاملة للتعبير الفني، فهم تحدثوا أولًا عن الحروف ثم المقاطع ثم الألفاظ المفردة في صحتها وفصاحتها وملاءمتها للاستعمال وصفائها في ما يستحسن منها ويستهجن والروابط، وعلاقة الكلم بعضها ببعض، ونسق العبارة وما يستحسن فيها من انسجام وقوة سبك،أو تنافر واضطراب يمس جمالها وفنيتها.
لقد استعمل النبي في هذه الوثيقة مختلف أنواع الجمل الخبرية فمنها الجمل الخبرية الابتدائية ومنها الطلبية ومنها الإنكارية، وذلك بحسب سياق الكلام ومدى قبول أو إنكار هذه الأخبار فعلى سبيل المثال استعمل الجمل الخبرية الإنكارية في قوله مخاطبًا قريش ويثرب (أنهم أمة واحدة من دون الناس) فقد استعمل أداة التوكيد (أنَّ) فضلًا عن التكرار المعنوي أمة واحدة، كذلك استعمل الخبر الإنكاري في قوله: (إن من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم)، ولا عجب في ذلك فإن اليهود كان لديهم شك وإنكار في أن تبعيتهم إلى الإسلام تؤدي بهم إلى النصر، لأنهم يعتبرون الديانة الإسلامية هي التي قضت على دينهم، لهذا أراد النبي
الأكرم(صلى الله عليه وآله) أن يزيل هذا الإنكار منهم فاستعمل هذه المؤكدات.
كذلك استعمل الخبر الطلبي في قوله: (وإن ذمة الله واحدة) وقوله: (إن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس)(13) لإزالة التردد والشك من ذهن المتلقين لهذا الخبر.
أما عن الجمل الإنشائية التي ورد استعمالها في وثيقة المدينة فأذكر منها قوله الشريف في الإنشاء الطلبي: (أنه لا يحل لمؤمن أقرَّ بما في هذه الصحيفة.. أن ينصر محدثًا)(14)، وكذلك قوله: (وأنه لا يجير مالًا لقريش) و(ولا يحلله)، فضلًا عن هذا استعمل النبي(صلى الله عليه وآله) عبارة: (إن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة) وإلى آخره من الأساليب الإنشائية التي غلب عليها طابع النهي دون غيره من الأساليب، ربما لأنه وجد فيه ردعًا أكثر من غيره وأنه يتناسب والسياق الذي تتحدث عنه الوثيقة، وهنا تبرز قوة المعاني والألفاظ، وقوة الحجة والبرهان، وهنا يتحدث الرسول(صلى الله عليه وآله) إلى إرادة سامعيه لإثارة عزائمهم واستنهاض هممهم، ومن أبرز سماته توظيف الجمل الخبرية والإنشائية بما يخدم الغاية والهدف من هذه الوثيقة.