احتل حديث الغدير موقعه المتميز في الشعر العربي منذ لحظة وقوع الحادثة إلى يومنا هذا، فلا تكاد تمر مناسبة إلّا وقد ذكر الغدير شعرياً بها.
فقد أكثر الشعراء في الحديث عن بيعة الغدير في شعرهم، حتى جمعهم العلامة الأميني في موسوعته الخالدة (الغدير في الكتاب والسنة والأدب)، وذكر فيه الشعراء بحسب القرون والأزمان، ومن أجل الاطلاع على نماذج من هذا الشعر وشعرائه، نمر مروراً سريعاً بشعر الغدير عند بعض الشعراء القدامى، وكذلك بعض الشعراء المحدثين، باعتبار أن ما كتب في هذا الموضوع لا يمكن حصره في بحث أو مقال لكثرته وتنوعه.
عند مراجعة أحداث التأريخ نجد أن أول من عمل على تخليد واقعة الغدير هو حسان بن ثابت، إذ نلحظ أنه بمجرد نزول الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) من على المنبر وذلك بعد إعلانه لإمامة علي (عليه السلام) استجاز حسان بن ثابت رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أن يفرغ ما نزل به الوحي في قالب الشعر، فأجاز له الرسول (صلى الله عليه وآله) ذلك، فقام وأنشد:
يناديهم يوم الغدير نبيهم بخم وأسمع بالرسول مناديا
فقال: فمن مولاكم ونبيكم؟ فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا
إلهك مولانا وأنت نبينا ولم تلق منا في الولاية عاصيا
فقال له: قم يا علي؟ فإنني رضيتك من بعدي إماما وهاديا
فمن كنت مولاه فهذا وليه فكونوا له أتباع صدق مواليا
هناك دعا اللهم؟ وال وليه وكن للذي عادا عليا معاديا
فلما فرغ من قوله، قال له النبي (صلى الله عليه وآله): (لا تزال يا حسان مؤيداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك)(1)، لذلك نرى مثلما يحصل في الوقت الحاضر عندما يصدر خبر هام من قبل شخص مهم تأخذه القنوات الإعلامية لنشره وكذلك كان الشعر ينشر الأحداث المهمة.
لقد كان أمير المؤمنين (عليه السلام) عالماً بأهمية الشعر ودوره في تخليد الوقائع العظيمة.
(وروى الواحدي عن أبي هريرة قال: (اجتمع عدة من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) منهم: أبو بكر، وعمر وعثمان وطلحة والزبير والفضل بن عباس وعمار وعبد الرحمن بن عوف وأبو ذر والمقداد وسلمان وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين، فجلسوا وأخذوا في مناقبهم فدخل عليهم علي فسألهم: فيم أنتم؟ قالوا: نتذاكر مناقبنا مما سمعنا من رسول الله، فقال علي: اسمعوا مني ثم أنشأ يقول:
لقد علم الأناس بأن سهمي من الإسلام يفضل كل سهم
وأحمد النبي أخي وصهري عليه الله صلى وابن عمي
وإني قائد للناس طرًا إلى الإسلام من عرب وعجم
وقاتل كل صنديد رئيس وجبار من الكفار ضخم
وفي القرآن ألزمهم ولائي وأوجب طاعتي فرضًا بعزم
كما هارون من موسى أخوه كذا أنا أخوه وذاك اسمي
لذاك أقامني لهم إمامًا وأخبرهم به بغدير خم
فمن منكم يعادلني بسهمي وإسلامي وسابقتي ورحمي؟
فويل ثم ويل ثم ويل لمن يلقى الإله غدا بظلمي
وويل ثم ويل ثم ويل لجاحد طاعتي ومريد هضمي
وويل للذي يشقي سفاها يريد عداوتي من غير جرمي)(2).
فلولا معرفة الإمام علي (عليه السلام) بأهمية الشعر وقدرته العجيبة على الانتشار، وسحره في حفظ الوقائع والتراث والأنساب لما قاله (عليه السلام)، ولكنه كان يعلم بأن للشعر مكانة عند العرب في توثيق المناقب والمآثر.
عندما نقول الشعر الفصيح فنحن نقصد بذلك مجموعة الشعراء القدامى تقريباً الذين عاشوا وعاصروا اللغة العربية الفصيحة وعملوا على جعل شعرهم صحيفة لنقل واقعة الغدير إلى وقتنا الحالي ومن هؤلاء:
أبو المستهل الكميت الذي قال:
نفى عن عينك الأرق الهجوعا وهم يمتري منها الدموعا
دخيل في الفؤاد يهيج سقمًا وحزنًا كان من جذل منوعا
وتوكاف الدموع على اكتئاب أحل الدهر موجعه الضلوعا
ترقرق أسحما دررًا وسكبًا يشبه سحها غربًا هموعا
لفقدان الخضارم من قريش وخير الشافعين معًا شفيعا
لدى الرحمن يصدع بالمثاني وكان له أبو حسن قريعا
حطوطًا في مسرته ومولى إلى مرضاة خالقه سريعا
وأصفاه النبي على اختيار بما أعيى الرفوض له المذيعا
ويوم الدوح دوح غدير خم أبان له الولاية لو أطيعا
ولكن الرجال تبايعوها فلم أر مثلها خطرًا مبيعا
فلم أبلغ بها لعنًا ولكن أساء بذاك أولهم صنيعا
فصار بذاك أقربهم لعدلٍ إلى جورٍ وأحفظهم مضيعا
أضاعوا أمر قائدهم فضلوا وأقومهم لدى الحدثان ريعا
تناسوا حقه وبغوا عليه بلا ترة وكان لهم قريعا
فقل لبني أمية حيث حلوا وإن خفت المهند والقطيعا
ألا أف لدهر كنت فيه هدانا طائعًا لكم مطيعا
أجاع الله من أشبعتموه وأشبع من بجوركم أجيعا
ويلعن فذ أمته جهارًا إذا ساس البرية والخليعا
بمرضي السياسة هاشمي يكون حيًا لأمته ربيعا
وليثًا في المشاهد غير نكس لتقويم البرية مستطيعا
يقيم أمورها ويذب عنها ويترك جدبها أبدًا مريعا(3)
في حين قال السيد الحميري:
يا بايع الدين بدنياه ليس بهذا أمر الله
فارجع إلى الله وألق الهوى إن الهوى في النار مأواه
من أين أبغضت عني الرضى وأحمد قد كان يرضاه
جهدك أن تسلبه اليوم ما كان رسول الله أعطاه
من ذا الذي أحمد من بينهم يوم غدير الخم ناداه
أقامه من بين أصحابه وهم حواليه فسماه
هذا علي بن أبي طالب مولى لمن قد كنت مولاه
فوال من والاه يا ذا العلى وعاد من قد كان عاداه(4)
في حين قال أبو الطيب المتنبي في غدير خم:
إني ســألتك بالــذي زان الإمامة بالوصي
وأبان في يوم الغدير لكـــلّ جبّــار غــوي
فضل الإمام عليهـم بولاية الربّ العلي(5)
وكذلك قال قيس بن سعد بن عبادة:
قلت لما بغــــى العدو علينا حسبــــنا ربـــنا ونعم الوكيل
حسبنا ربنا الذي فتح البصــ ـرة بـالأمس والحديث طويل
ويقول فيها:
وعــــلي إمــامـنا وإمـــام لسوانـا أتــــى به التـنزيل
يوم قال النبي: من كنت مولاه فهذا مولاه خـطب جليل
إنما قالــــه النــبي على الأمة حـتم مـا فـيه قـــال وقيل(6)
في حين قال دعبل الخزاعي:
ولو قلدوا الموصى إليه أمورها لزمت بمأمون عن العثرات
أخي خاتم الرسل المصفى من القذى ومفترس الأبطال في الغمرات
فإن جحدوا كان (الغدير) شهيده وبدر وأحد شامخ الهضبات(7)
فهذه مجموعة من الأبيات التي تناولت واقعة الغدير وجعلتها محل خلود واهتمام من قبل مجموعة من فحول شعراء العربية. ولم يقتصر شعر الغدير على الشعراء المتقدمين فقط، وإنما تصدى المتأخرون لتحمل هذه المسؤولية ألا وهي استمرار واقعة الغدير عبر الأجيال،
فمثلًا قول الشاعر الدكتور مصطفى جمال الدين:
ظمئ الشـعر أم جفاك الشعـور كيف يظمأ من فيه يجري الغدير
كيف تعنو للجدب أغراس فكر لعــلي بهــا تمـــت الجــــذور
نبتــت بين (نهجــه) وربيـــع من بنيه غمـر العـطــاء البـذور
وسـقاها نبع النبي، وهل بعــد نمـير القــرآن يحلــو نمــــير؟
فزهت واحة، ورفت غصــون ونما برعــم، ونمــت عطــور
وأعـدت سـلالهـا، للقــطاف الغـض منــا، قـرائح وثغـــور
هكــذا يـزدهي ربيـــع علـي وتغنــي علـى هــواه الطيــور
شـربت حبـه قلـوب القـوافي فانتشت أحرف، وجنت شطور(8)
كان للشعر دور كبير في عكس أهمية هذه الواقعة يمكن أن نستعرضها من خلال النقاط الآتية:
1-أدت كثرة الشعر الذي قيل في الغدير إلى لفت الانتباه إلى هذه الظاهرة العظيمة وخاصة من قبل الجانب الأدبي، فبعد أن كانت الدراسات الأدبية مقتصرة في الشعر على دراسة الأطلال والشعر الجاهلي وجدت أمامها منبعاً غزيراً من الأشعار تناولت هذه الواقعة بكل تفاصيلها.
2- أدى الشعر إلى حفظ أحداث هذه الواقعة وتناقلها عبر الأجيال كما عمل على الإشارة إلى أهمية وعظمة صاحب هذه الواقعة ألا وهو أمير المؤمنين(عليه السلام).
إن واقعة الغدير من الوقائع العظيمة، وقد نالت شهرتها لأنها بداية الإمامة ونهاية النبوة، ولعظم هذه الواقعة كان لا بد أن تخلد عبر الأجيال والازمان، لذلك تعرضت لحفظها أهم وسائل الحفظ من ذلك الوقت وإلى الآن، ألا وهما القرآن الكريم والشعر العربي.
إنّ الشعر العربي كان وسيلة إعلام ذلك العصر، لأن الشعر سهل الحفظ ويدل على فصاحة قائله، لذلك عمل على خلود هذه الواقعة من خلال مجموعة من الأبيات نظمت في السابق ولا زالت تنتظم من أجل الجيل اللاحق، ومن هنا أثبتت هذه الواقعة خلودها وأصبح الغدير يردد في الأصداء.
——————————————-
1ـ أقسام المولى/الشيخ المفيد/ص7.
2ـ بحار الأنوار/ج34/ص442.
3ـ الغدير: 2 / 180.
4ـ المناقب ابن شهراشوب/ج2ص234.
5ـ بغية الطلب/ابن العديم الحلبي/ج2ص676.
6ـ أقسام المولى/الشيخ المفيد/ص36.
7ـ الغدير/الأميني/ج2ص350.
8ـ القصيدة الغديرية للشاعر السيد مصطفى جمال الدين رحمه الله.
www.mrsawalyeh.comمنتديات مرسى الولاية – منتديات الأدبية – مرسى الأدب العام.