يُشكّل جمع القرآن الكريم وتدوينه قضية شغلت بعض العلماء في أوّل من جمعه وألّف صحفه إلى بعضها ليصل إلينا بهذا الشكل الذي نحن اليوم نقرأه ونتدارسه،
فقد اختلف الرواة ودارسو القرآن بين مَنْ يقول جُمِع في عهد الرسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومنهم مَن يرى أنَّ جامعه كان أبو بكر باستشارة عمر بن الخطاب، ومنهم من يذهب إلى أنّ عثمان بن عفان هو الذي نسخ القرآن وجمعه ووزّعه بشكله الحالي على الأقطار الإسلامية(1)،
ونقل أبو داود السجستاني (ت316هـ) عمّن حدّث أنّ أول مَنْ جمع القرآن بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) كان عليًا بن أبي طالب (عليه السلام) حيث قال: (لما توفي النبي (صلى الله عليه وآله) أقسم عليٌّ أن لا يرتدي برداءٍ إلاّ لجمعة حتى يجمع القرآن في مصحف ففعل)(2)، ويروي الإمامية ذلك في مصادرهم.
لكنّ السؤال المهم هو ألم يجمعه رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حياته؟ نعم إنّ الرسول (صلى الله عليه وآله) كان يحفظه في قلبه بدليل قوله سبحانه: (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى)(الأعلى:6)، لكن ليس كلّ الصحابة وباقي المسلمين كانوا يحفظونه، وهو دستورهم في الحياة ومرجعهم، فإذا مات الرسول(صلى الله عليه وآله) فلمن يرجعون إذا لم يكن هناك مصحف جامع منه مكتوب.
لقد تواترت الأخبار والدلائل على أنّ الرسول(صلى الله عليه وآله) هو أول من جمع القرآن الكريم(3)، وقد قال تعالى في حجة الوداع: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإسلام دِينًا)(المائدة:3)، وإنّ مِن إكمال الدين وإتمام النعمة على المسلمين كافة أن يكون لهم كتاب كمرجع لهم، فيكون لابُدّ من وجود مصحف جامع لآيات القرآن وسوره يرجعون إليه.
ثمّ أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله) قال في حجة الوداع: (إنّي تارك فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي(4)، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي أبدًا) فالكتاب هو القرآن الكريم، ويفيد معنى الترك بعده وجود المصحف عندهم وتداوله بين أيديهم مصحفًا جامعًا ومتواليًا بتوقيف النبي محمد (صلى الله عليه وآله) عن الله تعالى(5).
ومن روايات جمع الرسول(صلى الله عليه وآله) للقرآن في حياته وحفظه، ما ذكره السيوطي عن الحاكم في المستدرك أنّ القرآن جُمِع (بحضرة النبي (صلى الله عليه وآله) ثم أخرج بسنده على شرط الشيخين عن زيد بن ثابت قال: كنّا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) نؤلّف القرآن من الرقاع…الحديث، قال البيهقي: يشبه أن يكون المراد به تأليف ما نزل من الآيات المتفرقة في سورها وجمعها فيه بإشارة النبي (صلى الله عليه وآله))(6)،
وكيفما يكون فإنّ الجمع كان قائماً في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإن عدم تأليفه وجمعه آنذاك يكون من العبث في شيء، وهذا لا يتفق مع ما تعاهده الرسول (صلى الله عليه وآله) للقرآن الكريم، وقد تنبّه المستشرق تيرنر إلى أن جمع القرآن كان في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: (إنّ العديد من المصادر التأريخية والأحاديث النبوية تؤكدّ بلا شك أنّ معظم سور القرآن الكريم – إن لم تكن كلّها – قد دوِّنت كتابةً أثناء حياة الرسول)(7)،
ثم يضيف إلى ذلك مستدلًا عليه بقوله: (إنّ الدلائل على وجود أجزاء مكتوبة من القرآن الكريم في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) توكدّها خطبة الوداع الشهيرة التي ألقاها رسول الله (صلى الله عليه وآله) على المسلمين قبل وفاته بمدة قصيرة، الخطبة أعلن فيها الرسول(صلى الله عليه وآله) أنّه وصّى أمته في شيئين: كتاب الله والسنة النبوية، وبالعودة إلى (كتاب الله) يمكن إثبات أنّ القرآن كان متوفرًا كوثيقة مكتوبة ومفردة)(8).
بيد أنّ القول في جمع القرآن في عهد أبي بكر بإشارة من عمر بن الخطاب، وفي أيام عثمان بن عفان(9)، لا بدّ أن يكون له بيان أو توضيح لأجل أن لا نأخذ الأمور وفق عاطفة دينية أو مذهبية، إذ نجد في مجمل الروايات حول جمع القرآن من الخلفاء الثلاثة المذكورين، تُوحي أنّ واضع الرواية يُحاول أن يشملهم بهذا الشرف الكبير، وإنّ روايات الجمع هذه وفق التحليل العلمي الدقيق لا تُوحي بالجمع حقيقة، وإنّما النصّوص المروية تُخبِّئ وراءها معنى آخر يومئ إلى وجود قراءات متعددة للنص القرآني، ولعلّ هناك من الدلائل ما تُشير إلى هذا،
قال السجستاني عمّن حدّث: (أخبرني عبيد بن السبّاق أنّ زيد بن ثابت حدثّه قال: أرسل إليَّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة وكان عنده عمر، فقال: إنّ هذا أتاني، فقال: إنّ القتل قد استحرّ بالقرّاء، وإنّي أخشى أن يستحر القتل بالقراء في سائر المواطن فيذهب القرآن، وقد رأيت أن تجمعوه، فقلتُ لعمر: كيف تفعل شيئًا لم يفعله رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال عمر: هو والله خير، فلم يزل يُراجعني في ذلك حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدره، ورأيتُ الذي فيه الذي رأى … )(10)، فسؤال أبي بكر لعمر بن الخطاب فيه دلالة إيحاء أنّ الجمع لم يكن لغرض الجمع وحده، وإذا كان للجمع وحده لما سأل، لأن ذلك من الواجب على كل مسلم، فلا مسوّغ للسؤال،
إذًا كان السؤال لغرض آخر ربما يكون جمعه على قراءة واحدة وعلى مصحف واحد يقع الاختيار عليه، وهذا ممّا يخالف ما عليه زمن الرسول (صلى الله عليه وآله) إذ كتب له عددٌ من الكتّاب وبعض القرّاء ومن قبائل متعدّدة، من نحو عبدالله بن مسعود وغيره وربمّا تعوّدوا على قراءة المصحف كلٌّ بحسب لغة قومه،
ومّما يُذكر أنّ مصحف عبد الله بن مسعود كان يقرأه أهل الكوفة، ومصحف أبي موسى الأشعري كان يقرأ به أهل البصرة، وهذا الجمع على لغة واحدة ربّما كان يراه أبو بكر مخالفًا لما كان عليه النبي (صلى الله عليه وآله) ولعلّ ما يسند هذا القول هو ما كان من كراهة عبد الله بن مسعود في عمل الجمع، إذ نقل السجستاني عمّن حدث أنه (قال: كُنّا جلوسًا في المسجد وعبدالله يقرأ فجاء حذيفة، فقال: قراءة ابن أمِّ عبد أم قراءة أبي موسى الأشعري، والله إن بقيتُ حتى آتي أمير المؤمنين (يعني عثمان) لأمرته بجعلها قراءة واحدة، قال: فغضب عبدالله فقال لحذيفة كلمة شديدة، قال: فسكت حذيفة)(11)،
فكانت كراهة عبد الله بن مسعود لهذا الجمع بسبب ما أُثيرَ من قضية تعدّد القراءات من قبل حذيفة، وإرادة نقل الشكوى إلى الخليفة عثمان لتوحيد القرآن على قراءة واحدة، وليس غرضه الجمع أصلًا، وغيرها من الروايات التي تذهب إلى أن الغرض ليس جمع القرآن وإنما توحيده على قراءة واحدة(12).
ويُستَدَلَّ على فكرة توحيد القراءات ما نُقل عند عبدالله بن مسعود أيضًا حين طُلب منه مصحفه بأمر الخليفة عثمان فامتنع عبد الله أشدَّ الامتناع وكذلك أصحابه وتلامذته فقال: (غلّوا مصاحفكم، فكيف تأمروني أن أقرأ قراءة زيد، ولقد قرأتُ مِنْ في – بمعنى فم – رسول الله (صلى الله عليه وآله) بضعاً وسبعين سورة ولزيدٍ ذؤابتان يلعب بين الصبيان)(13) وفي هذا بيان لرفض عبد الله بن مسعود قراءة زيد بن ثابت واعتداده بقراءته، لكن كانت إرادة الخليفة توحيد تلك القراءات على قراءة واحدةٍ، بمعنى أنّ إنكار عبد الله بن مسعود لهذا العمل اعتدادًا منه بقراءته لأنّه يرى أنه أخذها من فم النبي (صلى الله عليه وآله) منذ أن كان في مكة وإلى أن مات (صلى الله عليه وآله) في المدينة وهو لم يُفارقه في حلٍّ أو ترحال فكان رفضه معلَّلًا بذلك.
ثمّ إنّ عدم إشراك ابن مسعود في لجنة جمع القرآن كانت ربما بسبب اختلاف قراءته عمّن جمع منهم القرآن، بمعنى انحياز اللجنة إلى لغة قريش، بينما كان عبد الله بن مسعود هذليًا، فرغبوا عن لغته وقدّموا لغتهم، وهذا كان توجيهًا لتلك اللجنة إذ (أمر عثمانُ زيدَ بن ثابت وسعيدَ بن العاص وعبدَالله بن الزبير وعبدَالرحمن بن هشام أن ينسخوها في المصاحف وقال لهم: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في عربية من عربية القرآن فاكتبوها بلسان قريش، فإنّ القرآن أُنزِل بلسانهم)(14).
وممّا يُستدل به أيضًا على أنّ أصل الجمع كان لأجل توحيد القراءات ما نقله السجستاني أيضًا حين قال: (قال الزهري، واختلفوا يومئذ في التابوت والتابوه، فقال النفر القرشيون التابوت، وقال زيد: التابوه، فَرُفِعَ اختلافهم إلى عثمان، فقال: اكتبوه التابوت فإنه بلسان قريش)(15)،
ويُضاف إلى كل ذلك، الأمر بإحراق باقي المصاحف التي عند الصحابة عدا المصحف الإمام كي يتقي عثمان تعدّد القراءات للنص القرآني الواحد وغيرها من الأدلّة التي تأخذ بالباحث إلى القول أنّ جمع المصحف الشريف في زمن الخلفاء الثلاثة الأوائل لم يكن جمعًا بمعنى تأليف الصحف إلى بعضها وجمعها في مصحف واحدٍ، وإنما كان ذلك لأجل توحيد المصاحف على لغةٍ واحدة، بعدما علموا بتعدّدها في مصاحف الصحابة وظنّهم باختلافها عن مصحف رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي تركه لهم بعد حجة الوداع بدليل قول الرسول (صلى الله عليه وآله): (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به بعدي لن تضلوا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض)(16)،
وهكذا نُسِخ القرآن الكريم وفق هذه الرؤى بنسخ متعدّدة وعلى مسمع من الصحابة وكان غير مشكّلٍ بالنقط والحركات، ووزِّعت نسخه على حواضر الإسلام آنذاك، وهو الذي ما زلنا نقرأه ونتدارسه إلى يومنا هذا.