Take a fresh look at your lifestyle.

أم المؤمنين خديجة الكبرى (عليها السلام)

0 1٬022

             أم المؤمنين خديجة بنت خويلد الأسدي، المرأة الجليلة النبيلة الأصيلة، العابدة الزاهدة، المجاهدة الحازمة، والحبيبة لله ولرسوله، حليلة الرسول وأم البتول، أفضل أمهات المؤمنين، وأشرف زوجات الرسول الأمين، وأول من آمنت به من النساء، وأسبقهن بعبادة رب الأرض والسماء، أميرة عشيرتها وسيدة قومها، ووزيرة صدق لرسول الله (صلى الله عليه وآله).

            شاءت المقادير الإلهية خروج رسول الله (صلى الله عليه وآله) في إحدى سفراته هو وميسرة غلام خديجة، وقد كانت خديجة امرأة ذات شرف ومال وتجارة تبعث بها إلى الشام، وكانت تستأجر الرجال وتدفع إليهم الأموال مضاربة(1).

             وقد خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) في تجارتها مع غلامها ميسرة، وعندما خرج كانت عليه غمامة تظلله حتى قدم الشام، فنزلا في سوق بُصرى في ظل شجرة قريباً من صومعة راهب يقال له: نسطورا، فاطلع الراهب إلى ميسرة وكان يعرفه، فقال: يا ميسرة، من هذا الذي نزل تحت الشجرة؟ فقال ميسرة: رجل من قريش، فقال الراهب: ما نزل تحت هذه إلّا نبيّ(2)، أفي عينيه حمرة؟ فقال ميسرة: نعم. فقال الراهب: لا تفارقه، هو نبي، وهو آخر الأنبياء(3)، ويا ليت أني أدركه حيث يؤمر بالخروج.

            وعن أبي سعد النيسابوري في الشرف: فلما رأى الغمامة فزع، وقال: ما أنتم؟ قال ميسرة: غلام خديجة، فدنا إلى النبي (صلى الله عليه وآله) سراً من ميسرة، وقبل رأسه وقدميه وقال: آمنت بك وأنا أشهد أنك الذي ذكره الله في التوراة، ثم قال: يا محمد، قد عرفت فيك العلامات كلها خلا خصلة واحدة، فأوضح لي عن كتفك، فأوضح له، فإذا هو بخاتم النبوة يتلألأ، فأقبل عليه يقبله، وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله النبي الأمي الذي بشر بك عيسى بن مريم، فإنه قال: لا ينزل بعدي هذه الشجرة إلّا النبيّ الهاشمي العربيّ المكيّ، صاحب الحوض والشفاعة وصاحب لواء الحمد(4).

             فلما عادا أخبر ميسرة خديجة بما جرى لمحمد (صلى الله عليه وآله) في سفره، (أخبرها عن قول الراهب وعن ما كان من أمر الإظلال، وكانت خديجة امرأة حازمة شريفة لبيبة فلما أخبرها ميسرة بما أخبرها بعثت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقالت إني قد رغبت فيك وفي قرابتك وفي أمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك، ثم عرضت عليه نفسها، وكانت خديجة يومئذ أوسط نساء قريش نسبًا وأعظمهن شرفًا وأكثرهن مالًا، فلما قالت ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ذكر ذلك لأعمامه)(5).

             عن الإمام أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: لما أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يتزوج خديجة بنت خويلد أقبل أبو طالب في أهل بيته ومعه نفر من قريش حتى دخل على ورقة بن نوفل عم خديجة فابتدأ أبو طالب بالكلام، فقال:

            الحمد لرب هذا البيت، الذي جعلنا من زرع إبراهيم، وذرية إسماعيل وأنزلنا حرمًا آمنًا، وجعلنا الحكام على الناس، وبارك لنا في بلدنا الذي نحن فيه، ثم إن ابن أخي هذا – يعني رسول الله (صلى الله عليه وآله) – ممن لا يوزن برجل من قريش إلّا رجح به، ولا يقاس به رجل إلّا عظم عنه، ولا عدل له في الخلق، وإن كان مقلًّا في المال، فإن المال رفد جار وظل زائل، وله في خديجة رغبة ولها فيه رغبة، وقد جئناك لنخطبها إليك برضاها وأمرها، والمهر عليَّ في مالي الذي سألتموه عاجله وآجله، وله ورب هذا البيت حظ عظيم، ودين شائع ورأي كامل،

             ثم سكت أبو طالب وتكلم عمها وتلجلج وقصر عن جواب أبي طالب وأدركه القطع والبهر وكان رجلًا من القسيسين، فقالت خديجة مبتدئة:

            يا عماه إنك وإن كنت أولى بنفسي مني في الشهود، فلستَ أولى بي من نفسي، قد زوجتك يا محمد نفسي، والمهر عليَّ في مالي، فأمر عمك فلينحر ناقة فليولم بها وادخل على أهلك.

             قال أبو طالب: اشهدوا عليها بقبولها محمدًا، وضمانها المهر في مالها، فقال بعض قريش: يا عجباه المهر على النساء للرجال، فغضب أبو طالب غضبًا شديدًا وقام على قدميه، وكان ممن يهابه الرجال ويُكره غضبه،

            فقال: إذا كانوا مثل ابن أخي هذا طلبت الرجال بأغلى الأثمان وأعظم المهر، وإذا كانوا أمثالكم لم يزوجوا إلّا بالمهر الغالي(6).

            وهكذا تم الزواج المبارك بين أسعد زوجين محمد (صلى الله عليه وآله) وخديجة في العاشر من شهر ربيع الأول سنة 15 قبل البعثة المباركة، وقد كان رسول الله محبًا عاشقًا لخديجة، وكانت هي كذلك، وعاشا مدة من الزمن معًا، وخديجة هي الزوج الصابرة المحبة والوفية لزوجها، وفي الوقت ذاته هي الصدر الحنون، والثغر الباسم الذي يواجهه رسول الله (صلى الله عليه وآله) في عبوس تلك الأيام.. أيام المحنة.. وأيام بدء الرسالة، حيث كانت مع النبي في دعوته، صدقته حين كذبه الناس.. ونصرته حين خذله الناس، وآوته حين كان وحيداً في غربة مكة، وكفر أهلها، وزندقتهم..

           وظلت خديجة تنصر النبي (صلى الله عليه وآله) وتعينه حتى بذلت كل أموالها في سبيل نصرة الإسلام…وفي سبيل الدعوة إليه، وأقامت بأموالها عمود الإسلام، كما قال (صلى الله عليه وآله): ما قام ولا استقام ديني إلّا بشيئين: مال خديجة وسيف علي بن أبي طالب)(7).

             وكانت أول من آمن به بعد الإمام علي (عليه السلام).. وكما كانت وفية لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ورسالته ومحبة له ولشخصيته كان الرسول (صلى الله عليه وآله) وفيًا ومحبًا لها، وحتى بعد رحيلها، فقد حزن عليها حزنًا عظيمًا وبقي يذكرها بالخير، ويفضلها على كل نسائه حتى أن نيران الغيران اشتعلت في قلوب بعض نسائه منها، وهي في العالم الآخر؛

           (عن عائشة، قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها، فذكرها يومًا من الأيام فأدركتني الغيرة، فقلت: هل كانت إلَّا عجوزًا، فقد أبدلك الله خيرًا منها. فغضب (صلى الله عليه وآله) حتى اهتزّ مقدّم شعره من الغضب، ثم قال: لا والله، ما أبدلني الله خيرًا منها، آمنت بي إذ كفر الناس، وصدّقتني إذ كذّبني الناس، وواستني في مالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها أولادًا إذ حرمني أولاد النساء(8).

            وقد ولدت خديجة (عليها السلام) للنبي (صلى الله عليه وآله) أولاده القاسم والطاهر وفاطمة الزهراء سلام الله عليها.
فقد وهبت خديجة رسول الإنسانية (صلى الله عليه وآله) المال والبنين.. والمحبة.. والنصرة..

           وبارك الله في نسلها حيث إن الكوثر هي من ذريتها.. ولا زال ينبوع هذا الكوثر يتفجر يومًا بعد يوم ليملأ الآفاق من نسل رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي عُيِّر في زمن الجاهلية بأنه الأبتر فأعطاه الله الكوثر: (إنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)(سورة الكوثر).

 

  مطلع النور:

            وبعد بعثة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) بخمس سنين طلع النور من خديجة، نور فاطمة الذي غمر الوجود بسناه.. وغمر محمدًا وخديجة بالفرح والسرور..

            في ذلك البيت الذي تردد فيه صوت الوحي وملأت أرجاءه نجوى الرسول (صلى الله عليه وآله) وإيمان خديجة أطلت فاطمة (عليها السلام) على الدنيا، نقية كقطرة ندى سالت على خد ورد في صبح ربيعي جميل كجمرة عشق اشتعلت في قلب عاشق.. كعمود نور انبثق في سحر داجي الظلام..

             في العشرين من جمادى الآخرة.. ولد النور من النور..

          وكما تذكر الروايات في ولادتها المباركة (إذ هبط عليه جبرئيل (عليه السلام)… فناداه: يا محمد، العلي الأعلى يقرأ عليك السلام، وهو يأمرك أن تعتزل عن خديجة أربعين صباحًا، فشق ذلك على النبي (صلى الله عليه وآله)، وكان لها محبًا وبها وامقًا، قال: فأقام النبي (صلى الله عليه وآله) أربعين يومًا، يصوم النهار، ويقوم الليل،

           حتى إذا كان في آخر أيامه تلك بعث إلى خديجة بعمار بن ياسر، وقال قل لها: يا خديجة لا تظني أن انقطاعي عنك هجرة ولا قلي، ولكن ربي عز وجل أمرني بذلك لتنفذ أمره، فلا تظني يا خديجة إلّا خيرًا، فإن الله عز وجل ليباهي بك كرام ملائكته كل يوم مرارًا، فإذا جنَّك الليل فأجيفي الباب، وخذي مضجعك من فراشك، فإني في منزل فاطمة بنت أسد، فجعلت خديجة تحزن في كل يوم مرارًا لفقد رسول الله (صلى الله عليه وآله)،

          فلما كان في كمال الأربعين هبط جبرئيل (عليه السلام) فقال: يا محمد العلي الأعلى يقرئك السلام، وهو يأمرك أن تتأهب لتحيته وتحفته….(9).

           وكان ذلك طعامًا من أطعمة الجنة يهبط به الملك على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ليتكون منه نطفة الزهراء سلام الله عليها(10).

              هكذا انعقدت النطفة الطاهرة من الصلب الطاهر إلى الرحم المطهر لتتكون أشرف مخلوقة خلقها الله عز وجل.

          فاطمة التي طهرها الله من الدنس والرجس… وجعل نطفتها تنعقد من الطعام السماوي الطاهر لتلج إلى الوجود بطهرها، وتنشر في هذا العالم رائحة الجنان.. وطيبها..

            (فلما حملت بفاطمة كانت (عليها السلام) تحدثها من بطنها وتصبرها، وكانت تكتم ذلك من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فدخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) يومًا فسمع خديجة تحدث فاطمة (عليها السلام)، فقال لها: يا خديجة، من تحدثين؟ قالت : الجنين الذي في بطني يحدثني ويؤنسني. قال: يا خديجة، هذا جبرئيل يخبرني أنها أنثى، وأنها النسلة الطاهرة الميمونة، وإن الله تبارك وتعالى سيجعل نسلي منها، وسيجعل من نسلها أئمة، ويجعلهم خلفاءه في أرضه بعد انقضاء وحيه…)(11).

            نعم، لقد ولدت خديجة (فاطمة)، تلك الهدية الربانية التي وهبها الله لها ليعم خيرها الوجود.. وليملأ نورها قلب النبي بالفرح والسرور..

  دفء الحياة:

             وعاشت فاطمة في كنف أبوين طاهرين مطهرين.. فأبوها سيد الكائنات، وأمها سيدة النساء في عصرها.. كانا عاشقين لبعضهما، وكان وجود فاطمة يزيدهما عشقًا وألقًا وتضحيةً رغم صعوبة الأيام التي كانت تمر عليهما باعتبارها السنين الأولى لوضع أسس رسالة سماوية خاتمة.. وشاملة.. وخالدة على مدى الأزمان..

               وكان الرسول (صلى الله عليه وآله) وحيدًا إلّا من بعض الأعوان والأنصار.. والأعداء كثيرون يحيطونه من كل حدب وصوب، ويوجهون إليه الأذى، والآلام، فتارة ينعتونه بالكاذب، وهو الذي كانوا يسمونه (الصادق الأمين)، وأخرى يعدونه مجنونًا وساحرًا… الخ؛ وخديجة في كل هذه المواقف معه تنصره بأموالها.. وتصبّره على الأذى وتطعم أيامه بجلادة عزمها وصلابتها وقوة إيمانها..

              واستمر بها الخطب.. وتمادت المصائب تصب على فاطمة (عليها السلام) وهي لا زالت صغيرة، فعاشت في شعب أبي طالب بعد حصار المشركين للنبي الأكرم وعشيرته.. ورأت الحصار المر بعينيها البريئتين ينصب على أبيها وعلى عشيرتها، واستمرت في هذا الحصار في الشِعب ثلاث سنين(12).

            ويا ليتها الأيام دامت هكذا.. فما سيأتي أمرّ وأدهى، فقد كان وجود أبي طالب ونصرته للنبي يهون الخطب، وكذلك وجود خديجة الزوجة الوفية المضحية بأموالها ونفسها، وما تملك في سبيل الدعوة الإسلامية.. الأم الحنون الرؤوم التي كانت تغمر فاطمة بالمحبة والعطف والحنان..

             ولكن سطوة الأيام كانت قاسية وصرخة المصائب كانت عالية حين اختطف الموت أبا طالب وخديجة في ذات العام.. وواجه الرسول أعظم (صلى الله عليه وآله) مصيبة حين فقد الناصر.. والسند.. والمعين..

            حين فقد القلب الدافئ الذي كان يغمره بحبه.. والسند الذي يتكئ عليه.. ويعينه في مسيرته الرسالية، فقد عمه الناصر والمعين.. وزوجه السند والحبيب والرفيق، فسمى ذلك العام بعام الحزن(13).

            ودفنت خديجة في الحجون، فنزل رسول الله (صلى الله عليه وآله) في قبرها، وكانت (فاطمة الزهراء (عليها السلام) تلوذ برسول الله (صلى الله عليه وآله) وتدور حوله،

            وتقول: يا أبه، أين أمي؟ قال: فنزل جبرئيل (عليه السلام) فقال له: ربك يأمرك أن تقرئ فاطمة السلام، وتقول لها: إن أمك في بيت من قصب، كعابه من ذهب، وَعَمَدَهُ ياقوت أحمر، بين آسية ومريم بنت عمران،

             فقالت فاطمة(عليها السلام): إن الله هو السلام، ومنه السلام، وإليه السلام(14).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) ينظر: السيرة النبوية/ ابن هشام الحميري/ ج1 ص121.
2) م.ن.
3) ينظر: الطبقات الكبرى/ابن سعد/ج1ص130.
4) سبل الهدى والرشاد/الصالحي الشامي/ج2ص159.
5) الثقات/ابن حبان/ج1ص46.
6) الكافي/للكليني/ج5ص375.
7) شجرة طوبى/ ج2 ص232.
8) الاستيعاب/ابن عبد البر/ج4ص1823.
9) البحار/المجلسي:ج16ص80.
10) ينظر: ن.م.
11) الأمالي/الشيخ الصدوق/ص690.
12) روضة الواعظين/الفتال النيسابوري/ص53.
13) السيرة الحلبية/ج3ص498.
14) الأمالي/الشيخ الطوسي/ص175.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.