إذا تأملنا ما يحدث بعمق وتجرد وموضوعية، وإذا استعرضنا الأحداث التي مرت بها مدينة كربلاء منذ الأربعينيات حتى الآن، فإننا نجد قائمة طويلة من الأعلام عاشوا محنة احتلال العراق من قبل المستعمرين، وجاهدوا ببطولة في صد العدوان على الشعب العراقي المسلم ومنهم آية الله السيد محمد هادي الخراساني الحائري تغمده الله برحمته.
فهو بحر زاخر ومرجع فاخر لما له من خدمات صادقة وأعمال جليلة للإسلام والمسلمين. كان متألقاً في تدريسه، عملاقاً في تفسير الآيات القرآنية، وله تأثير كبير في جذب المتلقي لقوة شخصيته وسرعة بديهيته وقوة حجته وقابليته على المحاججة والمناقشة والإقناع، ولطلبته أمثلة كثيرة في هذا الشأن.
تجمعني بآية الله الخراساني ذكريات الجيرة الخالدة التي لا تمحى , بل تزداد طراوة كلّما مر عليها الزمن، فقد رأيته في فجر حياتي وبالتحديد سنة 1368هـ / 1947م وهو في أيامه الأخيرة من حياته، صاحب الوجه النوراني والقلب الرباني، وتشرفت بالحضور في منزله بمحلة باب الطاق بالقرب من طاق الزعفراني، للاستلهام من فيض عواطفه ومواعظه، فقد امتلك الحب والصدق والرقة والحزن بلا حدود، يحاول أن يجتذب إليه الطلبة المستنيرين الأثيرين. كانت داره مهداً لدراسات بحث الخارج، وميداناً تتلاقح فيه الأفكار وتتبارى القرائح وتتسابق الخواطر. والجدير بالذكر أن شغفه باكتساب المعرفة قد أغراه بالاستزادة من هذا الزاد العلمي.
أسرته
اشتهرت هذه الأسرة بالفضل وتوارثت العلم كابراً عن كابر، فهي شجرة وارفة الظلال، كريمة النجار، ميزها الله بالمجد والجاه، وبرزت في مدينة تحمل في جوانبها أجواء المجتمع المنفتح على الثقافة، تلك هي كربلاء منبت الفقهاء والمحدثين والرواة، وموئل الكتاب والشعراء، ونبغ في هذه الأسرة رهط من العلماء منهم السيد علي البجستاني وولده السيد محمد هادي وحفيده السيد مهدي. وقد امتازت هذه الأسرة بكونها منفتحة على بقية الأسر، إذ كانت لها علاقات اجتماعية مع عدد قليل من أسر العلم وغيرها.
اسمه وولادته
هو المغفور له السيد ميرزا هادي أو محمد هادي ابن العالم السيد علي بن العالم السيد محمد الخراساني الحائري أحد الأعلام البررة، وعرف بذكائه المفرط ووفور علمه وسعة إطلاعه وحديثه العذب، تفتحت عيناه في مدينة كربلاء ليلة الجمعة سنة 1297هـ (1) وانصهر في أتونها صبياً وشاباً، ونشأ في كنف أبيه وقرأ القرآن وشيئاً من العلم، قرأت في مذكراته ما هذا نصه: ( كان بدء نشأتي في الحضرة الحسينية وببالي أن والدي رجع من إيران وأنا ابن أربع سنين، وكان ذلك في حدود سنة 1301هـ (2) ونحن في كربلاء، وبعد سنين أودعوني عند بعض معلمات الأطفال، فأتقنت قراءة القرآن والأدعية، وأنا ابن سبع سنين بصورة جيدة، وبعد الثامنة نقلوني إلى معلم كان يعلم الأطفال في صحن سيدنا العباس(عليه السلام) وهو المرحوم السيد محمد تقي الشيرازي، فقرأت القرآن عنده أيضاً، وابتدأت بالكتابة لديه، وكان حسن الخط على كبر سنّه، وبعد ذلك نقلوني إلى مجلس الأستاذ الفاضل كامل عصره الشيخ موسى القزويني المعروف بـ (المكتبدار) وكان شيخاً فاضلاً ديّناً جليلاً حسن الخط يحضر لديه غالب أولاد الفضلاء والأعيان، وقد درست لديه كتاب الجوهري، لكنني كنت قد قرأت بعضاً منه عند بعض السادة في النجف الأشرف إبان تشرفنا للزيارة، كان يسكن الطابق العلوي من حجرات الصحن العلوي الشريف، وأكملت الكتاب لدى الشيخ موسى، كما قرأت عنده كتاب كلستان سعدي وكتاب نصاب الصبيان)(3).
وعندما عاد إلى مسقط رأسه كربلاء تزوج بكريمة السيد صادق صهر المرحوم العالم السيد هاشم القزويني الحائري ثم توفيت سنة 1340هـ (4) .
أساتذته
سافر السيد الخراساني إلى سامراء فدرس عند آية الله السيد محمد حسن الشيرازي، ثم قرأ في إيران عند السيد محسن الشيرازي (دست غيب) جزءً من كتاب (جامع المقدمات)، ولما عاد إلى كربلاء اشتغل لدى الشيخ موسى القزويني بالعلوم العربية كالصرف والنحو، كما درس شرح النظام والمغني لابن هشام والأسطرلاب والعلوم الغربية كالجفر والطلسمات ودرس الرياضيات ومنطق التهذيب وحاشية على شرح النظام وشرح الخلاصة للألفية والسيوطي والمغني (5).
وفي كربلاء انشغل بالدروس الفقهية والأصولية، ثم هاجر إلى النجف الأشرف حيث درس على المراجع العظام وأشهرهم:
1- المولى محمد كاظم الخراساني.
2- شيخ الشريعة الأصفهاني.
3- السيد محمد كاظم اليزدي (6).
ثم سافر إلى سامراء سنة 1320هـ فدرس على الشيخ محمد تقي الشيرازي وعاد معه إلى كربلاء للاشتغال بالثورة ومقارعة الغزو البريطاني للعراق.
تلامذته
لا يخفى على القارئ أن السيد الخراساني كان أستاذاً قديراً تتلمذ على يديه جملة من الأعلام الذين أصبحوا فيما بعد مبرزين في ميدان العلم،ولهم موقع الصدارة في حوزة كربلاء العلمية،نذكر منهم:
1- سماحة العلامة المجتهد الكبير السيد محمد مهدي الكاظمي الموسوي.
2- سماحة العلامة الحجة السيد أسد الله الأصفهاني.
3- سماحة العلامة الحجة السيد مرتضى الطباطبائي.
4- سماحة العلامة المدرس السيد عبد الله الخوئي.
5- سماحة الحجة الزاهد الشيخ مهدي الرشتي.
6- سماحة العلامة الحجة السيد مصطفى الشيرازي.
7- سماحة الشيخ عبد الحسين نجل المرجع الشيخ محمد تقي الشيرازي (7).
في ساحة الجهاد
جاء في كتاب (سيرة آية الله الخراساني) ما يلي: ( من جملة ما قام به آية الله الميرزا محمد تقي الشيرازي هو التصدي للمحاولة الخبيثة التي أراد المحتلون إجراءها في العراق بنصب حاكم إنجليزي على الشعب العراقي المسلم فقرر المستعمرون إجراء استفتاء عام بشأن الحكومة التي يختارها الشعب العراقي المسلم، وفي نفس الوقت كانوا يركزون على نصب أمير إنجليزي لإدارة البلاد، فأخذوا يبثون دعاياتهم بواسطة العملاء بين الصفوف لتكوين الأكثرية من الآراء إلى جانب هذه الفكرة لكن تنبه الأحرار المؤمنون للخطة المدبرة، فهبوا إلى تنظيم سؤال من الزعيم الأعلى الشيخ الشيرازي بشأن جواز انتخاب غير مسلم للأمارة على المسلمين فأصدر فتوى ت77نص على أن (ليس لأحد من المسلمين أن ينتخب ويختار غير المسلم للإمارة والسلطة على المسلمين)(8). فوقعها هو ووافقه على ذلك أعلام الأمة ووقعوها أيضاً ومنهم آية الله الخراساني. وقد كتب ما نصه: بسم الله تعالى شأنه. رقمه الأحقر الجاني ابن علي الهادي الحسيني الخراساني )(9). ثم إنه تصدى لقمع الحركة الوهابية في العراق المتمثلة في محاربة الشعائر الحسينية، وأصدر في ذلك بلاغاً نشره، وهو كتاب أسماه (دعوة الحق) وهو في الرد على الوهابية، كما سيأتي ذكره ضمن آثاره.
أقوال العلماء والكتاب فيه
أثنى العلماء و الكتاب على منزلته العلمية، وهم كثيرون، وقد اخترت للقارئ الكريم قول علمين من أقوال أهل العلم فيه واتفاق آرائهم على علو كعبه في كل ما ذكرنا من نواحي العلم والأدب.
قال العلامة الشيخ محمد صالح الكاظمي: (وهو السيد الجليل والعالم النبيل الذي لم يسمح بمثله الدهر ومن بحر علم يلفظ الدرر، الغاية القصوى والآية الكبرى، عضد الدين الحنيف، مالك أزمّة التأليف والتصنيف، الساهر بالرواية والدراية، موضح الفروع والسنن المشروح صدره للعلوم شرحاً السيد السند المتصل النسب بالنبي(صلى الله عليه وآله) حجة الإسلام آية الله في الأنام أعلم العلماء الأعلام ومولانا السيد ميرزا هادي الخراساني أصلاً الحائري مولداً)(10).
وقال العلامة المحقق السيد محمد مهدي الموسوي الكاظمي في كتابه (أحسن الوديعة) ما يلي: (أن سماحة عماد الفقهاء الراشدين وسناد الأعلام الورعين الميرزا هادي الخراساني من أساطين أعاظم المجتهدين الجامعين للشرائط وهذا في غاية الوضوح، كان من أكابر فضلاء المعقول والمنقول وكان عارفاً بالرجال والتاريخ والحديث والتفسير والعربية، ماهراً في الفنون العقلية والنقلية تلمذنا عليه سنين عديدة واستفدنا من جنابه مدة مديدة وأجازنا بتمام طرقه ) (11).
تراثه ومؤلفاته
للسيد الخراساني مكتبة قيّمة (12)، وفيها من المطبوع والمخطوط ما جعلها خزانة جامعة، وعنى في تنظيمها وجعل لها فهرساً خاصاً بالمخطوطات، ورتب كتبها على حروف الهجاء وهي كالآتي: الأدب ودواوين الشعر، أصول الفقه، التاريخ، التصوف، التفسير، الجغرافية، الحديث، الحساب، الجبر، المقابلة، الحكمة وغيرها. أما المجاميع التي فيها كتب ورسائل فقد دخلت ضمن هذه العناوين. وحينما رجعت إلى مخطوطاته، وجدت آثار السيد واضحة فيها، وكل صفحة من كتبه تنطق بجهده ومثابرته، وتفيد بأنه قرأ الكتاب عدة مرات وأستوعبه تماماً، فالهوامش مليئة بتصويباته وتعليقاته، إذا مرّ بجملة مضطربة قوَّمها، أو بيت شعر لمجهول نسبه لقائله، أو بقرية أو مدينة كتب تعريفاً لها، أو بمعلومة ناقصة أو متناقضة أحالنا إلى المكان الذي يصوبها أو يكملها.
أما آثاره المطبوعة فهي كثيرة، نذكر منها:
1- أصول الشيعة وفروع الشريعة.
2- حاشية على مكاسب المحقق الأنصاري.
3- هداية الفحول في شرح كفاية الأصول.
4- دعوة الحق إلى أئمة الخلق (13).
5- رسالة في الشعائر الحسينية.
6- القول السديد بشأن الحر الشهيد(14).
7- رسالة لسان الصدق (15).
إلى غير ذلك من الرسائل والتعليقات التي كتبها بخطه.
شعـــره
كان السيد الخراساني يحفظ أشعار العرب ويستعين بما فيها من معنى لطيف ولفظ خفيف حسن، وكان ميالاً إلى الشعر، وله قصائد ومقطوعات شعرية يجدها القارئ في كتاب (دعوة السلام) المخطوط، ومنها هذه المقطوعة التي كتبها وهو يخرج من كربلاء قاصداً النجف الأشرف حيث مرقد الإمام علي ابن أبي طالب(عليه السلام) يشكو فيها من جور الزمان، فيقول:
إنـي ابتليـت بيـومي
كما ابتـلى بـي زمـاني
فــإنني أشتــكيـــه
كما زمــاني شكــاني
يقـول إني جفــوت
كما أقــول جفـــاني
رميتــه لـم يصـــبه
أصــابني إذ رمــاني
فيــا لـه مـن قريـن
قــلـيـتـه وقـــلاني
يا بئس من جار سوءٍ
أهــانني ودهـــاني
أعــاذني اللــه مـنه
ومـن عـداه وقــاني
لم يرضَ بي قط يوماً
كذاك ما أرضاني (16)
وفــــاته
استيقظت مدينة كربلاء صباح يوم 12 ربيع الأول سنة 1368هـ / 1947م على هزّة نعيه العنيفة، فانتقل إلى رحاب الله ورضوانه، ونعته العلماء والأعيان وجميع الطبقات، ودفن في إيوان الوزير في الصحن الحسيني الشريف، وأرخ وفاته الشاعر الشيخ عبد الحسين الحويزي فقال:
عن هـذه الدنيـا قضـى سيّـد
سـاد الـورى بـالجَـدّ والجِـد
نواحــة أيامهــا أصـبـحـت
مذ غاب نجم اليمن والسعد
والعلم أضحى جيده عاطلاً
وانبث سـمط جوهـر العقد
قـد كـان نـوراً ومنـاراً بـــه
للخلق يزهو منهج الرشد(17)
أروع في تـاريخــه (مـاجــد
هـادي البرايـا قر في الخلد)
نشرت في العدد 51
(1) أعيان الشيعة – للسيد محسن الأمين ج 10 ص222.
(2) سيرة آية الله الخراساني – لجنة التأبين ص13.
(3) سيرة آية الله الخراساني ص13.
(4) سيرة آية الله الخراساني ص 18.
(5) سيرة آية الله الخراساني ص 14.
(6) شخصيات أدركتها – السيد صالح الشهرستاني ص 70.
(7) سيرة آية الله الخراساني ص 64.
(8) كربلاء في ثورة العشرين – سلمان هادي آل طعمه ص47.
(9) كربلاء في التاريخ – السيد عبد الرزاق الوهاب آل طعمه – الجزء الثالث ص46.
(10) أحسن الأثر فيمن أدركناه في القرن الرابع عشر – محمد صالح الكاظمي ص 37.
(11) أحسن الوديعة في تراجم مشاهير مجتهدي الشيعة – السيد محمد مهدي الموسوي الكاظمي.
(12) خزائن كتب كربلاء الحاضرة – سلمان هادي آل طعمه ص 11.
(13) الذريعة إلى تصانيف الشيعة – الشيخ أغا بزرك الطهراني ج 8 ص 408.
(14) سيرة آية الله الخراساني ص 101.
(15) شخصيات أدركتها ص 71.
(16) شخصيات أدركتها ص 72.
(17) ديوان الحويزي – تحقيق الأستاذ حميد مجيد هدو ج1 ص 218.