Take a fresh look at your lifestyle.

تداعيات المتلقي من بيان كلام الإمام الحسين (عليه السلام)

0 759

          لا يمكن لأي باحث أن يستعرض مساحة كلام الإمام الحسين (عليه السلام) بأكملها، ولا يمكن لأي قارئ متطور أن يقرأ كلام الإمام الحسين (عليه السلام) من دون أن يتوقف مرات ومرات أمام البيان الساطع للبنى البلاغية والفكرية والثقافية في المتن اللغوي للخطاب؛

           لأنَّ كلامَ الإمام الحسين (عليه السلام) حافلٌ بفنية القول؛ ولأنَّ الخطاب الحسيني يكتنز أكبر قدر ممكن من الطاقات الدلالية التي يندغم فيها الجانب الشكلي مع الجانب المضموني، الأمر الذي لم يجعل هذا الخطاب مجرد هيكلية بنائية مفرغة من أي قصد سوى التأطير. فقد (شغل الحديث الفني المرتبة العليا في أدب الإمام (عليه السلام) من حيث الكيفية الفنية في التعبير)(1).

          وهنا نحاول الغوص في قاع كلام الإمام الحسين (عليه السلام) بصفته واقعة أدبية وثقافية لها نسقها البلاغي الخاص سعياً إلى وصف وتحليل تلك الواقعة للخلوص إلى التشخيص والفهم، وذلك من خلال التناول التحليلي لأقطاب البيان الرئيسة كي نستطيع أن نضيف إلى فهم الخطاب الحسيني الكثيرَ مما هو مُجْدٍ وفاعلٍ بشكلٍ لا نستطيع أن نحققه بالوقوف الدائم عند الوصف السطحي المجرَّد والأحكام العائمة المفتقرة إلى برهان الخطاب والتجربة الكلامية المتحققة، وبشكلٍ يجعل الطموح إلى الأفضل مُسوِّغاً. كاشفين عن دقائق مكنونة في باطن الخطاب ـ بنيته العميقة ـ بلا تحيز لباني الخطاب، أو تجنٍّ عليه، انطلاقاً من مبدأ إعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه بلا زيادة أو نقصان، باعتبار ذلك مطمحاً علمياً تسعى إليه الحركة العلمية في العالم بخطواتٍ دؤوبة، ونسأل الله التسديد والتأييد لتحقيق هذا الهدف.

         لكلمات الإمام الحسين (عليه السلام) البيانية طاقاتٌ إيحائية خالدة بخلود الدين الإسلامي، ينشدُّ لها ذهن المتلقي حتى تورِّث عنده تداعيات، والتداعيات تعود في أصلها اللغوي إلى الفعل (تداعى) يُقال: (تَداعَى الكثيب من الرمل إذا هِيلَ فانْهالَ. وفي الحديث: كَمَثَلِ الجَسدَ إذا اشْتَكَى بعضهُ تَداعَى سائرهُ بالسَّهَر والحُمَّى كأَن بعضه دعا بعضاً… ، وتَداعَى عليه العدوّ من كل جانب: أَقْبَلَ … وتَداعَت القبائلُ على بني فلان إذا تأَلَّبوا ودعا بعضهم بعضاً إلى التَّناصُر عليهم . وفي الحديث: تداعتْ عليكم الأمم أي اجتمعوا ودعا بعضهم بعضًا …)(2)،

          نفهم من ذلك أن التداعي هو الآثار المترتبة من شيء ما أو حدث ما، أو اللاحقة له، أو التابعة له، أما في اصطلاح النقد الأدبي الحديث هي الخواطر التي تردُ ذهن المتلقي، والناتجة من إيحاءات الخطاب سواء أكانت تلك الخواطر حسية أم تجريدية، أي ما يستحضره المتلقي في خياله جراء مواجهة الخطاب الأدبي الموحي. فمؤلف اللغة الأدبية يبثُّ ببلاغة البيان دوافعَه الفكرية وهواجسَه النفسية؛ إذ لا يقتصر على تقاليد فنية يطيعها.

          والتداعي لا يقتصر على توارد الخواطر أو الأفكار بل حتى توارد الكلمات (ويعد تداعي الكلمات وسيلة مهمة للتعرف على قوى الترابط بين الكلمات، إذ إن هناك تجاذب أو تنافر فيما بينها، بمعنى آخر أن ورود إحداها على اللسان ينبئ بظهور قرينتها من بعدها، فإذا سمع على سبيل المثال شخصًا يقول (آناء الليل) فإن احتمال سماعه يضيف (أطراف النهار) ترد بشكل أكبر كونهما عبارتين متلازمتين)(3)، و هكذا.

        ولسنا هنا بصدد الوقوف طويلاً عند إشكالية مصطلح التداعيات أو مناقشته، بل بصدد رؤية تجلياته في كلام الإمام الحسين (عليه السلام).

1) تداعيات المتلقي من التشبيه:

           في يوم ما (قال رجل: إن المعروف إذا أُسدي إلى غير أهله ضاع. فقال (عليه السلام): ليس كذلك، ولكن تكون الصنيعةُ مثلَ وابلِ المطرِ، تصيب البَرَّ و الفاجرَ)(4).

          أخرج الإمام ما لا تقع عليه الحاسة – فعل المعروف مع غير أهله -إلى ما تقع عليه الحاسة – وابل المطر – معنوي حسي.
           والحديث يتطلب نوعاً من التأمل والتفكر لأنه حديث حكمة مطعمة بفنية التشبيه البلاغية، وهو يحمل قدراً من الضبابية الشفافة؛ لأنه حديثٌ فنيٌّ، وفي الحديث الفني لا بد أن يعيش المتلقي تجربة الخطاب كي يميط اللثام عن الدلالة التي تحقق الإمتاع الدلالي والجمالي.

          في حقيقة الأمر، إن أول ما يتداعى في ذهن المتلقي عند سماعه قول الرجل البيتُ الشعري المشهور لزهير بن أبي سلمى(5):

          ومن يجعل المعروفَ في غير أهلِهِ             يكــن حمــدُهُ ذمــاً عليــه وينــدمِ

 

         والإمام الحسين (عليه السلام) دَحَرَ البنية المضمونية لهذا الخطاب الشعري بتشبيه (صنع المعروف مع غير أهله مثل وابل المطر).

           يتداعى في ذهن المتلقي من ذلك أن صنع المعروف في غير محله لا يَضِيعُ؛ لأن الإنسان الذي يصنع المعروف في غير محله يُثاب من الله تعالى ثواب الصلاح في الأرض، أي ثواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والتشابه الحاصل بين فعل المعروف في غير أهله ووابل المطر – رمز العطاء والخير والرزق – يوحي إلى علو منزلة فعل المعروف في غير محله وعظم منزلة الجهة الصادر منها الفعل، فهي تماثل منزلة السماء مصدر اليُمْنِ والبركةِ (المطر) التي تغدق الماء الذي هو مصدر الحياة على صالح الأرض وطالحها،

           قال تعالى: (وجعلنا من الماءِ كلَّ شيءٍ حيٍّ أفلا يؤمنون)(الأنبياء:30)،

          وقال جلَّ شأنه: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ)(فصلت:39).

          فكأن الإمام أراد أن يقول: إن صنعَ المعروفِ في غير أهله يُصْلِحُ الذي لا يجازي المعروف بالمِثْلِ، كالمطر الذي يحيي الأرض بعد موتها.

         نفهم من ذلك أن الإمام الحسين (عليه السلام) يؤيدُ فكرة صنع المعروف في غير أهله كونها تُعِّممُ الخيرَ في الأرضِ. وبذلك يدحض الإمام رؤية الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى.

2) تداعيات المتلقي من الاستعارة:

          يقول الإمام (عليه السلام) في دعوة الناس إلى الجهاد والمسير إلى صفين مع أبيه (عليه السلام): (ألا إنَّ الحربَ شرُّها ذريعٌ، وطعمُها فظيعٌ، فَمَنْ أخذَ لها أهبَتَها، واستعدَّ لها عُدَّتَها، ولم يألم كلومَها قبل حُلُولِها، فذاك صاحبُها)(6).

           استعار الإمام الطعم إلى واقع الحرب أو مُخَلَّفَاتها. وهذه استعارة تستحق الحسبان؛ لأن حقيقة الطعم تكمن في المأكل والمشرب لا في الحرب. وقد خرج الكلام مخرج الإخبار بالآثار المترتبة نفسيًا وإنسانيًا … من الحرب.

            فكأن الإمام لما استعار الطعم للحرب أراد أن يُشْعِرَ المتلقيَ بمرارتِها كما يَشْعُرُ الذائقُ بمرارةَ الطعامِ وبنكهته.

          والخطاب هنا يكشف عن شخصية بانيهِ، بأنها عارفة بزمام الحرب وشاهدة على نوازل الزمان التي لا تعرفها إلّا النفس المتجرِّعة للهمِّ الكثيرِ والنفس المعبأة بالأمل والتضحية.

3) تداعيات المتلقي من الكناية:

          قال الإمام الحسين (عليه السلام) في أمر الإمام المهدي المنتظر (عجّلَ اللهُ له ظهوره وسهّلَ له حضوره): (إِذا خَرَجَ الْمَهْدِيُّ (عليه السلام)، لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَرَبِ وَقُرَيْش إِلاَّ السَّيْفُ …)(7).

         يتداعى في ذهن المتلقي من هذه الكناية عداء العرب ودورهم في الاعتراض على قدوم الإمام الحجة المنتظر (عج)، ويتداعى في ذهن المتلقي أيضًا المناخ الواقعي لظهور الإمام المهدي (عج).

         و(السيف) هنا لا يملك إلّا مؤشرًا على المجابهة التي يخوضها الطرفان. وأداة الاستثناء (إلّا) تقطع الطريق أمام أي احتمال بدل قاعدة السيف، فكأن الاستثناء هنا أفاد القطع أو الجزم بالخبر.

          وقد جاء السياق التعبيري للكناية بصيغة الجملة الفعلية (لم يكن + خبرها المقدم + اسمها المؤخر) دون توظيف صياغة الجملة الاسمية؛ لأن الصيغة الفعلية تدل على الحركة والتغير والتجدد وهذا ما يتناسب مع حدث ظهور الإمام المهدي (عج) فجاءت الصيغة الفعلية مُتآزرةً مع حراك حدث الظهور، أما الصيغة الاسمية تفيد الثبوت والاستقرار(8)، فالإمام المهدي لم يظهر بعد؛ أي أن الإخبار هنا دال على الحدوث مستقبلًا لا الثبوت؛ فالأمر لم يتم ولم يحصل بعد.

          فالإمام الحسين (عليه السلام) وظف الجملة في مكانها اللائق بها. وهذا الأسلوب التعبيري يؤشر على أن الإمام الحسين (عليه السلام) يستعمل بنية الكلمة في غاية الدقة والقصدية.

         وإلى هنا نمسك بعنان القلم، ونحسب أننا قد أوقفنا القارئ الكريم على النزر من جماليات الخطاب الحسيني، وما أكثر جمالياته، ولكن أكثر الناس لا يعرفون، ولو أنهم آمنوا بحقه واتقوا مخالفته لفتح الله عليهم بركات من السماء والأرض، ولكن جحدوا وكذبوا فأخذهم الله بما كانوا يكسبون.

   وفي الختام نقول:

      *** إن مقدرة الإمام الحسين (عليه السلام) البيانية غنية بوسائل الإبلاغ التي يعمد إليها من دون إجهاد عقلي، ويقصد إليها قصدًا من أجل التفصيل والتقرير، فتجري التشبيهات والاستعارات والكنايات وكأنها من وحي الطبع والسليقة، ومن مقتضيات المفاهيم التي تختلج في الصدر والتي تقننها عقيدة قوية، كل ذلك صُبَّ في لغة مشحونة بالإيحاء.

     *** إن الإمام استعمل فنون البيان من أجل إحداث الجمال القولي إلى جانب الاتصال بالمتلقي في آنٍ واحد، ولو كانت غاية الإمام الاتصال دون الجمال لكانت اللغة مكشوفة غايتها الإعلام؛ لذلك لم يكتفِ الإمام بأن يعرض كلامه بشكل تقريري مباشر وإنما أرسله على سبيل المجاز ليزيد كلامه ألقًا وإشراقًا، وهذه من بصمات الجمال.

ــــــــــــــــ
1) أدب الإمام الحسين (عليه السلام) – قضاياه الفنية والموضوعية: لـ(موسى خابط عبود)، رسالة ماجستير ، جامعة بابل /كلية التربية ، 2008م: 64.
2) لسان العرب: لـ (ابن منظور): 246/ 8. مادة
(دعا).
3) تداعي الكلمات واكتساب القواعد النحوية في اللغة العربية لدى أطفال العراق: لـ (رنا زهير فاضل العزاوي)، أطروحة دكتوراه، جامعة بغداد /كلية التربية، 2004م : 4.
4) لمعة من بلاغة الحسين (عليه السلام): لـ (سماحة آية الله السيد مصطفى الموسوي الاعتماد)، تح: (محمد حسين اعتماد الموسوي)، (د. ت): 131.
5) ديوان زهير بن أبي سلمى: شرحه وقدَّم له: (الأستاذ علي فاعور): 111. وللمزيد من الاطلاع المعرفي في معنى البيت ينظر: شرح المعلقات السبع: لـ (لزوزني): 88.
6) (ذريع: سريع، فظيع: شديد وشنيع يجاوز الحد أو المقدار). ينظر: مختار الصحاح: لـ(محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي): 221، 507. مادة (ذرع) و(فظع).
7) لمعة من بلاغة الحسين (عليه السلام): 17.
8) لمعة من بلاغة الحسين (عليه السلام): 158.
9) هناك فرق بين قولك (هو يتعلم وهو متعلم. و(يتعلم) يدل على الحدوث والتجدد أي هو آخذ في سبيل التعلم بخلاف (متعلم) فإنه يدل على أن الأمر تم وثبت). التعبير القرآني: لـ ( د. فاضل صالح السامرائي): 23 – 24.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.