لا يمكن لأي باحث أن يستعرض مساحة كلام الإمام الحسين (عليه السلام) بأكملها، ولا يمكن لأي قارئ متطور أن يقرأ كلام الإمام الحسين (عليه السلام) من دون أن يتوقف مرات ومرات أمام البيان الساطع للبنى البلاغية والفكرية والثقافية في المتن اللغوي للخطاب؛
لأنَّ كلامَ الإمام الحسين (عليه السلام) حافلٌ بفنية القول؛ ولأنَّ الخطاب الحسيني يكتنز أكبر قدر ممكن من الطاقات الدلالية التي يندغم فيها الجانب الشكلي مع الجانب المضموني، الأمر الذي لم يجعل هذا الخطاب مجرد هيكلية بنائية مفرغة من أي قصد سوى التأطير. فقد (شغل الحديث الفني المرتبة العليا في أدب الإمام (عليه السلام) من حيث الكيفية الفنية في التعبير)(1).
وهنا نحاول الغوص في قاع كلام الإمام الحسين (عليه السلام) بصفته واقعة أدبية وثقافية لها نسقها البلاغي الخاص سعياً إلى وصف وتحليل تلك الواقعة للخلوص إلى التشخيص والفهم، وذلك من خلال التناول التحليلي لأقطاب البيان الرئيسة كي نستطيع أن نضيف إلى فهم الخطاب الحسيني الكثيرَ مما هو مُجْدٍ وفاعلٍ بشكلٍ لا نستطيع أن نحققه بالوقوف الدائم عند الوصف السطحي المجرَّد والأحكام العائمة المفتقرة إلى برهان الخطاب والتجربة الكلامية المتحققة، وبشكلٍ يجعل الطموح إلى الأفضل مُسوِّغاً. كاشفين عن دقائق مكنونة في باطن الخطاب ـ بنيته العميقة ـ بلا تحيز لباني الخطاب، أو تجنٍّ عليه، انطلاقاً من مبدأ إعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه بلا زيادة أو نقصان، باعتبار ذلك مطمحاً علمياً تسعى إليه الحركة العلمية في العالم بخطواتٍ دؤوبة، ونسأل الله التسديد والتأييد لتحقيق هذا الهدف.
لكلمات الإمام الحسين (عليه السلام) البيانية طاقاتٌ إيحائية خالدة بخلود الدين الإسلامي، ينشدُّ لها ذهن المتلقي حتى تورِّث عنده تداعيات، والتداعيات تعود في أصلها اللغوي إلى الفعل (تداعى) يُقال: (تَداعَى الكثيب من الرمل إذا هِيلَ فانْهالَ. وفي الحديث: كَمَثَلِ الجَسدَ إذا اشْتَكَى بعضهُ تَداعَى سائرهُ بالسَّهَر والحُمَّى كأَن بعضه دعا بعضاً… ، وتَداعَى عليه العدوّ من كل جانب: أَقْبَلَ … وتَداعَت القبائلُ على بني فلان إذا تأَلَّبوا ودعا بعضهم بعضاً إلى التَّناصُر عليهم . وفي الحديث: تداعتْ عليكم الأمم أي اجتمعوا ودعا بعضهم بعضًا …)(2)،
نفهم من ذلك أن التداعي هو الآثار المترتبة من شيء ما أو حدث ما، أو اللاحقة له، أو التابعة له، أما في اصطلاح النقد الأدبي الحديث هي الخواطر التي تردُ ذهن المتلقي، والناتجة من إيحاءات الخطاب سواء أكانت تلك الخواطر حسية أم تجريدية، أي ما يستحضره المتلقي في خياله جراء مواجهة الخطاب الأدبي الموحي. فمؤلف اللغة الأدبية يبثُّ ببلاغة البيان دوافعَه الفكرية وهواجسَه النفسية؛ إذ لا يقتصر على تقاليد فنية يطيعها.
والتداعي لا يقتصر على توارد الخواطر أو الأفكار بل حتى توارد الكلمات (ويعد تداعي الكلمات وسيلة مهمة للتعرف على قوى الترابط بين الكلمات، إذ إن هناك تجاذب أو تنافر فيما بينها، بمعنى آخر أن ورود إحداها على اللسان ينبئ بظهور قرينتها من بعدها، فإذا سمع على سبيل المثال شخصًا يقول (آناء الليل) فإن احتمال سماعه يضيف (أطراف النهار) ترد بشكل أكبر كونهما عبارتين متلازمتين)(3)، و هكذا.
ولسنا هنا بصدد الوقوف طويلاً عند إشكالية مصطلح التداعيات أو مناقشته، بل بصدد رؤية تجلياته في كلام الإمام الحسين (عليه السلام).
1) تداعيات المتلقي من التشبيه:
في يوم ما (قال رجل: إن المعروف إذا أُسدي إلى غير أهله ضاع. فقال (عليه السلام): ليس كذلك، ولكن تكون الصنيعةُ مثلَ وابلِ المطرِ، تصيب البَرَّ و الفاجرَ)(4).
أخرج الإمام ما لا تقع عليه الحاسة – فعل المعروف مع غير أهله -إلى ما تقع عليه الحاسة – وابل المطر – معنوي حسي.
والحديث يتطلب نوعاً من التأمل والتفكر لأنه حديث حكمة مطعمة بفنية التشبيه البلاغية، وهو يحمل قدراً من الضبابية الشفافة؛ لأنه حديثٌ فنيٌّ، وفي الحديث الفني لا بد أن يعيش المتلقي تجربة الخطاب كي يميط اللثام عن الدلالة التي تحقق الإمتاع الدلالي والجمالي.
في حقيقة الأمر، إن أول ما يتداعى في ذهن المتلقي عند سماعه قول الرجل البيتُ الشعري المشهور لزهير بن أبي سلمى(5):
ومن يجعل المعروفَ في غير أهلِهِ يكــن حمــدُهُ ذمــاً عليــه وينــدمِ