لعل الدليل على أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كان قد كتب تفسيرًا وشرحًا للقرآن الكريم هو احتجاجه على الزنديق من أنه أتى (بالكتاب كَمُلًا مشتملًا على التأويل والتنزيل، والمحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، لم يسقط منه حرف ألف ولا لام…)(1)، وكذا احتجاجه على جماعة من المهاجرين والأنصار بالقول: (يا طلحة إن كل آية أنزلها الله تعالى على محمد (صلى الله عليه وآله) عندي بإملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخط يدي، وتأويل كل آية أنزلها الله تعالى على محمد (صلى الله عليه وآله) وكل حلالٍ، أو حرامٍ، أو حدٍّ أو حُكمٍ، أو شيءٍ تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة، فهو عندي مكتوبٌ بإملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخط يدي، حتى أرش الخدش …)(2).
وقد اشتهر بالتفسير من الصحابة أربعة لا خامس لهم وهم: علي بن أبي طالب (عليه السلام) – وكان أعلمهم ورئيسهم -، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، وعبد الله بن عباس – وكان أصغرهم وأوسع باعاً في التفسير – (3).
أدلة وجود التفسير
ومن الأدلة أيضاً على تأليفه التفسير الذي غُيّب، هو أن أول عمل قام به بعد وفاة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) – وهو ما أوصاه به (صلى الله عليه وآله) – هو جمعه القرآن الكريم وترتيبه له بحسب النزول فضلاً عن معلومات فريدة عن النزول والتفسير والتأويل الذي تحتاجه الأمة الإسلامية، وكان قد عرضه على الخليفة الأول فقال: لا حاجة لنا به فأشار الإمام (عليه السلام) إلى أنهم سوف لا يحصلون عليه بعد ذلك اليوم(4)،
كما يتضح من الرواية الآتية: (لما رأى علي (عليه السلام) غدرهم وقلة وفائهم لزم بيته وأقبل على القرآن يؤلفه ويجمعه، فلم يخرج حتى جمعه كله فكتبه على تنزيله والناسخ والمنسوخ، فبعث إليه أبو بكر أن اخرج فبايع، فبعث إليه إني مشغول فقد آليتُ بيمين أن لا أرتدي برداء إلا للصلوات حتى أؤلف القرآن وأجمعه، فجمعه في ثوب وختمه ثم خرج إلى الناس وهم مجتمعون مع أبي بكر في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) فنادى (عليه السلام) بأعلى صوته: أيها الناس إني لم أزل منذ قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) مشغولًا بغسله ثم بالقرآن، فلم ينزل الله على نبيه آية من القرآن إلا وقد جمعتها كلها في هذا الثواب، وليست منه آية إلا وقد أقرأنيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلمني تأويلها.
فقالوا: لا حاجة لنا به عندنا مثله)(5).
وترد في كتب التاريخ والسيرة عبارة (مصحف علي) و(مصحف أُبي بن كعب) و(مصحف ابن مسعود)(6)، وقد توهَّم بعض الدارسين أنّ ذلك دليل على تحريف القرآن، وأنَّ مصحف علي (عليه السلام) فيه آيات غير الآيات الموجودة في مصاحف الآخرين.
والصحيح أنَّ مصحف علي (عليه السلام) هو نفس المصحف الذي جمعه ابن كعب وابن مسعود وغيرهم، ولكن الاختلاف هو في التأويل والتفسير، وقد ذكر السيد أبو القاسم الخوئي (قدس سره) مجموعة من الروايات حول المصحف الذي جمعه أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهو يختلف عن بقية المصاحف فالزيادات الموجودة عليه هي شروح للنص القرآني،
وقد عقّب السيد الخوئي (قدس سره) هذه الروايات بالقول: (إن وجود مصحف لأمير المؤمنين (عليه السلام) يغاير القرآن الموجود في ترتيب السور مما لا ينبغي الشك فيه، وتسالم العلماء الأعلام على وجوده أغنانا عن التكلف لإثباته، كما أن اشتمال قرآنه (عليه السلام) على زيادات ليست في القرآن الموجود، وإن كان صحيحا إلا أنه لا دلالة في ذلك على أن هذه الزيادات كانت من القرآن، وقد أسقطت منه بالتحريف، بل الصحيح أن تلك الزيادات كانت تفسيرًا بعنوان التأويل، وما يؤول إليه الكلام، أو بعنوان التنزيل من الله شرحًا للمراد)(7)،
وفي الرواية الآتية: (وقد كان بالمشهد الشريف الغروي مصحف في ثلاث مجلدات بخط أمير المؤمنين علي (عليه السلام) احترق حين احترق المشهد سنة خمس وخمسين وسبعمائة، يقال إنه كان في آخره: وكتب علي بن أبي طالب)(8).
وكان من تغييبهم لعلمه بالتفسير موقف الخلفاء الثلاثة الموحد من منعهم إياه من تفسير القرآن بحرقهم للمصاحف المفسّرة ففي هذه المصاحف حواش ٍ تفسيرية للقرآن الكريم كان الصحابة الأوائل قد دونوها من أقوال الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) فمثلاً في تفسير آية الولاية وإكمال الدين وآية التبليغ، وقوله: (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ)(الأحزاب:25) بيّن أنها نزلت في علي (عليه السلام)، وقد ذكِر ذلك في مصحف عبد الله بن مسعود، ومثل ذلك في بقية المصاحف،
ولما كان وجود المصاحف في متناول أيدي المسلمين وفي طياتها هذا التفسير الذي يفضح المغتصبين لتراث الرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) فقد أمر أبو بكر وعمر وعثمان بحرقها حين تصل إليه الخلافة فهذا النوع من التفسير حرّموه على المحدّثين؛ لأنه يسحب البساط من تحت أقدام المنافقين الذين اغتالوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وابنته فاطمة الزهراء (عليها السلام) مما هيأ ذلك لقتل أهل البيت وتصفيتهم وإبعادهم من الحكم فضلاً عن حرق السنة النبوية، لإبعادها عن القضايا التراثية والسياسية بقولهم (حسبنا كتاب الله)(9).
لكن علياً (عليه السلام) كان حريصاً – برغم ذلك كله – على نشر الحديث والتفسير بما سنحت له الفرصة في زمن الخلفاء الثلاثة، وفي خلافته، وكان هذا التفسير موضع اعتزاز الأئمة الطاهرين مما حمل بعض الحاقدين على الشيعة على الزعم بأنّ عندهم مصحفاً غير المصحف المعهود، واتخذوا ذلك وسيلة للطعن عليهم، والصحيح ليس كذلك؛ لأن مصحف الإمام مصحف حافل بتفسيره وأسباب نزوله وغير ذلك(10)،
وكان ابن الكواء كثير السؤال فسأله عن معنى آية: (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا) (الذاريات:1) التي كان الإمام يحدّث حينها فأجابه: الريح. قال: (فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا)؟ قال: السحاب. قال: (فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا)؟ قال: السفن. قال: (فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا)؟ قال: الملائكة. قال فمن الذين بدلوا نعمة الله كفراً؟ قال: منافقو قريش(11). وكان عمر بن الخطاب يهدد بدرته من يسأل عن معنى آية من القرآن، ويدل عليه سؤال أحد المسلمين عمر عن معنى: (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا) فيقول، وهو على المنبر: (كل هذا عرفناه فما الأب؟)(12).
وقد انبرى الباحث عبد الله علي أحمد الدقاق لإثبات هذا المصحف متوصلاً إلى أنه القرآن الذي قام بجمعه بوصية من الرسول (صلى الله عليه وآله) فقد باشر بالجمع بعد الوفاة بثلاثة أيام واستغرق فيه العدد نفسه بعد عرضه لروايات موثقة من الفريقين أحصاها بـ (24-31) رواية، ويشير إلى أن الإمام عرضه على الخلفاء لكنهم لم يؤيدوه فاحتفظ به وسلّمه إلى الإمام الحسن (عليه السلام)،
وهكذا ظل ينتقل هذا المصحف من إمام إلى إمام حتى وصل إلى الإمام المهدي (عج) الذي عند خروجه سيظهر بهذا المصحف العلوي متطرقاً إلى أسباب إقدام الإمام على جمع القرآن بمصحف واحد، من ذلك: تنفيذ وصية النبي (صلى الله عليه وآله) مشيراً إلى أن الزيادات الموجودة في المصحف إنما كانت من قبيل التفسير والتوضيح للقرآن الكريم، أما مدة كتابة المصحف فقد اختلف فيها فقيل ثلاثة أيام، وقيل سبعة أيام، وقيل ستة أشهر، وقد رجّح الباحث الثلاثة أيام بالأدلة القوية المعتبرة(13).
من أسباب تغييب التفسير
يعد تفسير أمير المؤمنين (عليه السلام) للقرآن الكريم من التفاسير التي غُيّبتْ، وأُسدل عليها الستار؛ لأسباب كثيرة منها: تغييب الهوية العلمية العلوية التي يتمتع بها أمير المؤمنين (عليه السلام) فهو باب مدينة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأعلم الخلائق بعده بالقرآن وغيره، فهو الرائد الأول لكل علم بل هو موسوعة معارف متنوعة فلم ينل هذه المنزلة السامية في التفسير وفي غيره من العلوم بانزوائه في دهاليز مكة أو المدينة، واعتزاله الناس بالانكباب على مطالعة القرآن والتبحر في محتواه، وإنما كان في قلب الأحداث التي رسمت معالم الأمة الإسلامية في عهدها الأول فلم يغفل عن القرآن، وهو يقاوم شظف العيش وقسوة الظروف، والقرآن في صدره وهو يحمل أعداء الدين بسيفه البتّار،
والقرآن أمام عينيه وهو يحكم البلاد إذ كان ملازماً للقرآن في الأحوال والظروف كلها حتى تجلى القرآن في حركاته وسكناته، ولم يجد الناس بداً من الرجوع إليه في معرفة معاني الآيات وتفسيرها، وقد شهد رجال التفسير عبر التاريخ كثرة ما روي عنه في تفسير القرآن، وشهدوا أيضاً بتفوقه في هذا الخصوص، وأنه إمامهم في التفسير(14).
وقد بادر أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وأصحابهم، وعلماؤنا بتفسير القرآن الكريم مثل تفسير الإمام الباقر (عليه السلام)، وتفسير أبي حمزة الثمالي، وتفسير التبيان للشيخ الطوسي، وتفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي، وغيرهم ممن عُنوا بالبحث عن أسرار القرآن، وكشف كنوزه، وبيان أحكامه، والعمل بها في مجالي الفهم والتطبيق(15).
وقد كان الدور الذي قام به أهل البيت (عليهم السلام) في تفسير القرآن الكريم دور تربية وتعليم وإرشاد إلى معالم التفسير فقد كانت تفاسيرهم المأثورة عنهم تفاسير نموذجية كانوا قد عرضوها على الأمة والعلماء ليتعرفوا إلى أساليب التفسير عنهم، وهذا يدل على حرصهم الشديد على تعليم الأمة كيفية تفسير القرآن الكريم، وإيقافهم على نكت وطرف من هذا الكلام البارع فهم ورثة الكتاب الإلهي الخالد، وحـــملته إلــى الناس بأمانة صادقة وأداء كريم(16).