اعتمد كثير من المفسرين على الروايات المنقولة في تفاسيرهم لآيات القرآن الكريم، وهذا الاتجاه لا يخلو من إشكالات كثيرة تتعلق بسند الرواية ومتنها وبالتالي مدى حجيتها، وخصوصًا حين يتعلق الأمر بالأحكام الشرعية والحلال والحرام، فكان لابد من الوقوف على هذا الاتجاه وما يكتنفه من إشكالات.
التفسير الروائي عن المعصوم حجة بلا شك والأدلة على ذلك كثيرة، منها:
1- قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(النحل:44)، وهذا تصريح بحجية بيان النبي (صلى الله عليه وآله) للقرآن الكريم.
2- حديث الثقلين: روى الكليني بسنده عن الرسول (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (إني قد تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدي ما إن تمسكتم بهما: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإن اللطيف الخبير قد عهد إلي أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض)(1). وهو حديثٌ متواترٌ(2)، يُثبت حجية أقوال المعصومين (عليهم السلام)، بدلالة التلازم بين العترة والقرآن وإن التفريق بينهما لا يعصم من الضلال.
3- إن النبي محمد (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام)، قاموا بتفسير القرآن قولًا وعملًا وهذه السيرة حُجة، لأن قول المعصوم وفعله وتقريره حجة، ومن هنا نشأت إشكاليتان في حجية التفسير الروائي، هما:
الأولى: هل يمكن أن نفسر القرآن بخبر الواحد ؟
الثانية:هل أقوال الصحابة والتابعين حجة كما هي أقوال المعصومين (عليهم السلام)؟
وللجواب على الإشكال الأول، نقول: اختلف العلماء في حجية هذا المنهج، فالبعض جعله منحصراً بالروايات القطعية كالطوسي والطباطبائي(3)، والبعض وسع الدائرة ليشمل الأخبار الضنية كخبر الواحد كالزركشي والخوئي(4).
أما الإشكال الثاني فيجيب عنه السيد الطباطبائي عند التفسير للآية 44 من سورة النحل بقوله: (في الآية دلالة على حجية قول النبي (صلى الله عليه وآله) في بيان الآيات القرآنية، وأما ما ذكره بعضهم أن ذلك في غير النص والظاهر من المتشابهات أو فيما يرجع إلى اسرار كلام الله وما فيه من التأويل فمما لا ينبغي أن يصغى إليه.
هذا في نفس بيانه (صلى الله عليه وآله) ويلحق به بيان أهل بيته لحديث الثقلين المتواتر وغيره، وأما سائر الأمة من الصحابة أو التابعين أو العلماء فلا حجية لبيانهم، لعدم شمول الآية وعدم نص معتمد عليه يعطى حجية بيانهم على الإطلاق)(5).
نعم يمكن الأخذ بقول الصحابي والتابعي في المسائل اللغوية مع افتراض اطلاعهم على لغة العرب، وفي مسائل أسباب النزول إذا شهد الصحابي الحادثة وكان ثقة، أما أقوالهم الشخصية الاجتهادية في التفسير فلا يختلف حالهم عن حال بقية المفسرين(6).
ثانيًا: موقف الاتجاهات التفسيرية من التفسير بالرواية:
عند البحث عن موقف المفسرين من التعامل مع الرواية نجد أن هناك أربعة اتجاهات هي:
1- الاتجاه الرافض للاعتماد على الرواية في التفسير، ويرى استقلال القرآن وعدم احتياجه إلى الرواية، لأنّه نزل بلسان عربي مبين(7)، وهذا الاتجاه يتعارض مع قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)، ويتعارض مع حديث الثقلين الذي يفترض أن اللجوء إلى أحدهما دون الاّخر لا يعصم من الضلال.
2- الاتجاه الرافض للتفسير بغير الرواية، ومن هؤلاء الإخبارية، فقالوا بعدم جواز تفسير القران إلّا في ضوء الروايات(8)، محتجين بقول: (إنما يعرف القرآن من خوطب به)(9)، فغير المعصوم عاجز عن الإحاطة بتفسير القرآن.
ويرد عليه:
أ- أن هذا الرأي يتعارض مع حديث الثقلين.
ب- إن التفسير الروائي لا يمكن إن يكون منهجًا مستقلًا في التفسير، لكثرة الإشكاليات على الروايات التفسيرية، ولعدم وجود روايات تفسير كل آيات القرآن.
ج- الإحاطة بتمام المراد الإلهي وإن كانت منحصرة في المعصوم إلّا أن ذلك لا يمنع تفسير القرآن ومقاربة مراد المولى، وإلّا لكانت الدعوة للتدبر والتفكر في آيات القرآن لغوًا حاشاه تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا.
3-الاتجاه المعتدل: الذي يجعل من الرواية وسيلة وقرينة لتفسير آيات القرآن الكريم(10).
إشكاليات التفسير الروائي:
الروايات التفسيرية كغيرها من الروايات فيها من الإشكاليات السندية والمتنية الكثير، ومن أهم تلك الإشكاليات:
أولًا- ضعف السند:
المشكلة الأولى التي تواجه التفسير الروائي هي ضعف سند الأحاديث المفسرة للقرآن الكريم، والضعف قد ينشأ من حذف السند أساسًا أو بسبب وجود مجاهيل في السند أو وجود ضعاف أو وضاعين(11).
والأكثر من ذلك أن هناك مصادر تفسيرية لم تثبت صحة انتسابها إلى أصحابها، كالتفسير المنسوب للإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، والذي هو من إملاء أبي يعقوب يوسف بن محمد بن زياد، وأبي الحسن علي بن محمد بن سيار، ورواه عنهما أبو الحسن محمد بن القاسم الخطيب المعروف بالمفسر الأسترآبادي، وهؤلاء الثلاثة مجاهيل(12).
وتفسير القمي الذي ينسب إلى علي بن إبراهيم القمي، فإن بعضهم يرى انتسابه إلى ابن أبي الجارود، وبعضهم الآخر يرى أن بعضه للقمي وبعضه لغيره(13).
يقول الشيخ محمد باقر الإيرواني: (إن القمي وإن كان له كتاب باسم التفسير ولا يمكن التشكيك في ذلك باعتبار أن النجاشي والطوسي قد نصا على وجود التفسير المذكور وذكرا إليه طريقًا صحيحًا، ولكننا نشكك في كون التفسير المذكور المتداول اليوم هو نفس تفسير القمي، ونحتمل عدم كونه للقمي رأسًا أو لا أقل بعضه للقمي والبعض الآخر قد دس فيه)(14).
كما أن بعض أصحاب التفاسير الروائية اتهموا بالوضع أو التدليس أو الجهالة ونحو ذلك كالضحاك بن مزاحم، وإسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير، ومحمد بن السائب الكلبي، ومقاتل بن سليمان، ومحمد بن مروان السدي الصغير، وفرات الكوفي وابن يسّار، وغيرهم(15).
ثانياً – كثرة الأحاديث الموضوعة:
من الإشكاليات التي تلازم الحديث الشريف في مختلف المجالات وفي مجال التفسير خصوصًا، هي إشكاليات الوضع والدس، وكانت بداية الوضع في صدر الإسلام، يقول الذهبي: (مبدأ ظهور الوضع في سنة إحدى وأربعين من الهجرة)(16). وقد ذكر العلماء عدة أسباب لوضع الأحاديث في كتب التفسير من أهمها:
1- إفساد الدين وإيقاع الخلاف والافتراق بين المسلمين: فقد نقل عن حماد بن زياد قوله: (وضعت الزنادقة على رسول الله (صلى الله عليه وآله) أربعة عشر ألف حديث)(17).
2- الوضع لنصرة مذهب معين: كثير من المذاهب المبتدعة وأصحاب الرأي تضع أحاديث لنصرة مذهبها، خصوصًا وأن الآيات المتشابهة فيها من القابلية للتأويل والتوجيه بحسب ما يريد الذين في قلوبهم زيغ.
فقد استدل المجسمة وأصحاب الظاهر في تفسيرهم لقوله: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ)(القلم: 42)، بالحديث الذي أخرجه البخاري عن أبي سعيد عن النبي (صلى الله عليه وآله):
(يوم يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقًا واحدًا)(18)، مع أن الساق كناية عن الكرب والشدة(19).
3- الترغيب في قراءة القرآن: يبدو أن أكثر روايات فضائل السور من الروايات الموضوعة، وضعت لترغيب الناس بقراءة القرآن، فقد روى ابن الجوزي بسنده عن أبي عمار المروزي قال: (قيل لأبي عصمة نوح ابن أبي مريم: من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة وليس عند أصحاب عكرمة هذا! فقال: إني رأيت الناس أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي ابن إسحاق فوضعت هذا الحديث حسبة. وقد حكى مؤمل بن إسماعيل أن رجلًا وضع في فضائل القرآن حديثًا طويلًا)(20).
ثالثَا ـ الإسرائيليات في التفسير:
الإسرائيليات في اصطلاح أهل التفسير: كل ما تطرق للتفسير من أساطير قديمة، منسوبة في أصل روايتها إلى مصدر يهودي أو نصراني أو غيرهما(21).
بل توسع بعضهم في تعريف الإسرائيليات فجعل منها كل ما هو مدسوس في التفسير من قبل أعداء الإسلام(22).
وهي نوع وضعٍ على الرسول (صلى الله عليه وآله)، وإنما أطلق علماء التفسير والحديث لفظ الإسرائيليات على كل ذلك من باب التغليب للون اليهودي على غيره؛ لأن غالب ما يروى من هذه الخرافات والأباطيل يرجع إلى مصدر يهودي(23).
وقد تنبه النبي محمد (صلى الله عليه وآله) إلى خطر تلك الروايات فنهى عن الأخذ بها، فقد أخرج أحمد في مسنده:
(عن جابر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب أتى النبي (صلى الله عليه وآله) بكتاب أصابه من بعض أهل الكتب فقرأه النبي (صلى الله عليه وآله) فغضب فقال: أمتهوِّكون فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى (عليه السلام) كان حيًا ما وسعه الّا أن يتبعني)(24).
قال الذهبي: (بل لا أكون مبالغًا ولا متجاوزًا حد الصدق إن قلت أن كتب التفسير كلها انزلق مؤلفوها إلى ذكر بعض الإسرائيليات، وإن كان يتفاوت قلة وكثرة وتعقيبًا عليها وسكوتًا عنها)(25).
وقال العلامة الطباطبائي: (إن انسراب الإسرائيليات وما يلحق بها من الموضوعات والمدسوسات بين رواياتنا لا سبيل إلى إنكاره ولا حجية في خبر لا يؤمن فيه الدس والوضع)(26).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1) الكافي، الكليني :2 /415. 2) ينظر: حديث الثقلين للسيد علي الحسيني الميلاني:20. 3) ينظر: التبيان للطوسي: 1/6، ينظر: الميزان :12/262 . 4) ينظر: البرهان في علوم القرآن: 2/ 156، ينظر: البيان/الخوئي: 398. 5) الميزان في تفسير القرآن/العلامة الطباطبائي: 12 /261. 6) ينظر: دروس المناهج والاتجاهات التفسيرية للقرآن، محمد علي الرضائي الأصفهاني:86. 7) المصدر السابق :79. 8) ينظر: دروس المناهج والاتجاهات التفسيرية للقرآن: 81. 9) الكافي/الكليني: 8/12. 10) ينظر: دروس المناهج والاتجاهات التفسيرية للقرآن: 83. 11) ينظر: التفسير الأثري عند المسلمين/حيدر حب الله: 42. 12) ينظر: التمهيد محمد هادي معرفة: 9/446. 13) ينظر: التفسير الأثري عند المسلمين: 24- 25. 14) دروس تمهيدية في القواعد الرجالية: 174. 15) ينظر: التفسير الأثري عند المسلمين: 42. 16) التفسير والمفسرون/الذهبي:1/116. 17) 17ـ الموضوعات/ابن الجوزي: 1/ 38. 18) صحيح البخاري: 6 / 72. 19) مجاز القرآن/معمر بن المثنى التيمي: 2/266. 20) الموضوعات/ابن الجوزي: 1/ 41. 21) ينظر: التفسير والمفسرون بثوبه القشيب، محمد هادي معرفة:2 / 594. 22) ينظر: منهج النقد في التفسير: د. إحسان الأمين:83. 23) ينظر: المصدر السابق. 24) مسند أحمد: 3 /387. 25) الإسرائيليات في التفسير والحديث، الذهبي: 119. 26) الميزان: 12/112.