Take a fresh look at your lifestyle.

دلالة الجند والجنود في القرآن الكريم

0 1٬961

       ورد في معنى اللفظ هذا الجذر اللغوي: (الجيم والنون والدال: يدلُّ على التجمع والنُّصرة، يقال: هم جندُهُ، أي أعوانُه وأنصارُه)(1) ويقال فلان جنَّد الجنود. والجنود جمع جندي، وهو بمعنى المجتمع القوي من كل شيء. وسمّي العسكر جنداً، لتزاحم الأفراد فيه وقوتهم(2).
وقد ذكر لفظ (جند وجنود) كثيراً في القرآن الكريم. إذ وصل عدد مواضعه في التنزيل العزيز (29) موضعاً. ويلحظ في سياق النص القرآني الذي ورد فيه لفظ (الجند) أن الله سبحانه وتعالى كان دائم الاستهزاء بجند الكفار الذي يعد لمحاربة الله ورسوله، قال تعالى: (جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ) (ص الآية11). أي ما هم إلا جيش من الكفار المتحزبين على رسول الله مهزوم معسكرهم عما قريب فلا تبال يا رسول الله بما يقولون(3).

ولا يخفى ما أفادته (ما) هنا من جمال في تناسق الآية. وما زادته على قوة معناها، إذا أفادت غاية الاستهزاء بهذا الجند وما اعتقدوه في أنفسهم بأنهم قادرون على الغلبة والنصرة في مواجهة تدبير الله وحكمته المتعالية. وقال الله تعالى في قصة موسى(عليه السلام) ولحاق فرعون وجنوده به: (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) (الدخان الآية24) فلما أصرًّ فرعون على اللحاق بالنبي موسى واستكبر في نفسه وعلا علواً كبيراً حتى إنه خرج بنفسه لمحاربة الله ورسوله، وكاد أن يصل إلى جند الحق، ولكن الله بين لرسوله أن هذا التدبير منه عزًّ وجل إنما هو استدراج لجند الأعداء ليصلوا إلى نهايتهم المخزية وتنكسر شوكتهم، فأمره بترك البحر مفتوحاً على حاله وأكد له غرق فرعون وجنوده فيه، يستفاد ذلك من التأكيد بـ(إنَّ) المسندة إلى ضميرهم. ومن صيغة اسم المفعول (مغرقون) واستهزأ الله بكفار مكة فخاطبهم: (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) (الملك الآية 20).
فاستنكر عليهم (جلًّ وعلا) ظنَّهم أنَّ هذا الجند الذي جمعوه واعتقدوه بقدرته على نصرتهم قادر على نصرهم إن أراد الله بهم الهزيمة وأرسل عليهم عذابه.
ويتضح من سياق الآية الكريمة شِدّة تحدي الله سبحانه جيش المشركين، لذا جيء بـ (ها) التنبيه، زيادة في التحذير والتنبيه وهو ما يقتضيه المقام، إذ الكلام وارد في سياق التخويف من قدرة الله وبطشه، والمقام مقام ترهيب وإنذار وتحذير. وعبَّر عن ضعف هذا الجيش في مكان آخر، فقال: (حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدا) (مريم الآية 75) ويستفاد من صيغة اسم التفضيل والتمييز (أضعفُ جنداً) بأنّ جيش الكفار لا يملك قوة تذكر، فهو في غاية الضعف عند مواجهة المؤمنين الصابرين أو في يوم القيامة. وهو أهون شأناً على الله سبحانه لا كما قدروا لأنفسهم بأنهم (خيراً مكاناً وأحسن جنداً).
وفي مقابل استهزائه (عزَّ وجل) بجيش الكفار، رفع سبحانه شأن جنده المؤمنين، فقال: (وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) (الصافات الآية 173) ولا شك في أن الإتيان بصيغ التأكيد (إنَّ واللام والخبر المشتمل على مبتدأ وخبر) قد أفاد معنى أنّ الغلبة لجند الله ولمن تابعهم في الدنيا والآخرة. ولا يلزم من انهزامهم في بعض المشاهد مع الأعداء القدح في ذلك، لأن العاقبة تكون لهم لا محالة.
وثمًّة ملمح دلالي يلحظ في آيتين قرآنيتين ورد فيهما لفظ (جنود). الأولى قوله تعالى: ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) (الفتح الآية 4).
والثانية قوله تعالى: (وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا* وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (الفتح الآية 6-7).
ولعلَّ السر في اختلاف التعبير أنَّ الكلام في الآية الأولى متصل بإنزال السكينة وازدياد المؤمنين إيماناً، فقال تعالى: (عليماً حكيماً)، إذا الموضع موضع علم وحكمة.
وأما الآية الثانية فهي في موضع عذاب وعقوبات، فقال تعالى: (عزيزاً حكيماً)، إذ المقام مقام عزة وغلبة وحكم(4).
وجاء لفظ (الجنود) مكرراً في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا) (الأحزاب الآية 9).
ونلحظ في سياق الآية أنّ لفظ (جنود) الأولى جاءت نكرة تامة في حالة رفع، دلالة على كثرة جنود الأحزاب الذين تجمعوا من قبائل متعددة وساندهم اليهود لغزو المدينة يوم الخندق، فالتذكير هنا يصور هذا الجمع الكبير المتكالب المستعد للعدوان.
وأنَّ لفظ (جنوداً) الثانية جاءت نكرة موصوفة بالجملة الفعلية (لم تروها) في حالة
نصب، دلالة على التعمية والاختفاء، لأنها تخص ملائكة الرحمن الذين نزلوا لنصرة المؤمنين(5). وفي ذلك دلالة نفسية كبيرة عند المؤمنين وعند أعدائهم، فهي عند المؤمنين تدل على المدد الرباني في أوقات الشدة. أما عند المشركين والمنافقين فإنها تعني الرهبة والشدة، ولاسيما أن الآية سبقت لفظ (جنوداً) بلفظ (ريحاً) النكرة الدالة على الشدة والدمار والرعب. فتهيّأ بهذا جو مشتعل رعباًَ وضجيجاً وجَلَبة، وفي وسطٍ كهذا تنزل الملائكة، ويظهر فعلها في مطاردة الأحزاب وقتلهم .

نشرت في العدد 37


(1) مقاييس اللغة: لابن فارس 1/ 485 (جند).
(2) ينظر: الصحاح للجوهري 1/ 457 (جند).
(3) ينظر: الكشاف للزمخشري 4/ 75.
(4) ينظر: التعبير القرآني د. فاضل السامرائي 160ـ161.
(5) ينظر: البرهان في علوم القرآن للزركشي 3/ 127.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.