Take a fresh look at your lifestyle.

موقع الحوار في النص القرآني

0 673

د. علي المؤمن
المركز الإسلامي للدراسات المستقبلية/ بيروت

 

               توفر البحوث القرآنية لكاتبها ـ عادة ـ فرصة رائعة لتتحرك تلاوته المعتادة للقرآن الكريم إلى حوار عميق مع كتاب الله تعالى، ذكراً وتأملاً وحديثاً واستنطاقاً وتساؤلاً.
وأول ما يستجد للباحث حينها، عظمة الحوار مع القرآن الكريم وحلاوته وتأثيره. إذ أن كلام الله تعالى يستجيب لتأملات الباحث وذكره، ويُجيب على كل تساؤلاته، الأمر الذي يحوّل الموضوع من بحث في (الحوار في القرآن) إلى (حوار عقلي ووجداني مع القرآن).

الحوار عنوان الرسالة
يتخذ الحوار موقعاً محورياً في النص القرآني، إذ أكد عليه القرآن الكريم وأولاه أهمية بالغة وطرحهُ في أشكال ومضامين متنوعة، حتى لا تكاد تخلو سورة من إحدى صور الحوار، التي طرح القرآن من خلالها مقومات الحوار وشروطه وآدابه وتأثيره، وطرح إلى جانبها مئات النماذج التطبيقيّة التي مارست الحوار في الواقع.

من خلال تربية الإنسان على الحوار، يعمل القرآن على توظيف فطرة الجدل في الإنسان لصالح الأهداف الربانية لوجود الإنسان على الأرض فالإنسان مجبول على الجدل (وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) (الكهف: 54) من منطق أفقه الذي ينفتح فطرياً على الكسب المعرفي، والاكتشاف والتحرك في دائرة الأشياء والعوالم المحيطة به فضلاً عن الاندفاع باتجاه التكامل والتعاون والتطوير في كل مجالات الحياة والسعي للتوصل إلى إجابات لتساؤلاته وما يعلق في عقله ووجدانه من قضايا ومشاكل تبحث عن الحل.
هذا الأفق يجعل الإنسان في حوار دائم مع النفس ومع الخلق ومع الخالق. وقد تتراجع أو تسكن أو تتطور حالة الحوار وفقاً للعوامل التي تدخل في صناعة الظروف، ومن هُنا نرى ـ أحياناً ـ أن الصراع السلبي يحل محل الحوار ليستحيل إلى عدوان وعنف أو استكبار وتجبر وفي ظل ذلك تُصادر الكلمة ويقمع الرأي وتقابل الدعوة إلى الخير بالسخرية والاتهام واللغو وتغلق مساحات التفاهم والاشتراك.

أبرز القرآن الكريم حادثين تأسيسيين في مسيرة الإنسانية وكان فيهما الحوار سيّد الموقف، الأول: يمثل بداية مسيرة خلق الإنسان (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) ( البقرة: 30) برغم أن الله تعالى لا يحتاج إلى الحوار مع الملائكة أو اسمزاج رأيهم، ولكنه أراد أن يربي الإنسان على حالة الحوار.

والثاني بدأت فيه مسيرة الرسالة الخالدة، إذ يسبق تلاوة السورة الكريمة (اقرأ..) حوار مُدهش كان يقول الرسول الأعظم فيه: (وماذا أقرأ؟). ولاشك أن السر الذي أودعه الله تعالى في نعمة الحوار التي منّ بها على الكون. هو سرّ بالغ الخطورة وكشفهُ الله تعالى لعباده حين بيّن لهُم تطبيقات الحوار ومدخليته في حركة الكون، باعتباره من مقوماتها الطبيعيّة، وهو ما سنقف عليه من خلال عرض بعض أشكال الحوار ومضامينه.

تجليات الحوار قُرآنياً
يأخذ الحوار ـ أحياناً ـ شكل المحادثة كما في قوله تعالى: (وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا) ( المجادلة: 1) أو معنى الجدال أحياناً أخرى (قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا) ( هـود: 32) وذلك مع الأخذ بنظر الاعتبار أن للجدال في القرآن معنيين. أحدهما إيجابي: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ( النحل: 125)، والآخر سلبي: (فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ) ( البقرة: 197).

كما نجد للحوار أيضاً شكل الوحي، بلونيه الإيجابي: (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) ( النجم: 10)، والسلبي: (شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) ( الأنعام: 112) وتعطى الشورى مضمون الحوار في قوله تعالى: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) (آل عُمران: 159) بما ينطوي على ذلك من استماع للرأي الآخر واحترام للاختلافات والاجتهادات.

وكذلك هناك الحوار بمعنى الاحتجاج: (وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ) ( الأنعام: 80)، وبمعنى الدعوة إلى الله والخير والمعروف: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ) ( فُصّلت: 23)، والاستفتاء أيضاً: (قَالَتْ: يَا أَيُّهَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ) (النمل 32)، والنجوى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى) (المجادلة: 9)، وبمضمون ذكر الله تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ) (البقرة: 152)، وبمضمون التسبيح أيضاً: (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ) ( الرعد: 13).

وفي هذا الإطار يأخذ الحوار أحياناً شكل الشفاعة: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى) (الأنبياء: 28)، إذا يسأل الأنبياء والأوصياء الله تعالى أن يغفر لبعض المؤمنين ذنوبهم كما يأخذ كما يأخذ الحوار أحياناً أخرى شكل الموعظة أو البشارة والإنذار: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى) (سبأ: 46)، وكذلك بمعنى الشكر: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) (إبراهيم: 7)، وأيضاً بمعنى الاستغفار: (واستغفر لذنبك وسبّح بحمد ربك بالعشيّ والأبكار) (غافر: 55).

وكذلك الدعاء هو من أشكال الحوار: (دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ) (يونس: 22)، والسؤال أيضاً: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) (العنكبوت: 61)، والسؤال هُنا هو حوار، سواء كان بمعنى الطلب أو الاستفسار والاستفهام، وهناك أشكال ومضامين أخرى للحوار وردت في القرآن الكريم كالتفكر والتعقل والمحاسبة وأحياناً القول وغيرها .

نشرت في العدد 31

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.