أمي العزيزة، حتى لو لم يصدقني أحد، فإنك ستصدقينني، في أحضانك الدافئة نشأت وكبرت وتعلمت…
أنت علمتني الصدق، وأنت من علمني أن النجاة في الصدق، وأنت من جعلتني أمقت الكذب.
أريد يا أمي أن أخبرك بما وقع وجرى، لا أريد أن يصدقني الناس…الناس يصدقون ما يرون بأنفسهم.. هذا ليس مهمًا.
في ذلك اليوم جاءت مديرة المدرسة، وقالت: ورقة درجات الامتحان يوقعها الآباء فقط!
رفعت إصبعي وقلت: وإذا غاب الأب يا حضرة المديرة، ماذا نفعل؟
قالت: اصبري حتى يعود أبوك.. في كل الأحوال الأب وحده الذي يوقع الورقة!
سألت: والأم! هل يمكنها أن توقع على الورقة؟
المديرة نظرت اليَّ بعصبية، وقالت: كلامي واضح! ألا تفهمين؟!
زميلاتي ضحكن، وربما تصورن أنني بلهاء لا أفهم ما قالت المديرة.
لكن كيف أكون بلهاء ودرجاتي كلها عالية خلال ست سنين! لهذا قلت للمديرة: إنني أفهم جيدًا.. ولهذا سألتك.. أردت أن أخبرها أن أبي …لكني سكتُّ.. قلت لها: أبي مسافر!
نظرت المديرة إليَّ بغضب، ثم جرتني من المقعد ورمتني خارج الصف!
معلمتي لم تقل شيئًا، لم تدافع عني!
عندما عدت إلى البيت كنتُ حزينة، قلتِ لي: لماذا أنت حزينة؟ لم أقل شيئًا، لم أكن أريد إدخال الحزن على قلبك يا أمي!
كان قلبي كسيرًا…كسيرًا جدًا لدرجة لا ينفع فيها البكاء.. مع ذلك بكيت كثيرًا..
دخلت إلى غرفتي، اتجهت إلى الرف حيث توجد صورة أبي…أخذت الصورة، أخرجت ورقة الدرجات، قلت لأبي: انظر يا أبي إلى درجات ابنتك.. وقِّع يا أبي.. إن المدرسة لا تقبل سوى توقيع الأب…ألم تقل لي: إن الشهداء أحياء؟!
نعم يا أبي، كان بإمكاني أن أقول مثل بعض زميلاتي: لقد استشهد أبي…ذهب إلى جبهة الحرب ولم يعد.. لو كنت ميتًا لأخبرتهم، ولكنك شهيد .. لا أريد أن استعطف الآخرين بسبب تضحيتك!
لا أريد أن يكون احترامي لدى الآخرين بسبب دمائك القانية…دماؤك التي لوَّنت الأرض وسقت شجرة الكرامة والحرية.
من أجل هذا سعيت إلى أن يكون سلوكي جيدًا حتى لا تستدعي المدرسة أبي إذا ما حدثت مشكلة .. وبعدُ يكتشف الجميع أنني ابنة شهيد ..وبعدها يغضّون النظر عن كل أخطائي.. إن هذا لا يليق يا أبي بأبناء الشهداء.
نعم يا أمي، إنني لا أتذكر كل ما قلته لأبي .. كل ما أذكره إنني كنت أبكي.. كنت أبكي بمرارة والدموع تتساقط على وجه أبي!
بعد ذلك لا أدري ماذا حصل! هل غلبني النعاس، فنمتُ…لكنني شعرت أن نسائم مليئة بالعبير تدور في فضاء الغرفة… ورائحة الورد تزداد، لا أدري أي نوع من العطور.. نعم يا أمي هذا ما شعرت به…رائحة طيبة لم أشمها قبل ذلك.. رائحة تشبه رائحة الشقائق الحمراء، انفتحت النافذة ..
وظهرت غيمة بيضاء تتألق بنور شفاف ورأيت أبي يرتدي حلّة بيضاء.. وجهه كالقمر، وكانت رقبته حيث أصابته الشظية أكثر سطوعًا.. كان وجهه يسطع بنور شفاف .. وكان رأسه معصوبًا بشريط أحمر لونه يشبه الشقائق الحمراء وكان مكتوبًا على الشريط: لبيك يا حسين!
ابتسم أبي وهو يقترب مني بهدوء كغيمة بيضاء تسطع بالنور، لم يكن يشبه الصورة.. أمسك بورقة الدرجات، وراح يقرأ درجاتي بفرح وسعادة، ثم أخرج قلمًا من داخل قميصه الأبيض! نفس القلم الذي كان يكتب به، ثم وقَّع أسفل الورقة.
وضع كفيه على وجهي وقبَّل جبهتي.. وأنا أيضًا قبّلته وملأت صدري من رائحته الطيبة.. أحسست بالطمأنينة تملأ قلبي.. عانقته وملأت صدري برائحة الورد الأحمر.
أراد أن يذهب تعلقت بحلته البيضاء، كانت أكثر نعومة من الحرير، قلت له:
ـ لا تذهب يا أبي … لا تتركنا وحدنا!
أخذ أبي يدي ووضعها بين كفّيه الدائفتين، وقال:
ـ أنتم لست وحيدين يا مريم.. إن الله معكم وهو يرعاكم، وعندما تكونون مع الله فأنتم لستم وحيدين.. ثم إنني لا أذهب بعيدًا.. أنا قريب منكم، اسألي أمك! هل مرَّ يوم ولم نتحدث معًا؟
قلت لأبي:
ـ فكِّر في أختي زهراء، إنها ما تزال صغيرة جدًا.. إنها تظن أنك سافرت وستعود تحمل لها الهدايا…كلّما رنَّ جرس الباب تقفز.. تتعجب كيف لا أقفز مثلها لفتح الباب! تصيح بفرح:
ـ عاد أبي! عاد أبي!
أمي تقول لها: أبوك لا يدق الجرس، معه مفتاح!
فتقول زهراء: ربما يحمل الكثير من الهدايا بحيث لا يستطيع أن يفتح الباب!
عندما قلت لأبي ذلك تجمعت الدموع في عينيه، وقال:
ـ أعرف ذلك يا مريم.
قلت لأبي:
ـ أشكرك يا أبي لأنك وقَّعت ورقة الدرجات.
لقد هدأ قلبي… ولكن ماذا أفعل مع قلب زهراء؟!
قال أبي: سيملأ الله قلبها بالطمأنينة والأمل..
قال أبي ذلك، ونهض كشيء شفاف مثل سحابة مضيئة.. فجأة انتبهت إلى نفسي، ورأيت مكان أبي خاليًا… ناديت:
بابا! بابا! ولكن كان قد مضى… فهاك يا أمي ورقة الدرجات.. وهاك رائحة أبي!!