الشيخ عبدالرزاق فرج الله الاسدي
عن أبي عبد الله الصادق(عليه السلام) قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (إن الله قال لموسى بن عمران لا تحسدن الناس على ما آتيتهم من فضل، ولا تمدن عينيك إلى ذلك، ولا تتبعه نفسك فإن الحاسد ساخط لنعمي، صاد لقسمي من الذي قسمت بين عبادي، ومن يك كذلك فلست منه وليس مني)(1).
الحسد هو:
انفعال نفسي عدواني أناني، يتحرك في نفس الحاسد تجاه نعمة لا يريدها للغير، فتتحرك في نفسه نزعة عدوانية تحاول أن تقوض كل ميزة من الميزات، سواء على مستوى الميزات المادية كالمال والقوة والجمال، أو الميزات المعنوية كالدين والعلم والجاه.
وهذا الانفعال هو حركة خطيرة في حياتنا الاجتماعية، قد تدفع بهؤلاء إلى إلغاء الوجود الإنساني وتقويضه أساساً من واقع الحياة.
وفي مقابل الحسد الغبطة، التي تعني: إنك إذا شاهدت ميزة من الميزات لدى إنسان ما، تمنيت أن يكون لك مثلها.
وهذا التمني أمر مشروع، لأن النعمة لدى الغير في إطار هذا التمني، سوف تصبح حافزاً على التحرك الإيجابي المشروع، والتصميم الذي يدعوك لأن تندفع جاداً لتحقيق ذلك في حياتك، من خلال سعيك وحركتك للالتحاق بذوي المواهب المادية والمعنوية.
ومن خلال ملاحظتنا للنصوص القرآنية التي ترتبط بموارد وقوع الحسد في النفس الإنسانية،
نجد أن الحسد يتحرك في النفس من خلال منطلقات:
1ـ من خلال المنطلق العنصري: فهناك من يحمله تعصبه لعنصره وعرقه التكويني، على محاولة إلغاء وجود الغير، ويحب أن ينفرد بالوجود، وأن يحترم هو على حساب الذوات الأخرى.
ولا يرغب أن تكون لمخلوق آخر قيمة وقدر أو موهبة يحترم من خلالها، لأنه يرى نفسه أشرف مخلوق على كل الإنسانية فضلاً عن المخلوقات الأخرى.
وهذا المنطلق، وهو الإغترار والاعتزاز بالمكون العنصري الناري، هو الذي حمل إبليس على الكبرياء وعصيان أمر الله عز وجل بالسجود لآدم (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)(2).
2ـ الحسد من منطلق الجزاء، فإن هناك من يريدون أن يستأثروا بالجزاء على العمل لأنفسهم دون غيرهم حتى في غير موضع الاستحقاق، ولا يرغبون أن يروا أحداً ينعم بعطاء الله وجزائه على عمله الصالح، فتراهم يحسدون الناس على ما يحصلون عليه من نتائج سعيهم.
وهذا المنطلق ـ كما حدثنا عنه القرآن ـ هو الذي حمل قابيل على قتل أخيه هابيل (…إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)(3)، إلى قوله تعالى: (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ)(4).
3ـ الحسد من منطلق العلم والمواهب العقلية، فإن هناك من الناس كلما ازداد من العلم شيئاً، ازداد لصاحبه حسداً.
فهو لا يحب أن يرى غيره ينعم بهذا الفضل ولا يتمتع بهذه المواهب، ليستحق على أساسها الاحترام والتقدير، (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ…)(5).
بل هناك من يسعى إلى محاربة العقول المبدعة، والسخرية بالمواهب المنتجة، والتحرك من أجل مصادرة جهودها، بل وإلغاء وجودها الإنساني من ساحة الواقع.
4ـ الحسد من منطلق العاطفة، فإن هناك من يريد أن يستأثر بحب الغير له دون غيره، ويريد للآخرين أن يكونوا مبعدين من قلوب الناس وعواطفهم، ليس لهم في نفوسهم موقع، وهكذا تجده يتحرك باتجاه زرع بذور العداء بين شخص وآخر ليستأثر هو بعلاقته ويمتلك عواطف الغير لنفسه.
وهذا المنطلق هو الذي حمل أخوة يوسف(عليه السلام) على الكيد له، ومحاولة التخلص من وجوده، ليحتلوا مكانه في نفس أبيهم يعقوب(عليه السلام) فحكى القرآن عنهم قولهم: (إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ)(6).
ولم يحب بعضهم أن يرى أخاه مقتولاً، فخفت عنده حدة هذه العقدة المرضية فحمله هذا الجزاء من العاطفة على القول: (…لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ)(7)، فتآمروا وأجمعوا أن يلقوه في غيابة الجب.
5ـ الحسد من منطلق الدين والعقيدة، فعلى مستوى الكفر، فإن هناك من يكفر بالله عز وجل، ويجحد وجوده أو يشرك به تعالى، فلا يكتفي بموقف التقاطع مع العقيدة الإسلامية لنفسه فحسب بل يحب أن يرى الناس كلهم كافرين، ولا يرضى لأحد أن يبقى على قناعته بهذه العقيدة، فتراه يتحرك باتجاه حرف الناس وردهم عن دينهم وعقيدتهم، (وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ…)(8)، (وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء)(9).
وعلى مستوى الإيمان بالله عز وجل، فإن هناك من الناس من يريد أن يحتكر شرف الرسالة والدين والإيمان لنفسه، ولا يحب أن يرى الناس قد آمنوا بالله عز وجل وأخلصوا له الدين، وهذا ما حمل المجتمعات الدينية التي كانت تلتزم برسالاتها، على الوقوف سلباً تجاه رسالة الرسول محمد(صلى الله عليه وآله) بدافع الاستئثار بشرف الرسالات السماوية، قال تعالى: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً)(10).
وأما العلاج الذي يقدمه الإسلام لهذا المرض الاجتماعي الخطير، فيتمثل في ثلاث نقاط:
الأولى:
لقد فتحت النصوص الإسلامية أمام الإنسان المؤمن باب المنافسة المشروعة مع الناس، وهو ما تحققه الغبطة التي تعتبر العلامة الفارقة لإنقاذ المؤمن من هذا المرض، وتعتبر العلامة الفارقة بينه وبين المنافق كما نستوحيه من حديث الإمام الصادق(عليه السلام): (المؤمن يغبط ولا يحسد والمنافق يحسد ولا يغبط).
فبما أن الغبطة تعني أن تتمنى أن يكون لك ما لأخيك من المواهب والنعم، لاشك أنك ستجعل من الغبطة حافزاً لك على منافسته، والسعي للالتحاق به للفوز في مواقع الخير والعطاء الإلهي على صعيدي الدنيا والآخرة.
فعندما فتح الله عز وجل أبواب نعمته وفضله على الناس، فقد دعا للاستباق نحو هذه النعمة، وتعهد أن يفيض الخير والعطاء لمن كرس جهده وبذل كل ما وسعه في السعي في سبيل تحصيلها: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير ٌ)(11)، (…وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)(12).
الثانية:
تعريف المؤمن بكيفية الاستفادة من عقيدته وإيمانه، في سبيل تربية مشاعره وأحاسيسه، من أجل بناء الرابطة بينه وبين أخيه المؤمن، قال الإمام الصادق(عليه السلام): (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره لها)(13).
فإن معنى كونك مؤمناً ـ كما نستوحيه من هذا النص ومن النص الأول في صدر الحديث ـ هو: أن تعتقد أن حسدك للآخرين سخط على نعم الله عليهم وصد لما قسم الله لهم، وهو القائل عز وجل: (…نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ)(14).
وعليك أن تنسجم مع إخوانك من واقع قلبك، وأن تذوب ذاتك في ذواتهم، وأن تعيش مباهجهم ومتاعبهم في واقع نفسك، فتفرح لفرحهم وتحزن لحزنهم، لأن الوتر الذي يربط بين المشاعر والأحاسيس، هو واحد لا يتعدد في خط الإيمان بالله والعمل على طاعته.
الثالثة:
تعريف المؤمن بجذور هذه المشكلة، من أجل اجتثاثها من نفسه، من خلال المنهج التربوي الأخلاقي الواسع، الذي أعد له موقفاً إحصائياً بالأسباب المرضية التي تكمن وراء هذه المشكلة.
هذا الموقف الإحصائي للأسباب الموجبة للحسد، من العجب بالنفس، إلى الكبر والشعور بالعظمة، إلى التشاؤم والتخوف من عدم إدراك الأهداف والغايات والوصول إلى هذه المصاف، إلى حب الرئاسة والتسلط على الغير، إلى لؤم النفس التي تدفعه لهذا الموقف السلبي تجاه الناس، بما تحمل للإنسانية من حقد وضغينة، وهو ما تكفل ببيانه وتفصيله التراث الأخلاقي الضخم، الذي تركه لنا أئمتنا(عليهم السلام) مما هو مستلهم من رسالة الإسلام وأدب القرآن الكريم >
——————————————————————————————————————–